الانتخابات التركية بعيون تونسية: تنافس على برامج وانتصار حاسم للديمقراطية


 

         بعد أسبوع من الإعلان الرسمي عن نتائج الدور الثاني  للانتخابات الرئاسية التركية، وبعد انجلاء غبار معركة الحملة الانتخابية، يصحّ القول أنّ أردوغان حقّق فوزا تاريخيا، رغم أنّ حزبه يكسب للمرة 17 في الانتخابات التركية المختلفة منذ سنة 2002. فقد تحقق هذا الفوز في ظرفية داخلية وخارجية مخصوصة، نفصّلها لاحقا، كانت ترجّح نهاية تجربة العدالة والتنمية وزعيمه. وبنفس القدر يصحّ القول أيضا أنّه انتصار حاسم للديمقراطية التركية. حيث ناهزت المشاركة في الاستحقاق الانتخابي الأخير 90%، في استثناء عالمي، وتمّت العملية دون مشاكل تُذكر، وبمتابعة دولية لافتة. ولذلك جاء إعلان رجب طيب أردوغان فوزه بتفويض الأغلبية له  لعهدة رئاسية ثانية مختلفا هذه المرة، وسط احتفاء شعبي كبير، من اسطنبول أوّلا، ثم من أنقرة لاحقا. مشدّدا على أنّه “لا أحد يستطيع أن يجرأ على الديمقراطية التركية بعد اليوم”. تُرى ما مؤشرات هذه القراءة المتفائلة للانتخابات الرئاسية التركية الأخيرة 2023؟ وهل يبدو أردوغان وتحالفه في طريق مفتوح لتحقيق أهدافهم؟ وماذا عسانا نستفيد من نظرة للانتخابات التركية بعيون تونسية؟


        كانت الزلازل الكارثية التي هزّت مناطق كبرى في تركيا عشية الانتخابات الرئاسية والتشريعية، اختبارا عسيرا لأداء الرئيس أردوغان وحكومته وحزبه. وفي ظلّ أزمة اقتصادية كبيرة تؤشّر عليها نسبة التضخم العالية وهبوط الليرة غير المسبوق منذ تصدّر حزب العدالة والتنمية للحكم في 2002. وبعد مخلّفات سنوات أزمة كورونا ومصاعبها التي شملت اقتصاديات العالم بأسره تقريبا. وفي ظلّ استمرار الحرب الروسية الأوكرانية التي تبدو تركيا في قلب تجاذباتها الدولية. في هذا السياق الداخلي والخارجي غير الإيجابي بالمرة، خاض أردوغان وحزبه الاستحقاق الانتخابي الرئاسي والتشريعي ضمن “تحالف الجمهور”، ضدّ تكتّل واسع للمعارضة ضمن “تحالف الشعب” بقيادة حزب الشعب الجمهوري.

      لم تكن وضعية الفريق الحاكم مريحة بالمرّة، بعد تجربة 21عاما في السلطة، بما توفّره تجربة الحكم الطويلة من خبرات واستناد إلى المنجزات، أو ما تفرضه من ضغوطات الإخفاقات والصعوبات، ومشاعر عدم الرضا في ظرفية صعبة.  وخلافا لعديد التوقّعات ونتائج سبر الٱراء التي كانت تعطي الأولوية للمعارضة ومرشّحها للرئاسية كمال كليجدار أغلو، وفي ظلّ دعاية خارجية قوية وغير خافية ضدّ أردغان، لم يتردد بدوره في ذكر بعضها مثل أمريكا وألمانيا وفرنسا، ومحاولة الاستفادة منها انتخابيا، خلافا لكل ذلك جاءت نتائج الدور الأول في 14 ماي  لصالح أردوغان وتحالفه في التشريعية، وجاءت النتائج النهائية للدور الثاني في 28 ماي حاسمة في منح أردوغان عهدة رئاسية ثانية.


        وقد عكست المتابعة الدولية اللافتة للانتخابات التركية، على غرار الانتخابات الأمريكية، أهمية الرهان خارجيا. كما جاءت التهاني السريعة لأردوغان من أغلب القادة في العالم لتعزّز هذا الاستنتاج. أما داخليا فكانت الاحتفالات  الضخمة في اسطنبول وأنقرة، اللتين تأخر فيهما أردوغان عن منافسه، ومدن تركية أخرى، مؤشرا على حجم الرهان أيضا الذي يتزامن مع احتفال دخول الجمهورية التركية مئويتها الثانية. وربما لهذا السبب أيضا كان خطاب النصر هذه المرة من القصر الجمهوري بأنقرة، خلافا لخطاب “الشُرفة” من مقر حزب العدالة والتنمية باسطنبول سابقا. وقد ذكر أردوغان في كلمته أن ما يزيد عن 320 ألف يحتشدون أمامه أثناء خطابه، علاوة عن الطرقات المليئة بالأنصار في طريقه من المطار. وكان الحضور الكثيف فرصة لتشديد الزعيم أردوغان على علاقة المحبّة بينه وبين شعبه. وعن تقديره له واعزازه به، حتى حمد الله تعالى “الذي جعله فردا من هذا الشعب.”



     لم يخل خطاب أردوغان في اسطنبول أو أنقرة من مناكفة لخصمه كمال أغلو، ولم يخف مشاعر فرحه بهذا الفوز التاريخي. وتقاسم مع أنصاره بعض الشعارات والأغاني بالمناسبة. وأكد الطابع المحافظ له ولحزبه ولتحالفه. وشدّد خاصة على رفض المثلية وعلى دعم الأسرة وعلى حماية النساء من العنف الذي يستهدفهن. كما ذكّر بأن مبدأه في الحكم يظلّ نفسه كما عرفه الشعب وهو “أنّ العدل أساس الملك”. وختم خطابه في أنقرة بدعاء يؤكد انتماء تركيا الإسلامي وحرصه ومن معه على أن “تظل مٱذنها بأذانها” واعتزازهم بأن يظلّوا مسلمين. ومن قبل استثمر أردوغان أثناء حملته في رمزيات إنهاء حملته بالصلاة بمسجد  آيا صوفيا، أو زيارة قبر عدنان مندريس، أول رئيس وزراء منتخب من القادة الديمقراطيين المحافظين، كان من ضحايا الانقلابات العسكرية السابقة.



     غير أنّ أردوغان في أجواء الحماسة والاحتفال بالنصر، كان يستحضر بلا شكّ صعوبات المرحلة القادمة. لذلك حيّا كافة المشاركين في الاستحقاق الانتخابي، بصرف النظر عن اختياراتهم. وشدّد على الوحدة الوطنية، وعلى ترك الخلافات زمن الحملة الانتخابية وراء الظهر. واعتبر أنّ “الكاسب الحقيقي هو الشعب والديمقراطية”. وكرّر قوله “حين ننتصر نحن لا يخسر أحد في بلدنا.”



       فهو يدرك جبدا أنّ الشعب لم يصوّت لجهة واحدة. وأنّ النتائج في التشريعية كما في الرئاسية متقاربة. وهو يعلم أنّ سياساته الداخلية أو الخارجية محلّ نقد ومعارضة من عدد كبير من الناخبين. بل إنّ بعض خياراته كانت موضوع انتقاد في حزبه الذي عرف انشقاقات هامة على غرار رفيقي دربه عبد الله غول، وأحمد داود أوغلو الذي أسس “حزب المستقبل” وانضم لتحالف الشعب. كما يدرك أردوغان حجم التحديات الاقتصادية الكبرى لبلده في ظرفية صعبة جدا. فالإنجازات الكبرى الاقتصادية والاجتماعية وعلى جميع الأصعدة التي حسّنت معيشة الأتراك وجعلت من بلدهم قوة إقليمية هامة  خلال العشريتين بقيادة أردوغان، لم تشفع له لدى الأجيال الصاعدة من الشباب خاصة، الذين لم يصوّتوا لأردوغان وجعلوه يتأخّر عن منافسه في المحافظتين الكبيرتين أنقرة واسطنبول.



       كما أنّ الأدوار الخارجية لتركيا ومشاركتها المباشرة في بعض الصراعات بزعامة أردوغان، جلبت لها مصالح بلا شك، لكن سبّبت لها مشاكل كبرى أيضا، ولم تكن محل إجماع وطني. وحين يكون أردوغان في عهدة ثانية وأخيرة وربما في نهاية مشواره السياسي. ويكون حزبه مُثقلا بحكم عَشريتين على التوالي، وتكون المعارضة في حالة مدّ رغم خسارتها، وتجد إسنادا خارجيا غير خاف، لن تكون المرحلة القادمة مفروشة بالورود، بالنسبة لأردوغان وتحالف الجمهور، رغم الوعود الكبيرة والثقة بالنفس، والتصميم الذي بدا عليه أردوغان في الحملة الانتخابية وفي خطاب النصر.



     كانت نتائج الانتخابات في تركيا شبيهة بنتائج الديمقراطيات العريقة في أمريكا وأروبا،  ومختلفة تماما عن نتائج الأنظمة الاستبدادية، خاصة في نسختها العربية. فالتوازن بين جبهتين يُعدّ أحد شروط نجاح الديمقراطية. وهذه إحدى النواقص الكبرى في التجربة التونسية التي لم تستثمر في التوازن بين حزبي “النداء” و”النهضة” في انتخابات 2014. ولم تنجح في بناء كيانات حزبية قوية ومتوازنة خلال العشرية.

       كما كان التنافس بين تحالفي “الجمهور” و”الشعب” في تركيا حول المصلحة الوطنية، بعيدا عمّا عرفته تونس من استقطاب سياسي أو أيديولوجي ومناكفات لا طائل من ورائها. فمكوّنات التحالفين في تركيا متشابهة (إسلاميون وقوميون وعلمانيون في الجهتين) ومواضيع الصراع واقعية ومضمونية، تدور أساسا حول الرؤى الاقتصادية والاجتماعية والبرامج التنموية والسياسات الخارجية وموقع تركيا ومصالحها. و تقلّصت الاختلافات حول الهوية كثيرا وخرجت من الطابع الأيديولوجي. وهذا ما شجّع الناخب التركي الذي انخرط في العملية السياسية بنسبة مذهلة حقا، فاقت الديمقراطيات العريقة. فكانت نحو 90% مشاركة في تركيا، و ما يضاهيها عزوفا في تونس. وبذلك تعزّزت الديمقراطية في تركيا، التي خرج شعبها ليحبط ٱخر محاولة انقلاب عسكري في صائفة  2016. وكان زعيم المعارضة الحالية كمال كليجدار أغلو من أهمّ من تصدّوا للانقلاب الفاشل يومها. خلافا لتجربة تونس، التي غدرت نخبها من مواقعهم المختلفة، بالديمقراطية وتورطت في التحريض على التصفية السياسية للمنافس بكل الطرق، والسكوت عن انتهاك حقوق الإنسان وتبريرها إذا تعلقت بخصم أيديولوجي.



     وختاما لا يخطئ المتابع الموضوعي للتجربة التركية الإضافة النوعية لأردوغان ورفاقه في حزب العدالة والتنمية، الذين عرفوا، خلافا لتجارب أخرى في تونس وغيرها، كيف يغادرون المربّعات التقليدية للإسلام السياسي في اهتماماتهم وأولوياتهم وتحالفاتهم، وأبانوا عن كفاءاتهم في الحكم والنجاح. حتى صوتت لهم الأغلبية في المناطق المتضررة من الزلزال اعترافا. فخلال عَشريتين من حكمهم، قفزت تركيا إلى الأمام أشواطا على مختلف مستويات التنمية الشاملة وبناء القوة. وعرف “العثمانيون الجدد” كيف يستثمرون حرصهم على الانضمام للاتحاد الأوروبي، وإن بدا مستحيلا واقعيا، في الضغط الداخلي من أجل تطوير التشريعات التركية وتوسيع الحريات وتقليص دور المؤسسة العسكرية في السياسة ودعم استقلال القضاء والعمل بالمواصفات الأوروبية في التصنيع والمعاملات وتطوير المجتمع والخدمات. ولذلك خرج الشعب إلى جنب أردوغان وحزبه لحماية الديمقراطية ذات صيف 2016، وهو الذي لم يتصدّ من قبل للانقلابات العسكرية العديدة.

فهنيئا للأتراك بما أنجزوا. والمستقبل وحده يجيبنا عن سؤال هل سيترك الزعيم أردوغان حين يغادر، بلاده حقا على ديمقراطية “لا يجرأ عليها أحد” مثلما قال.

محمد القوماني

*مقال منشور بأسبوعية “الشارع المغربي” العدد 362. تونس في 06 جوان 2023

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: