وداعا محمد مواعدة.. تقديرا واعترافا
شيّع عصر الثلاثاء 17 ماي 2022 عدد من أفراد عائلته الصغيرة من الأقارب والموسّعة من أجيال حركة الديمقراطيين الاشتراكيين وبعض أصدقائه، المرحوم محمد مواعدة، إلى مثواه الأخير بمقبرة الجلاز.
ولد السياسي والمناضل الحقوقي والجامعي محمد مواعدة في 1938. وقد استطاع خلال 84 سنة من مسيرته أن يسجّل اسمه بارزا في تاريخ تونس المعاصر. فهو مسؤول جهوي سابق بالحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم زمن الرئيس الحبيب بورقيبة. وهو من “آباء الديمقراطية التونسية”. إذ كان إلى جانب المرحوم أحمد المستيري وثلة من المنشقين عن الحزب الحاكم نهاية السبعينات، من مؤسسي صحافة معارضة على غرار “الرأي” و”المستقبل”. كما كان من مؤسّسي الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان (1977). ومن مؤسسي حركة الديمقراطيين الاشتراكيين (1978) وثاني أمين عام لها بعد المؤسس أحمد المستيري.
عرفت مرحلة قيادة مواعدة لحركة الديمقراطيين الاشتراكيين تقلّبات لافتة في العلاقة بالسلطة بعد انقلاب 7 نوفمبر 1987. فمن تأييد كبير للرئيس زين العابدين بن علي بعد انسحاب المستيري، خاصة في مواجهة حركة النهضة التي تمّ حظرها وملاحقة قياداتها وأنصارها بعد انتخابات 1989. إلى رسائل نقدية حادة للسلطة بداية من سنة 1994 انتهت إلى سجن محمد مواعدة للمرة الأولى في أكتوبر 1995 بتهمة كيدية عنوانها “إقامة علاقات استخبارية مع عناصر في ليبيا”. وحُكم عليه في 1996 بـ11 سنة سجنا بتهمة «التعامل مع الخارج». ثم صدر بعد ذلك قرار بالإفراج المؤقّت عنه.
كان المرحوم محمد مواعدة أحد رموز المعارضة التونسية مطلع الألفية الجديدة. وشكل عنصر إزعاج للحكم بتصريحاته وكتاباته و”الأشرطة” التي كان يسجلها ويتم تداولها آنذاك سريا. وكان سفره إلى لندن وإمضاء بيان مشترك مع رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، وما تضمنه من نقد حاد لحكم بن علي، سببا في سجنه مرة اُخرى في 19 جوان 2002 بتهمة “إقامة علاقات مع حزب النهضة المحظور” آنذاك. كم أثار البيان جدالا هاما في الساحة التونسية. وبعد إطلاق سراحه واصل نشاطه في المعارضة قبل أن يتقارب مجددا مع السلطة قبيل الثورة. ثمّ لينحاز إلى الانتقال الديمقراطي بوضوح بعد 2011. وقد دوّن المرحوم بعض تفاصيل تقلّبات علاقته بالسلطة في كتابه الذي نشره سنة 2014 بعنوان ” قصتي مع بن علي أو في صناعة الطاغية”.
كان مرور المرحوم مواعدة بالتدريس لافتا. أستاذا بارزا للتعليم الثانوي للآداب واللغة العربية في مرحلة أولى، ثم الأستاذ المساعد بكلية الآداب بتونس. وقد استطاع أن يبني علاقات قوية بالمفكرين العرب البارزين وخاصة المرحوم محمد عابد الجابري. كما أسهم بمداخلات هامة في قضايا التراث والتجديد والدفاع عن الهوية العربية الإسلامية. وكان مشاركا في كثير من الأنشطة الفكرية والثقافية وصاحب رأي.
اقتربت من المرحوم في فترات مختلفة، خاصة أواسط التسعينات بعد توتر علاقته بالسلطة، وتحمّلي لمسؤوليات قيادية بالرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان. وأيضا بداية الألفية الجديدة حين انضم إلى “منتدى الموقف” الذي كنت أحد أعضائه المؤسّسين. وقد لمست منه مواقف شجاعة. وأذكر على سبيل المثال لا الحصر، ذهابه إلى التحقيق مرّة مصطحبا أغراضه تهيّأ للإيقاف، وقوله الشهير أمام القاضي: “أنا ابن الجريد أموت مثل النخلة واقفا”. كما أذكر تواضعه في لباسه وسلوكه. وقد أسرّ لي مرّة في ظروف مادية صعبة مرّ بها، أنّه يستعمل النقل العمومي في تنقلاته، وحين يكون لنا موعد بمقر جريدة الموقف يقسم المبلغ الذي يوفّره بين ثمن التذكرة، وثمن جريدة “القدس العربي” التي يواظب على قراءتها.
رحم الله تعالى الفقيد العزيز محمد مواعدة الذي لم تكرمه مع الأسف، دولته في مرضه ولا في جنازته. ولأحبّائه وأصدقائه أهمس بفرصة التدارك في أربعينيته، تقديرا واعترافا لأحد رجالات تونس، اتفقنا أو اختلفنا معه.
محمد القوماني