التفاهمات السياسية الصعبة وتداعيات الأزمة المركّبة المترنّحة

         يسود الترقّب بين تفاؤل وتشاؤم المشهد السياسي التونسي عقب اللقاء الذي جمع رئيس الجمهورية قيس سعيد برئيس البرلمان راشد الغنوشي صباح الخميس الماضي  24 جوان 2021، بعد جفوة اسمرّت 6 أشهر. كما يزداد مستقبل الحوار الوطني غموضا بعد التصريحات “النارية” للأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي التي انتقدت رئيس الجمهورية مباشرة بصيغ غير مسبوقة. ولا تبدو آفاق التفاهمات بين الفرقاء السياسيين مشجّعة، في ظلّ الحديث المتزايد خلال الفترة الأخيرة عن الذهاب إلى “حكومة سياسية” لمحاولة حلحلة الوضع. ويتمدّد في الأثناء فيروس كورونا البغيض بمختلف تحوّراته ليحصد مزيدا من الأرواح ويرفع معدّلات الإصابة بما يضع المنظومة الصحية في حالة عجز ويبعث على الفزع، ويوشك أن يفرض الشلل في مختلف الأنشطة على طول البلاد وعرضها، أمام عجز الحكومة على فرض الحجر الصحي الشامل واستهتار جمهور عريض بإجراءات الوقاية. وفي صيف حارّ تغلب فيه الاهتمامات الشخصية والعائلية وسط أجواء الأعراس والحفلات و”الخلاعة”، ليستقبل التونسيون بعدها أجواء خريف الغضب وشتاء الاحتجاحات، حريّ بالسياسيين والقائمين على شؤون البلاد والمنخرطون في الشأن العام أن يعمّقوا التفكير ويدوّروا الزوايا للبحث عن سبل لتدارك الأوضاع قبل الانهيار، الذي لن يفضي إلى غير إدارة التوحّش ولن يجني منه أيّ طرف وطني مكاسب.

        تترنّح الأزمة المتراكمة والمركّبة الاقتصادية والاجتماعية والصحية والسياسية، التي تمرّ بها بلادنا. وتتشابك عناصرها لترتهن فيها الحلول الاقتصادية والاجتماعية للإرادة السياسية، وتهدّد فيها الأزمة الاقتصادية والاجتماعية المُنجز السياسي. فمع التسليم بأولوية الملفات الصحية والمالية، وتقدير المخاطر العالية للغضب الشعبي، يتبيّن أكثر من أي وقت مضى، أنّ الأزمة السياسية تعوق الحلول الممكنة على جميع الأصعدة.

        فعدم التفاهم بين مراكز السلطة الأساسية في قرطاج والقصبة وباردو واستمرار عدم التعاون بينها، وضعف الأداء الحكومي بسبب تعطيل التحوير الوزاري وتردّد رئيس الحكومة وضبابية المشهد وترقّب الإدارة أمام احتمالات التحويرات المرتقبة، والمناكفات داخل البرلمان والرسائل السلبية التي تبعثها، عوامل سلبية لا تشجّع المانحين وأصدقاء تونس على مساعدتها للخروج من أزمتها المالية الخانقة والوفاء بديونها الخارجية التي تضغط آجالها. ولا تمنح التونسيين جرعات أمل وسط مزاج شعبي متشائم في مواجهة الصعوبات الاقتصادية والظروف الاجتماعية والمخاطر الصحية في غياب جرعات التلاقيح ضدّ وباء كورونا أو شحّها.

        وتبدو حلحلة الأزمة السياسية صعبة إن لم نقل متعذّرة، في ضوء المعطيات الموضوعية دون مساحيق في هذه المرحلة على الأقل. فبعد لقاء كسر الجليد بين سعيّد والغنوشي، نستحضر الصعوبات الحقيقية أمام التوافق السياسي المرتقب. فرئيس الجمهورية يصرّ على التمسّك ب”مبادئه” ورفضه “الحلول الوسطى”، ولا  يوارب في رفض الحوار أو الالتقاء مع من ينعتهم ب”اللصوص” و”الخونة”. ويتفق جميع “المحلّلين” على أن الرئيس قاطع في استبعاد حزبي  قلب تونس وائتلاف الكرامة الحليفين الرئيسيين لرئيس البرلمان. كما يتأكّد أنّ قصر قرطاج مستمرّ في التنسيق الواضح مع حركة الشعب في مختلف الملفات وفي مقدّمتها العلاقة بحركة النهضة وبالاتحاد العام التونسي للشغل، ويتقاسمان القناعات والتكتيكات.

        ولا يخفى على المتابعين تموقع حركة الشعب في صفّ “المعادين” لرئيس البرلمان ولحركة النهضة، بسبب إصرار قادتها على استدعاء العداء الأيديولوجي مع النهضة، واتهامها على غرار الفاشية  عبير موسي وكتلتها، بأنّها فرع من جماعة الإخوان المسلمين بمصر. وبذلك تسقط حركة الشعب على بلادنا وتجربتنا  أوضاعا غير أوضاعنا، وتقحم في المناكفات الحزبية في البرلمان وعلى منابر  الإعلام معارك مع حركة النهضة، ذات أبعاد إقليمية وجذور تاريخية لا صلة لها بأولويات التونسيين وواقعهم. ولا عجب ان يثير خطاب قادة حركة الشعب ردود أفعال متشنجة من بعض قيادات النهضة وأنصارها وسخطا في فضاءات التواصل الاجتماعي، بما يحيل عل استدعاء أجواء الاستقطاب الأيديولوجي ومعجم “التحارب” وتعذّر التفاهم.

        وإذا أضفنا إلى ما سبق نقطة الخلاف الجوهرية حول رئيس الحكومة هشام مشيشي الذي يرغب رئيس الجمهورية في استبعاده، وصرّح البعض نقلا عنه، أنّ “استقالته” شرط لأيّة تفاهمات، في حين تواصل حركة النهضة دعمه، وتجعل منه حليفا قويا، وتراه رئيسا للحكومة السياسية المحتملة. وهذا موضوع خلاف أيضا للنهضة مع حركة الشعب والتيار الديمقراطي اللذان يشترطان رحيل مشيشي لبدء حوار حول أيّة حلول ممكنة.

        ولا يقتصر تعذّر التفاهمات  على تباعد الآراء بين حركة النهضة وحلفائها مع قرطاج، بل يشمل أهمّ مكوّنات المشهد الحزبي المدعوّة للعمل المشترك. فقلب تونس وائتلاف الكرامة لا يقبلان الحوار ولا العمل مع الشعب والتيار بسبب ما حصل خلال الأشهر الماضية، ويضعان شروطا شبه مستحيلة على طريق ذلك. والعكس بالعكس. ولا تبدو العلاقة ودّية بين تحيا تونس ومكوّنات كتلة الإصلاح وثلاثي الائتلاف البرلماني من حركة النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة. وإذا حصل تقارب بين مكوّنين أو أكثر فهو يتصدّع بسبب العلاقة بمكوّنات أخرى مستبعدة. وتلك حقائق واقعيّة لا يمكن القفز عليها بالإرادويّة والممكنات الذهنية.

        ومن جانب آخر تعود هذه الأيام الدعوة من داخل حركة النهضة أو خارجها، إلى أخذها بزمام الأمور وتحمّل مسؤولياتها في تحمّل أعباء الحكم مباشرة، بمقتضى نتائج الانتخابات أو مغادرته بوضوح. وتتغافل هذه الدعوات بدورها عن حقائق الواقع الموضوعية. إذ حركة النهضة تظلّ الأولى في المشهد وليست صاحبة الأغلبية، ومواقفها هامة في التوازنات ولكنها ليست حاسمة بمفردها. وهي محتاجة دوما إلى تفاهمات وتحالفات للمضيّ في أيّ خيار أمامها.

        فقد حلّت حركة النهضة في المرتبة الأولي في انتخابات 2019 بأقلّ من ربع نواب البرلمان، وبكتلة هي الأضعف منذ مشاركتها في انتخابات 2011. ولا يمكنها بأيّ حال أن تقفز على صعوبات التوازنات البرلمانية التي أفرزتها صناديق الاقتراع. وإنّ حركة النهضة التي كسبت الانتخابات أكثر من مرّة، وحافظت على كتلة قوية ومتماسكة في البرلمان، كانت محدّدة بلا شكّ في تحديد الحاكمين من الوزراء الذين تتم تزكيتهم، وربما فيمن يعيّنون بعد ذلك على رأس الإدارة، لكنها لم تكن تحكم فعلا. ولنا في هذا السياق شواهد بليغة الدلالة في الماضي والحاضر القريب.

        تفيد تجربة ما بعد الثورة أنّ فاعلين سياسيين واجتماعيين عديدين، من داخل منظومة الحكم أو من خارجها، يمكنهم التعطيل،  لكن لا أحد يقدر مقابل ذلك على حسم المعارك لصالحه والفعل الإيجابي لتغيير الوضع بما يراه. وهذا أحد عناوين المأزق السياسي ببلادنا. ويتبيّن مع استفحال الأزمة، أنّ عدم  عقد الحوار الوطني المتأكد، سيكون مكلفا جدا على البلاد والعباد. فلا الجنوح إلى الاستبداد والحكم الفردي، ولا الصراع العاري عن الحكم، ولا الفوضى وإدارة التوحش، ولا “العنتريات” سيناريوهات تفتح أفقا لبلد يغرق رغم الفرص الاستثنائية المتاحة له. وإذا لم يثُب الجميع إلى رشدهم، ليستثمروا إيجابيا في ثورتهم الرائدة واستثناءهم الديمقراطي، وليتنادوا من أجل المصلحة الوطنية العليا وإنهاء وضع الأزمة المترنّحة منذ مدة،  و ما لم يأخذ العقلاء منهم على أيادي المغامرين لمنعهم من خرق سفينة الوطن، سيغرق الجميع بلا شك وتسقط التجربة بين أيدي أهلها، ولن ينفع بعد ذلك تلاوم أو ندم أو جدال حول تحميل المسؤولية. ولن يكسب الناس شيءا ينفعهم من وراء ذلك.

        وإذ أظلّ متفائلا بقدرة نخبنا التي نجحت إلى حدّ الآن في تجنيب بلادنا مسارات العنف والاحتراب الأهلي، أن تتعالى عن المعارك الصغيرة وأن تنجح مجتمعة، في وضع برنامج للإنقاذ الوطني وأدوات سياسية لتحقيقه، وما ذلك عليها بعزيز، فإنّي لا أخفي خوفي من أن يخذلنا نصف الموقف.

محمد القوماني

*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 212، تونس  في  01 جويلية 2021     

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: