في الذكرى 11 لثورة 17/14: استئناف المسار أوّلا وتصحيحه ثانيا
يتبيّن بعد حوالي 6 أشهر عن انقلاب 25 جويلية 2021 وما تلاه، أنّ ما أتاه الرئيس قيس سعيد شكّل منعرجا حاسما في مسار ما بعد 2011، بل كان زلزالا أطاح بمنظومة عشرية ما بعد الثورة رمزيا على الأقلّ، وصدّعت ارتداداته مختلف البنايات السياسية القائمة. فقد تقاطعت أسباب وأجندات داخلية وخارجية، وإن اختلفت دوافعها وغاياتها، في الانخراط في إحداث هذا المنعرج أو في القبول به. ويكتسي إحياء ذكرى ثورة 17/14 هذا العام دلالات رمزية إضافية، لأسباب عديدة أكتفي بذكر ثلاثة منها على الأقل.
أوّلها تعذّر الحديث عن حصاد أكثر من عشرية لثورة الحرية والكرامة، دون الحديث عن انقلاب 25 جويلية الذي أطاح بها، ويبني سردية خاصة في إدانتها وبناء مشروعية على أنقاضها. وثانيها الاخلاف حول تاريخ العيد الرسمي للثورة، الذي صار موضوع تجاذب سياسي، على خلفية الأمر القيسي بجعل 17 ديسمبر عيدا للثورة، وإلغاء الاحتفال ب14 جانفي باعتباره التفافا على الثورة. وثالثها احتدام الصراع السياسي وتعمّق الانقسام بين الأحزاب والنخب عامة، حول أولويات المرحلة، هل هو التصدّي للانقلاب أولا، وتأجيل كل الصراعات البينية والاختلافات حول تقييم العشرية وتحميل المسؤولية؟ أو جعل التقييم وتحميل المسؤولية عما حصل شرطا للموقف ممّا حصل في 25 وتوصيفه بتصحيح المسار أو الانقلاب؟ وبين الأولويتين السالفتين من يرى المطلوب في الجمع بينهما، عبر العمل على استئناف المسار أوّلا وتصحيحه ثانيا، وجعل رسائل التصحيح وعناوينه الكبرى محفّزات في معركة التصدي للانقلاب واستئناف المسار. وهو ما نرجّح الانخراط فيه كخيار ونعمل عل توضيح بعض موجهاته في هذا المقال.
لا بدّ أن يعترف جميع الفاعلين في مرحلة ما بعد 2011، كلاّ من موقعه، في الحكم أو في المعارضة، وبحسب مشاركته وتأثيره في مجرى المسار، بالتقرير أو بالتعطيل، بأنّنا جميعا كشفنا خلال عشرية الثورة عن عجز واضح في المقترحات والإنجازات الكفيلة بتحقيق أهداف الثورة، خاصة في التنمية والتشغيل والعدالة الاجتماعية والتوازن بين الجهات والفئات. وكان الاهتمام بالحرية والانتقال السياسي على حساب الكرامة والانتقال الاقتصادي والاجتماعي. والحال أنّه لا نجاح لأحدهما دون الآخر.
فشلت الحكومات المتعاقبة، المتحزّبة والمستقلة، في تحقيق تطلعات عموم الشعب في إنصاف المظلومين وتحقيق العدالة الانتقالية وتحسين ظروف عيش الناس والارتقاء بالخدمات العامة في الصحة والتعليم والبنية الأساسية والبيئة وغيرها، وتحقيق الاستقرار والأمان وتحصين الوطن بالوحدة الوطنية ومنع الاختراقات الخارجية. فلم تكشف السنوات التي خلت حتى عن “أفكار” قويّة وجذّابة، ولا عن قدرة على تنفيذ الإصلاحات والحلول، سواء في الحكم أو في المعارضة. كما لم تتح مناخات التجاذب والمناكفة فرصا لحوار هادئ دون إقصاء، للتوافق على تشخيص عميق وجامع لمشاكلنا، ولا لبلورة مشروع وطني للإصلاح.
وتعمّق التباعد بين مجتمع الحكم (النخب) ومجتمع المحكومين (عامة الشعب). ولم تعد مشاكل النخب فقط في تجاذباتها واستقطاباتها وانقساماتها وأمراضها الأيديولوجية والشخصانية، بل صارت أيضا وهو الأخطر في قطيعتها جميعا مع أغلبية عموم الشعب، خاصة من المهمّشين وغير المنتظمين في هياكل الدولة ولا مجتمع. ممّا فسح المجال لصعود الشعبوية التي سرعان ما انقلبت إلى خطر على مسار الانتقال الديمقراطي وعلى الوطن.
كانت سياسات الحكومات المتعاقبة في إدارة أزمات البلاد المختلفة أشبه بسياسة “رجال المطافئ” في الحرائق، وتقديم “التكتيك” عن الاستراتيجي والانشغال باليومي على حساب المستقبل، والهروب إلى الأمام. وتمّ ابتزاز الدولة من النقابات بالمطالب القطاعية في الزيادات وإغراق الوظيفة العمومية بالانتدابات غير المدروسة وقد أبانت تلك السياسات عن حدودها بل كشفت عن تداعياتها الخطيرة. فتضخّم حجم ميزانية الدولة خلال العشرية حتى قارب 3 مرات، دون تحسين الخدمات. كما ارتفعت كتلة الأجور أيضا إلى ما يزيد عن 3 مرات، دون تقدم ملحوظ في تشغيل العاطلين .
وكانت المفارقة بين تركيبة البرلمان في باردو وتشكيلة الحكومة في القصبة عنوان ديمقراطية مغشوشة، قبلت بها مكرهة حركة النهضة المتصدرة للانتخابات دون أن تكون أغلبية، حتى اضطرت بعد 2019 إلى دعم حكومة مشيشي دون أن يكون لها فيها ولو وزير واحد. وكانت الديمقراطية المغشوشة وعيوب النظام الانتخابي الذي لم تتوفر أغلبية لتعديله، والحاجة المستمرة للتحالفات في البرلمان والحكومة، أرضية خصبة لديمقراطية تتعايش مع الفساد، بل ربما تحميه أحيانا.
وبعد نحو سنتين من صعود الأستاذ قيس سعيد لسدّة رئاسة الجمهورية نهاية 2019، بدأت الآمال تتبخّر في تغيير “السيستام” وتحقيق الآمال. فقد كان الرئيس سعيد مشغولا بممارسة صنوف التعطيل لدواليب الدولة التي يرأسها في مشهد سريالي. وظلّ خلال عامين من حكمه أقرب في خطاباته ومواقفه إلى المعارضة أو الاستمرار في حملة انتخابية لم تتوقف. وبلغ التعطيل ذروته بالتشجيع على ترذيل البرلمان والانخراط المفضوح في التحريض عليه والدعوة إلى حلّه. ثم جاء منع أداء 11 وزيرا زكّاهم البرلمان من أداء اليمين وممارسة مهامهم. ثم تمّ رفض ختم قانون المحكمة الدستورية ونشره بعد تصويت معزّز. ولا ننسى التعطيل الواضح لمساعي الحكومة في توفير موارد خارجية للميزانية أو جلب التلاقيح ضد كوفيد 19 الذي فتك بالناس لأشهر. ومن بعد أشكال التعطيل جاء التقويض للدستور والمسار برمته. وتبيّن في النهاية أنّ التعطيل المستمر اشتغال هادئ على التقويض، الذي استفاد من تجمّع عناصر الأزمة المعقّدة والمتراكمة في اللحظة الحاسمة. فكان انقلاب 25.
فبعد دستور 2014 الذي أسّس للمواطنة والمساواة وأمّن الحقوق والواجبات، ظلّ حزب حركة النهضة، الذي كان قمعه وحظره عنوان الاستبداد خلال العقود الأخيرة، يعاني من أزمة الأعتراف. فهو يُعامل ككيان “غريب” ويُتّهم بمحاولة “التسلّل لمفاصل الدولة”. بل ويطالب البعض بحلّه وحظره من جديد. وبعد انقلاب 25 صارت أقفال البرلمان المحروس بالجيش والأمن، في وجه راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة ورئيس البرلمان، فجر 26 جويلية 2021، رمز استمرار رفض الدولة لفئة من أبنائها. وعادت أجواء التخويف والاستهداف. لنكتشف أنّ “الدولة الصلبة” لا زالت تستعصي عن إدماج معارضيها السابقين. وأنّ ديمقراطية مكتملة لا زالت صعبة المنال.
لا يتّسع المجال لتقييم مستفيض وعميق لمسار ما بعد الثورة، في ذكراها 11، ولذلك اكتفينا بعناوين كبرى في مجالات متنوعة، لنكشف عن جوانب من العجز والتعثّر الذي يقارب الفشل. ومع ذلك نرفض وصف العشرية ب”السوداء”. ونرى في تبخيس ما بعد 2011 انخراطا في أجندة القوى المضادة للثورة في الداخل والخارج. فلم تخل العشرية من إنجازات ومكاسب. فقد عاش التونسيون منسوبا عاليا من الحريات وصارت بلادهم أقرب إلى النادي الديمقراطي وغاب اسمها عن تقارير انتهاكات حقوق الإنسان. وكانت الرقابة المتبادلة بين المؤسسات والتنافس بين الأحزاب وحرية الإعلام والتشريعات الثورية في النفاذ إلى المعلومة ومحاربة الفساد، أدوات هامة لرؤية حقيقة الأوضاع ووضع جميع الفاعلين تحت المجهر. كما كان خيار دعم قدرات المؤسستين العسكرية والأمنية صائبا في تطوير أدائهما ونجاحهما في دحر خطر الإرهاب الذي بدا أكبر تهديد للمسار الديمقراطي. ويبقى دستور 2014 وما تلاه من تشريعات هامة عديدة، بما في ذلك المجال الاقتصادي والاجتماعي، ونجاح تونس في تجنب الحرب الأهلية وتدمير الدولة الذي عرفته ثورات أخرى متزامنة، من أهم ما تحقق خلال العشرية.
ومع إقرارنا بحجم الأخطاء الفادحة خلال عشرية الثورة، نرى في أتاه الرئيس قيس سعيد مساء 25 جويلية وأكده يوم 22 سبتمبر2021، مستوى عال في الانحراف بالسلطة وانقلابا لا يحتاج إلى أسباب ولا تُقبل أعذار في تبريره. ومع إقرارنا بتخلّف المنجز الاقتصادي والاجتماعي عن المنجز السياسي خلال عشرية ما بعد الثورة، وكثرة الأخطاء في ديمقراطية مغشوشة وفاسدة في جوانب هامة منها، لا نرى الارتداد إلى الاستبداد حلاّ للأزمة أو أفقا لتحسين الوضع. ولنا الدلبل في حصائل 6 أشهر من حكم االرئيس وما كشفت عنه من عجز على إدارة شؤون البلاد وارتفاع منسوب التشاؤم وعدم ثقة الداخل والخارج في المستقبل، ومزيد تردّي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بارتفاع مشطّ للأسعار أو التأخر في دفع بعض الرواتب أو عدم الوفاء ببعض الوعود لجهات أو فئات، أو صعوبة الحصول على بعض الموادّ الأساسية للأشخاص أو الشركات. كما لنا دليل إضافي في توسّع الرافضين للحكم الفردي بين النخب، خاصة في الأحزاب والمنظمات والجمعيات، أمثلة على الأفق المسدود للانقلاب على الديمقراطية. فالحكم الفردي مفسدة مطلقة، وإن تلحّف بلباس المنقذ الذي يصم خصومه بالخطر الداهم.
كان انقلاب 25 جويلية بمثابة “جلطة” أصابت جسد تونس الذي يعاني من أمراض عديدة. وأولى بالطبيب أن يبادر بمعالجة الجلطة والتخفيف من تداعياتها، ليتفرّغ لاحقا إلى مساءلة المريض عمّا تسبب له في تلك الجلطة والعمل على معالجتها. وبالقياس لا نتردّد في اعتبار التصدّي للانقلاب أولوية مطلقة، يجب أن تجتمع عليه إرادات الأحرار مهما كانت الاختلافات بينهم. فيكون مطلب استئناف المسار الديمقراطي المعطّل وإلغاء التدابير الاستثنائية مقدّما. وفي إطار الحوار الوطني التشاركي الذي لا يقصي أحدا، يتمّ الخوض دون محظورات في جميع مواضيع التقييم والإصلاح الاقتصادي والاجتماعي والسياسي أيضا، حتى يتمّ تصحيح المسار. وكلما ارتفعت الهمة وصدق العزم واجتمعت الكلمة وتوضّحت البدائل، نقترب من أفق أفضل، نحتاجه جميعا.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 239، تونس في 13جانفي 2022
مقالات ذات صلة
25 جويلية: جمهورية مغدورة.. وذكرى حزينة..
2023-07-25