قرار شجاع ومُوجِع: تجديد جيلي قسري للطبقة السياسية

درجنا في تونس على استعمال عبارة “القرارات الموجعة” كناية عن الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية المتأكّدة، التي تشترطها الجهات المالية المانحة، والتي تقرّ بها مختلف الحكومات المتعاقبة ولم تجرأ على إنفاذها. ولهذا السبب أساسا وغيره، نواجه اليوم المخاطر المتعاظمة على اقتصادنا وعلى المالية العمومية خاصة. والتي قد تجعلنا نأتي إلى الحلّ  صاغرين. وأستسمحكم في الانزياح بالعبارة والدلالة إلى ميدان آخر غير بعيد عن الإصلاحات الاقتصادية، بل هو مدخلها وشرطها، وأعني به، إصلاح الطبقة السياسية التي يرجع إليها القرار والمسؤولة عن التنفيذ والمتابعة والنتائج. فقد بات متأكّدا تجديد جيليّ قسريّ للطّبقة السياسية التونسية، بعد أن تلكّأت في خطوة تلقائية في هذا الاتجاه، وقبل أن تُجبر عليها بكلفة بالغة ونهايات غير سارّة. وإليكم فيما يلي ودون مواربة وبما تيحه المجال بالطبع، جوابي المسبق عن أسئلتكم المنتظرة والتي يمكن أن أختزلها في القول، لماذا هذا الخيار الحاسم الذي أصفه بالشجاع والموجع؟ ومتى  وكيف يمكن أن يتحقّق في الواقع؟

أقلّ ما يمكن أن نستفيده ممّا نكتبه وننشره للعموم، هو أن نعود إليه ليكون حجة لنا أو علينا. وأحيلكم في هذا السياق على دراسة شخصية تعود إلى شهر جانفي 2021، منشورة بالعدد 29 من سلسلة كتاب الإصلاح، خمسة أسئلة إلى النخبة: الثورة في ذكراها العاشرة، فكرة وإنجاز المهندس فيصل العش. وأختار من تلك المساهمة هذه الفقرات التي أمهّد بها لما نحن بصدده. فقد ذكرتُ في أحد العناوين الفرعية “مسار خاطئ وعجز واضح بعد الثورة” أنّنا “نجحنا خلال السنوات العشر في تجنيب بلادنا سيناريوهات الحرب والاقتتال والتدمير على غرار دول أخرى، وقطعنا خطوات هامة على طريق القطيعة مع الاستبداد وتعزيز  الحريات والديمقراطية، عبر دستور توافقي يضمن الحقوق والحريات ويوزّع السلطة عموديا وأفقيا استبعادا للحكم الفردي والتهميش، ويرسي مؤسسات دستورية للرقابة والتعديل. كما نجحنا في دحر الإرهاب عن بلادنا بجيش وأمن جمهوريين، وفي توفير حدّ أدنى من الاستقرار السياسي وتأسيس مجتمع مدني نشيط وفاعل. وهذا ليس قليلا. ولكن لن يضيرنا في شيء أن نعترف في المقابل بأننا كشفنا عن عجز واضح عن تحقيق أهداف أخرى للثورة في الكرامة والشغل والتوازن بين الجهات وإنصاف المظلومين وتحسين ظروف عيش الناس والارتقاء بالخدمات العامة في الصحة والتعليم والبنية الأساسية والبيئة وغيرها، وتحقيق الاستقرار والأمان وتحصين الوطن بالوحدة الوطنية ومنع الاختراقات الخارجية. وهذه مسائل حيوية لا يمكن تجاهل تداعياتها. ولا بدّ أن نقرّ بعد عشر سنوات من الثورة بأخطاء في المسار وبضعف الأداء بل بالعجز (…) فلم تكشف السنوات التي خلت عن مقترحات أو “أفكار” قويّة وجذّابة، في الإنقاذ والإصلاح ولا عن قيادات أو “زعماء” مميّزين، سواء في الحكم أو في المعارضة. وتعمّق التباعد بين مجتمع الحكم /النخب ومجتمع المحكومين /عامة الشعب (…) ولا بدّ من التوقّف حالاّ ودون تردّد عن تكرار ما تأكّد فشله. “يزّي”.

للأسف. لم نلتقط رسائل الأغلبية المتشائمة والغاضبة في وقتها وتأخرنا في التدارك. فكان زلزال 25 جويلية 2021. وحصل المكروه وسقطت ثورة الحرية والكرامة بتونس لعام 2011 بين أيدي من شاركوا فيها واستبشروا بانتصارها. فقد مارس الرئيس قيس سعيد صنوف التعطيل لدواليب الدولة التي يرأسها في مشهد سريالي وظلّ خلال عامين من حكمه أقرب في خطاباته ومواقفه إلى المعارضة أو الاستمرار في حملة انتخابية لم تتوقف. وبلغ التعطيل ذروته بالتشجيع على ترذيل البرلمان والانخراط المفضوح في التحريض عليه والدعوة إلى حلّه. ثم جاء منع أداء 11 وزيرا زكّاهم البرلمان من أداء اليمين وممارسة مهامهم. ثم تمّ رفض ختم قانون المحكمة الدستورية ونشره  بعد تصويت معزّز. ولا ننسى التعطيل الواضح لمساعي الحكومة في توفير موارد خارجية للميزانية أو جلب التلاقيح ضد كوفيد 19 الذي  فتك بالناس لأشهر. ومن بعد أشكال التعطيل جاء التقويض للدستور والمسار برمته، كما كان متوقعا. وتبيّن أنّ التعطيل المقصود اشتغال هادئ على التقويض الذي استفاد من تجمّع عناصر الأزمة المعقّدة والمتراكمة في اللحظة الحاسمة.

فدستور 2014 الذي كان عنوان الانتقال الديمقراطي تم توظيف الفصل 80 منه لفرض إجراءات استثنائية تجمّع السلطات الثلاث بيد رئيس الجمهورية، وتجد الدعم من المؤسستين العسكرية والأمنية للإطاحة بالحكومة القائمة وتجميد البرلمان. فكان الانقلاب مرة أخرى بعد 07 نوفمبر 1987 متلحّفا بالدستور. وقد لاقى الحكم الجديد استحسانا غير خاف من  رأي عام غاضب عن المرحلة السابقة. كما انخرط طيف هام من الفاعلين السياسيين والاجتماعيين في دعمه مع انحياز إعلامي حاسم.

وجاء الأمر الرئاسي 117 المعلن في 22 سبتمبر 2021، والذي ألغى الدستور فعليّا وكرّس الحكم الفردي المطلق، ليؤكد حقيقة الانقلاب ويشكّل منعرجا جديدا في المشهد. كما تعدّدت مظاهر استهداف الحقوق والحريات. ثم تتالت التدابير الانقلابية لتشمل السلطة القضائية بحلّ المجلس الأعلى للقضاء. ثمّ حلّ البرلمان الذي ألغى الأوامر والمراسيم الرئاسية والتدابير الاستثنائية في جلسة 30 مارس 2022 التاريخية، ووضع نفسه على ذمة الحوار الوطني. وكذلك حلّ الهيئة العليا المستقلة للانتخابات وتعويضها بأخرى منصّبة. و كشفت الطرق الأحادية في التسيير عن عجز في إدارة البلاد، وتعطيل لدواليب الدولة وحياة عموم التونسيين. فساءت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وتراجعت جميع المؤشّرات، وجاع الإنسان والحيوان، وارتفع منسوب التشاؤم مجدّدا  وبدأ التغيّر في المزاج العام سلبيا.فقد تكرّرت الأولويات السياسية على حساب الأقتصادي والاجتماعي وكان العجز مجدّدا.  وبتنا نتحدّث عن دكتاتورية ناشئة وعن عشرة أشهر سوداء لانقلاب 25 جويلية، الذي صار في عزلة داخلية وخارجية لا يخطئها المتابعون.

 ويتعاظم الخطر على الديمقراطية التونسية ومستقبل البلاد، من خلال متابعة الفاشية الزاحفة التي تعبّر عنها التصريحات الاستئصالية لعبير موسي رئيسة الحزب الدستوري الحر، وسلوكها البهلواني وتحرّكانها المشاغبة، التي لا تخلو من توتّر وشعور بالمأزق، رغم ما تروّج له بعض الأوساط الإعلامية من ارتفاع أسهم الفاشية وحزبها في نوايا تصويت الناخبين. ولا يصعب على المتابع التقاط المشترك البارز والمتين بين الدكتاتورية الناشئة والفاشية الزاحفة، في ركوب خطاب “فوبيا النهضة”، من خلال تركيز ممنهج على تقييمات متحاملة لمشاركة حزب حركة النهضة في حكم عشرية ما بعد الثورة، وتعمية أيديولوجية غير خافية، من خلال ربطه باستعمال فضفاض لمصطلح “الإسلام السياسي” ومعجم مختار في هذا السياق. ويتغذّى هذا الخطر المضاعف، من بيئة تشكو من ضعف قناعة نخبها فضلا عن عامة مواطنيها بالديمقراطية، ومن إخفاقات اقتصادية واجتماعية لحكومات متعاقبة زادت في معاناة الناس المعيشية و”ترذيل الديمقراطية” في نظرهم.

ومع استمرار مقاومة الانقلاب وصمود الديمقراطيين وتعزيز صفوفهم بالتدريج ومراكمة مكاسب ميدانية على حساب أنصار  الدكتاتورية والفاشية، لم نعد نجد صعوبة بعد عشرة أشهر من انقلاب 25، في الإقناع بوهم “تصحيح المسار” وعجز “الشعبوية” بعناوينها المختلفة عن تقديم الحلولول والاستجابة لتطلعات عمومم الشعب وأولوياته في تحسين أوضاعه المعيشية. لكن خطابا لا يزال سائدا يواجهنا في انتقاداتنا لما بعد 25 جويلية، باستحضار مساوئ ما قبله ورفض العودة إلى حكم 24 جويلية، الذي يتغذى من “فوبيا النهضة” بلا شك. لذلك يحتاج هذا المأزق التاريخي الحادّ وهذه المعادلة الصفرية إلى حلول جريئة وعملية. ومن هذه الزاوية نرى أنّ الطبقة السياسية برمّتها، ومن مختلف مواقعها السابقة والحالية، التي صنعت مسارات الأزمة القائمة المعقّدة والمتراكمة، وكانت أطرافا متنازعة على الحكم خلال ردهاتها، واستوفت فرصها في حسم معارك الماضي والعجز عن الخروج من المأزق الحالي، يمكن أن تساهم إيجابيا في توفير فرصة تاريخية للحلول المتأكّدة، عبر فسحها المجال كلّيا لجيل جديد يتولّى أمور البلاد في مختلف مواقع القرار والتسيير وتحمّل المسؤولية.

نعترف بالفضل لأجيال الطبقة السياسية التي عجنتها معارك دولة الاستقلال من مواقع الحكم أو المعارضة. ونقدّر إسهاماتهم أفرادا وعناوين سياسية وأيديولوجية دون استثناء، كلّ برصيده الذي يبقى في ذمّة التاريخ. وأدعوهم وأنا أحدهم بكل تواضع، إلى أن نجعل من مخرجات الحوار الوطني المتأكد  الذي نتطلّع إليه، صياغة مناسبة لتجديد جيليّ قسريّ للطبقة السياسية التي تتجاوز أعمار أفرادها الخمسين عاما. لنفسح المجال لجيل جديد نرافقه بالرأي والخبرة والدعم دون أيّة وصاية عليه، ودون أن يكون لنا حقّ في تحمّل المسؤولية في مواقع التسيير في الدولة أو في الأحزاب أو في المجتمع المدني أو في الإعلام أو غيره من المجالات. فلتكن تلك المواقع حصريا ولفترة محدّدة، على ذمة الجيل الجديد الذي يشكل أكثر من نصف شعبنا. ولنا معشر التونسيات والتونسيين الريادة والنجاح على هذا الصعيد.  ويكفي استحضار أثر مجلة الأحوال الشخصية التي تم وضعها في السنة الأولى من الاستقلال، في تطوير الأسرة والمجتمع “قسريا”. وكذلك المثال في قانون التناصف في الانتخابات الذي تم وضعه أيضا بعد الثورة مباشرة. فالقرارات الشجاعة وإن كانت موجعة حتى لمن يضعونها، وحدها تفتح آفاقا واعدة للمستقبل. وفي المثل التونسي “تبديل السروج فيه راحة”.

محمد القوماني

*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 256 تونس  في 19 ماي 2022

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: