حقائق صادمة حول أزمتنا السياسية وآفاقها

        بعد ستّة أشهر من التدابير الانقلابية ليوم 25 جويلية 2021، يتبيّن أنّ تونس تغرق أكثر فأكثر في أزمتها المركّبة والمتراكمة، التي تجمّعت عناصرها، خلال عشرية ما بعد الثورة. وأنّ آفاق الحلّ تبدو بحاجة إلى جُهد أكبر. ولأنّ فهم المشكل فرع من حلّه كما قال الحكماء، أروم في سياق تفكيك أزمتنا ومحاولة التعمّق في فهم بعض تعقيداتها والتفكير في آفاق واقعية للتجاوز نحو الأفضل، أن أبسط بعض الحقائق التي تبدو صادمة، وأرى في تعريتها والتأمل فيها ممّا قد يساعد على تحقيق الأهداف سالفة الذكر.

        تتحمّل حركة النهضة جزءا هاما من مسؤولية ما انتهت إليه أوضاع بلادنا من تردّ على أكثر من صعيد.  وهذا نتيجة طبيعية لتحملها جزءا هاما من حكم تونس خلال فترة ما بعد الثورة، وارتكابها أخطاء غير قليلة، ذات تداعيات سلبية على جماهيريتها ورصيدها الانتخابي المتراجع. وهذا متداول بكثرة في الأوساط الإعلامية والشعبية، لكن للأسف يأتي النقد المشروع لأداء حركة النهضة، مشحونا بمغالطات ومبالغات محكومة بدوافع مختلفة، تتراوح بين الحقد السياسي والأيديولوجي وأجندات استهداف التجربة الديمقراطية، وبين غياب المعطيات الموضوعية أو ضعف المتابعة والوقوع تحت تأثير التضليل الإعلامي. كما يتوفّر هذا الخطاب الانتقادي على منسوب عال من العنف اللفظي الآخذ في التزايد، والذي قد يصل إلى حدّ الإدانة المسبقة قبل حكم القضاء والوصم والتحريض. ويبلغ التحامل مداه حين تدفع “كراهية النهضة” و”العماء الأيديولوجي” و”الانخراط في أجندات الاستهداف”  أصحابها، إلى وصف مرحلة الانتقال الديمقراطي ما بعد الثورة ب”العشرية السوداء”. وتُسخّر منصّات إعلامية و “أبواق دعائية” وتُدفع أموال طائلة لترويج هذه السردية حتى تصبح من “المسلّمات”.

        ففي سياق الخطاب السوداوي وترذيل مشهد ما بعد الثورة والتحريض على النهضة، يتمّ النفخ في الأخطاء وتكرار ذكرها بموجب وبغير موجب. كما يتمّ إنكار كلّ إنجازات او مكاسب خلال حقبة العشرية الأخيرة. ومن ذلك إنكار ما تحقّق على صعيد الحقوق والحريات وإرساء مؤسسات رقابية مستقلة ودور متعاظم للإعلام التقليدي والإعلام الجديد في رصد الانتهاكات أو محاسبة المسؤولين ومراقبة الحياة العامة والتشهير بالتجاوزات. كما يتم تجاهل ما تم وضعه من تشريعات رائدة، سواء  في المساعدة على مكافحة الفساد على غرار حق النفاذ إلى المعلومة وحماية المبلغين والمساءلة عن الكسب غير المشروع و رقمنة بعض المعاملات، أو في مجال تعزيز حقوق النساء وحمايتهنّ ضدّ العنف المسلّط عليهن، أو تشريعات اجتماعية  وإجراءات للقضاء على التشغيل الهش أو إرساء الاقتصاد الاجتماعي والتضامني أو التمويل التشاركي للمشاريع وغيرها من القوانين. فضلا عن بداية تعافي السلطة القضائية وتثبيت استقلاليتها. وتقوية قدرات المؤسستين العسكرية والأمنية في مواجهة الخطر الإرهابي خاصة. وبداية تركيز حكم محلي يحدّ من مركزية الدولة.

        واللافت في الخطاب السوداوي حول عشرية ما بعد الثورة، التي لسنا بصدد تقييمهـا، أنّ أغلب القطاعات المهنية حظيت بزيادات غير مسبوقة في الأجور والامتيازات والحقوق، وتجحد ذلك. وأذكر على سبيل المثال لا الحصر، الأمنيين الذين صارت لهم نقابات وحصلت لهم ترقيات وثُبّتت لهم حقوق وتحسّنت أوضاعهم وكانوا من أكبر المستفيدين من الثورة التي لا نكاد نسمع لهم أصواتا في الاعتراف بذلك. بل يروّج بعضهم للعكس تماما. وهذا مثال في غاية الدلالة يمكن سحبه على بقية القطاعات.

        وعادة ما يُقابل خطاب تبخيس ما بعد الثورة وإنكار كل إيجابي، بخطاب الإنكار والتعصّب المدفوع بعاطفة الانتماء ومهاجمة الآخرين، والمشحون بقدر من العنف االفظي أيضا. فنقع في مناكفات تحميل المسؤولية وعكس الاتهامات واستهداف المخالفين. وأخطر ما يقع فيه خطاب ردّ الفعل، التغاضي عن حقيقة الواقع وعدم الاعتراف بالأخطاء والنواقص، وهي كثيرة. وقد يُفسح المجال للتفاسير التآمرية وحمل المسؤولية على الغير، بما يفضي إلى عدم ممارسة النقد الذاتي والتقويم الموضوعي للحصائل، وتفويت فرص التدارك وتصحيح المسار.

        وهذا التقابل في الإنكار المتبادل الذي حرصنا على إبرازه، لا يحجب وجود بعض خطابات موضوعية في النقد في هذا الاتجاه أو ذاك. لكن حين يغلب السجال على الحوار وتطفو العاطفة عن العقل ويسود التضادّ والتنافي، تضيع الحقائق الموضوعية ونبتعد عن المقدّمات المشتركة في التوصيف. ويصبح لكل فريق حقائقه وواقعه وسردياته، وكأننا لا ننتمي لنفس البلد ولا نعالج نفس الواقع. وبذلك تقوّض كل فرص للالتقاء ما لم نغيّر من رؤيتنا وخطابنا وننتبه لأخطائنا قبل أخطاء غيرنا. وحين يصبح رئيس الجمهورية جزءا من معادلة التقابل في الإنكار المتبادل والتنافي في الخطاب، ويتكرّس الفرز السياسي في هذه المرحلة على قاعدة هذا الاستقطاب المغلوط، وتصبح معركة السرديات حول العشرية الماضية محدّدة لمشروعية الحاضر والمستقبل، حينها ندرك جانبا مهما من حرج تجده أطراف عديدة غير راضية عن مسار عشرية ما بعد الثورة، ولها مآخذ على أداء حركة النهضة خاصة، ولكنها لا تجد أفقا في خطاب قيس سعيد وأنصاره، بل تتوجّس خيفة من نزعات الحكم الفردي المطلق لديه، والشعبوية المهدّدة لكيان الدولة ووحدة المجتمع. وهذا ممّا يزيد في عمق أزمتنا السياسية وصعوبات التموقع في صراعاتها والانخراط في مبادرات لتجاوزها.

        ولعلّ ممّا يزيد في تعقيدات أزمتنا السياسية، ذات العمق الاقتصادي والاجتماعي في جوهرها، علاوة على حالة الإنكار المتبادل الذي يقوّض احتمالات التقارب ويشيع الاستقطاب المغلوط، ما يمكن أن نصفه بالعجز الرئاسي الثلاثي والحكومة القيسية المُكبَّلة، الفاقدة للشرعية و الضعيفة الأثر. فقد أبانت تجربة سنتين من رئاسة قيس سعيد، وخاصة ستة أشهر  ما بعد 25 من تفرّده بالحكم ومسكه بجميع السلطات، وما أتاحته له من إمكانيات للقرار والفعل السريع، أنه يختزل عجزا ثلاثيا بنيويا لا يؤهله للمساهمة في تجاوز الأزمة المعقدة والمتراكمة  التي أراد تحمّل المسؤولية الشخصية في الخروج منها، بتدابيره الانتقلابية يوم 25 جويلية وأمره الرئاسي 117 يوم 22 سبتمبر،  وحكومة بودن التي شكّلها.

        وقد أفادت وقائع متتالية وشهادات متعدّدة داخلية وخارجية، أنّ الرئيس قيس سعيد عاجز أوّلا عن الاستماع لغيره. وهو يحتكر الحديث مع من يجلس إليهم، ولا يعير اهتماما لما يقوله غيره في حضوره أو من خلال ما يُنقل إليه. وهو عاجز ثانيا عن محاورة غيره من المخالفين خاصة. وقد ذكر في إحدى خطبه أنه كان يشعر ب”حصص من التعذيب النفسي” حين كان يجالس بعضهم من مخالفيه بالطبع. وهو لا ينفك عن ترديد أنه لن يتحاور مع “اللصوص” ومع “الفاسدين” و”المنافقين”  وغيرهم من المشمولين بتصنيفاته التي لا تكاد تبقي على طرف خارجها. وكأنه يحاور نفسه أو “مريديه” فقط.  والرئيس سعيد ثالثا عاجز عن إدارة البلاد بأسلوبه الفردي وباتجاه “مشروعه” الذي لا يكاد يتضح إلاّ لنفسه لا غير. ولنا في تعاطيه مع مواضيع غلاء الأسعار و”مسالك التجويع”، و”الشركات الأهلية”، و”الصلح الجزائي”، و”التعيينات”، التي سرعان ما يتراجع عن بعضها أو نكتشف العجب في بعضها الآخر، والضعف التواصلي في قرطاج مع الإعلاميين وعموم المتابعين،  أمثلة على ما نزعمه من عجز واضح على التسيير.

        ولم تسهم حكومة القصبة على تلافي النواقص في قرطاج، بسبب طبيعة علاقة الوصاية والتبعية، مما جعلها مكبّلة في نظر الجميع بصرف النظر عن كفاءة أعضائها، ولم تقدّم أية إضافة منذ تشكيلها، ولا نجد لها أثرا في إدارة البلاد في هذه المرحلة الصعبة جدّا، خاصة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي. وهذا مما يزيد الطين بلّة كما في المثل.

   لقد قيل مرارا أنّ زمن الرئيس قيس سعيد غير زمن تونس. وتعدّ ستة أشهر فترة كافية وزيادة، لاستخلاص الدروس والمسارعة بتغيير المعادلة والتعجيل بالإنقاذ قبل فوات الأوان. وأحسب أنّ تذليل العوائق أمام تشكيل جبهة ديمقراطية للإنقاذ، يمرّ في ضوء ما أسلفنا، عبر استحضار القواعد التالية وهي:  أنّ السّرديات على أهميتها لا يجب أن تحجب الأولويات. وأنّ الاستقطاب مضرّ بالمسار، ناهيك حين يكون مغلوطا. وأنّ لحظة الحاضر إن أمكن مسكها مقدّمة عن الماضي والمستقبل. وأنّ القيام بالواجب لإنقاذ سفينة الوطن التي تتسع للجميع، لا يتوقف على رضى جهة ولا يحتاج لتأشيرة من أحد ولا تحكمه شروط ولا نتائج مسبقة ولا يتحدّد بمواقف الغير أو أدائهم. وصدق الله حين قال في محكم كتابه ” يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم” (المائدة/105)

محمد القوماني

*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 240، تونس  في   20جانفي 2022

Aucune description disponible.

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: