نصف الموقف من الانقلاب يُشجّعه على تقويض الدولة
في ظلّ انحسار الداعمين بوضوح للانقلاب وتوسّع رقعة الرافضين له، وتشديد الضغط عليه داخليا وخارجيا، لا زلنا بعد أكثر من أربعة أشهر، نشهد مناورات سياسية مكشوفة من أطراف عديدة في اعتماد خطابات زئبقية، تدّعي المبدئية والطهورية السياسية، وتأكل على كل الموائد. ونروم في هذا السياق التوقّف عند أمثلة ممّا نصفه بنصف الموقف من الانقلاب، تنخرط فيه أحزاب ومنظمات وجمعيات وشخصيات إعلامية وأكاديمية وآخرون. وأخطر ما يستوقفني في نصف الموقف من الانقلاب، أوّلا تخفّيه وراء عداوات أيديولوجية أو خصومات سياسية مع أطراف بعينها، للغدر بالديمقراطية ومخالفة أبسط مقتضياتها، بل التضحية بها والمجاهرة بمساندة الانقلاب والاستبداد وكل صيغ للحكم تخلصّهم من هؤلاء الخصوم. أمّا الخطر الثاني فيكمن في سوء تقدير الأولويات وعدم الاعتبار من تجارب الماضي، والوقوف التكتيكي والمؤقت مع الانقلاب، الذي يهدّد الاستراتيجي والمشترك الوطني. فنصف الموقف من الانقلاب لن يساعده فقط على تقويض الديمقراطية الهشّة، ويهدّد الاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي، بل في موضوع الحال، سيشجعه على تقويض أركان الدولة وكيانها أصلا، بسبب ما يراه فيها من خطر داهم على مشروعه الشخصي، وما يتطلّع إليه من بناء جديد يشمل كل شيء.
قد تُطوى صفحة الوضع الانقلابي بتونس بأسرع ممّا توقّعنا، وقد يطول الوضع ويتجدّد في الصيغ. وفي كل الأحوال سيكون زلزال انقلاب 25 جويلية 2021 موضوع تأمّل وبحث واستخلاص لنتائج سيكون لها أثرها في مستقبل تونس القريب والبعيد، وربما خارجها أيضا. ولعلّ من أهمّ ما يسترعي الاهتمام في متابعة تداعيات هذا الزلزال، ما يحصل من فرز تاريخي حاسم في المشهد السياسي الوطني، وفي أوساط النخب التونسية خاصة، على قاعدة الانحياز للديمقراطية من عدمه.
عبّرنا في أكثر من مناسبة عن تفهّمنا لما لاقته قرارات 25 جويلية 2021 من استحسان أوساط تونسية هامة، تأييدا منها لإنهاء أوضاع عشرية ضاقت بها ذرعا، خاصة مع منظومة حكم ما بعد 2019. فقد جاءت تلك القرارات البُركانية لتكسر حلقة مغلقة وتفتح أملا لتصحيح مسار سياسي وتحسين أوضاع الناس المعيشية خاصة. لكن بعد الأمر الرئاسي 117 ليوم 22 سبتمبر، الذي علّق الدستور فعليا واستبدله بتنظيم للسلط (دستور صغير) يمدّد الإجراءات الاستثنائية ويجعلها أصلا، ويكرّس الحكم الفردي المطلق، وتبيّن الوجه السافر للانقلاب. وبعد أربعة أشهر عن 25 جويلية التي ازدادت فيها معيشة الناس سوءا، وارتفعت الأسعار بنسب غير مسبوقة، وتضايقت المؤسسات الاقتصادية، وتألّم عموم الشعب وتأخّرت أجور الموظّفين، وصار شبح إفلاس الدولة مخيّما، وتأكدت عزلة تونس دبلوماسيا وحصارها ماليا، وتبيّن عجز الانقلاب على تسيير البلاد. لم يعد بعد كل هذا مُسوّغا للتردّد في رفض الانقلاب واعتبار التصدّي له أولوية، حماية للمسار الديمقراطي وتحصينا للبلاد من أخطار على الدولة والمجتمع تأكدت عناوينها. فالأهمّ يظلّ دوما قبل المهم. وعليه فإنّ اختلافاتنا وحساباتنا وصراعاتنا على أهميتها، لا يجب أن تربك البوصلة الوطنية. ومن هنا يأتي عجبي من مواقف فاعلين أعرفهم جيدا وأقدّرهم، وجمعتني محطات نضالية بكثير منهم قبل الثورة وبعدها.
أتفهّم مرة أخرى غضب الناخبين عن عشرية ما بعد الثورة، التي استحوذ فيها الإنجاز السياسي على بقية المجالات، وكان الإخفاق الاقتصادي والاجتماعي فيها واضحا. وأتفهّم أيضا غضب بعض الفاعلين على حركة النهضة خاصة، وأدائها وأزمة الثقة بها خلال حكم عشرية كانت طرفا أساسيا فيه. وآخذ ذلك بعين الاعتبار في تحليل المواقف والمزاج العام بعد 25 جويلية، لكنّني مع ذلك لا أقبل بأيّ وحه، غدر النخب خاصة بالديمقراطية والتنكّر لمقتضياتها الأساسية، ومنها الاحتكام للدستور والتسليم بشرعية المُنتخبين مهما كان أداؤهم، في انتظار انتخابات أخرى قد تأتي بغيرهم، ورفض انتهاك الحقوق والحريات ومخالفة القانون في استهداف الخصوم، مهما كانت الاختلافات معهم.
وإذ تبدو مواقف بعض الأحزاب والجمعيات والهياكل المهنية والشخصيات المؤيدة للانقلاب مُستغربة أحيانا ومعلومة في أغلبها، وستظلّ تلاحق أصحابها مهما كانوا، فإنّ ما يستدعي التوقّف أكثر والاستغراب مواقف المنظمات الوطنية الحائزة على جائزة نوبل للسلام، بسبب دعمها للديمقراطية ومساهمتها في إنجاح الحوار الوطني وضمان أسس العيش المشترك بين التونسيين. فالرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، التي أعتز بانخراطي فيها وتحمّل المسؤولية في قيادتها في فترة هامة من مقارعة الاستبداد، أكتفي بالقول بأنها خيّبت مواقف قيادتها الحالية الآمال، في العلاقة بالانقلاب. وأتوقف أكثر عند موقف الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي انخرطت فيه أيضا عقودا، وناضلت في صفوفه، ولا أنفك عن الكتابة دفاعا عنه. فهو المنظمة الوطنية الأهمّ والجامعة أكثر للتونسيين.
تابعت الكلمة المكتوبة للأخ نور الدين الطبوبي الأمين العام، التي كانت تعبّر عن مواقف كافة قيادة المنظمة، في الذكرى 69 لاغتيال الزعيم الوطني والنقابي الشهيد فرحات حشاد، يوم 04 ديسمبر بالقصبة، وأعدت قراءتها لاحقا، واستوقفتني كثيرا الجمل التي تعبّر عما أصفه بنصف الموقف من الانقلاب. الذي لا يبدو مُقنعا ولا مفيدا في هذه المرحلة. فقد جاء بالكلمة على لسان المنظمة “استبشرنا خيرا بالتدابير الاستثنائية التي اتّخذها رئيس الجمهورية يوم 25 جويلية من السنة الجارية”. و”لقد كنّا على يقين من أنّ تدابير 25 جويلية كان يمكن، ولا يزال بإمكانها، أن تكون خطوة حاسمة على درب تصحيح المسار الديمقراطي وإعادة الاعتبار لأهداف ثورة 17 ديسمبر 14 جانفي وما زلنا نعتقد فيها مسلكا يُخرج البلاد من النفق”. و”اليوم أصبحنا نخشى على مكاسب شعبنا من مآلات تراتيب 25 جويلية، ليس بسبب تعليق العمل بأحكام الدستور أو تعليق أشغال البرلمان وحلّ الحكومة، بل بسب التردّد المبالغ فيه في إعلان سقف زمنيّ للمرحلة الاستثنائية المعلَنة وضبط خارطة طريق واضحة بشأن الإجراءات العملية الكفيلة بتصحيح المسار، بما ينهي الضغوطات الخارجية المسلّطة على بلادنا ويفشل ما تُحِيكُه اللوبيات الداخلية من أحابيلَ ويساعد على إعادة بناء الثقة”. ف”التونسيات والتونسيون لا يطالبون اليوم بالكثير. هم يريدون فقط توضيح الرؤية والوجهة العامة للبلاد”.
أعجب فعلا لهذا الموقف من المنظمة الشغيلة الذي تمّ الإفصاح عنه بوضوح في هذا النص المكتوب، خلافا للتصريحات الشفوية العديدة للطبوبي المختلفة بعض الشيء. وأراه معبّرا عن بقية منظمات الرباعي ولأحزاب تبالغ في التقرّب من الاتحاد. فهم يستمرّون في تأييد قرارات 25 جويلية بما فيها من خرق جسيم للدستور وحلّ الحكومة والبرلمان خلافا لمقتضيات الفصل 80. ويسكتون عن تعطيل الدستور بالأمر الرئاسي 117 واستحواذ رئيس الجمهورية عن جميع السلطات. ويتجاهلون انتهاكات الحقوق والحريات والتهديدات المعلنة للقضاة والتعدّي غير المسبوق على السلطة القضائية واستهداف استقلاليتها. ويكتفون فقط بطلب تسقيف الفترة الاستثنائية ووضع خارطة طريق وتوضيح معالم المستقبل وإشراكهم، دون غيرهم، في تأثيثه. ويزعمون بعد ذلك أنهم ديمقراطيون وحداثيون أكثر من غيرهم.
أشارت كلمة الاتحاد المكتوبة إلى أنّ “البلاد تَعيش مُنعرجا لا نَعلم مَآلاتِه، لكنّ الثابت، والبلاد على ما هي عليه من ضبابية سياسية وعطالة اقتصادية واحتقان اجتماعي، أنّ اليأس بلغ مَداه وأنّ مظاهر العصيان باتت تهدّد بانفجار غير محمود العواقب”. وربّما لهذا السبب أضاف الطبوبي في تصريحاته عقب اجتماع القصبة أن الوضع لم يعد يقبل مزيد الانظار. وأنّ الاتحاد اختار “طريقا ثالثا”. وأنّ “القطار انطلق”. وهذا ما فهم منه جميع المتابعين أنّ المسافة بعدت بين قرطاج وساحة محمد علي، وأنّ اتحاد الشغل صار فعليا معارضا لمسار 25 جويلية. وقد بدأ الحديث بعد عن حوار وطني محتمل يرعاه الاتحاد، وعن بديل تشاركي للخروج من الأزمة المعقدة برمّتها دون العودة إلى وضع ما قبل 25 ودون تأبيد الوضع الاستثنائي، وبضمان استمرار المسار الديمقراطي والاحتكام للدستور والمؤسسات.
إذا أردنا تصحيح المسار فعلا، بالقطع مع عشرية غلب عليها انطباع الشعور بالفشل، وكانت الديمقراطية فيها هشّة ومغشوشة وفاسدة في جوانب هامة منها. وحماية دولتنا ومجتمعنا من أخطار محدقة بنا من خلال ديكتاتورية ناشئة وفاشية زاحفة وخطابات احتراب أهلي متزايدة، فلا نكرّر أخطاء الماضي ولا نعود إلى ما قبل 25 جويلية ،
2021، ولا ما قبل قبله ممّا سبق 14 جانفي 2011. فليس مطلوبا عودة الوضع إلى ما كان عليه، ولا ضمان نصيب شركاء الانقلاب من جبهة “الشهيلي” وفي مقدمتهم حركة الشعب وأخواتها، في الغنيمة. ولا توجد مواضيع محظورة في الحوار المطلوب. ولكن لا أفق لأيّ حوار وطني يقوم على الإقصاء تحت أي عنوان. وإنّ أيّ استخدام مجدّدا لأجهزة الدولة في تصفية خصوم سياسيين تحت أيّة ذريعة، ستكون كلفته السيئة أعلى من عقود القمع السابقة.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 234، تونس في 09 ديسمبر 2021
مقالات ذات صلة
25 جويلية: جمهورية مغدورة.. وذكرى حزينة..
2023-07-25