دكتاتورية ناشئة وفاشية زاحفة تركبان “فوبيا النهضة”

       استنادا إلى الأمر الرئاسي 117 المعلن في 22 سبتمبر 2021 الذي ألغى الدستور فعليّا وكرّس الحكم الفردي المطلق، ومتابعة لما تلاه من تدابير وطرق أحادية في إدارة البلاد، وما يصدر عن رئيس الأمر الواقع قيس سعيد من أقوال وأفعال، تثير السخط وتوسّع رقعة المعارضين، لا نبالغ في شيء حين نقول أنّ تونس تواجه مخاطر دكتاتورية ناشئة. ويتعاظم الخطر على الديمقراطية التونسية من خلال متابعة الفاشية الزاحفة التي تعبّر عنها التصريحات الاستئصالية لعبير موسي رئيسة الحزب الدستوري الحر، وما تروّج له بعض الأوساط الإعلامية من ارتفاع أسهم الفاشية وحزبها في نوايا تصويت الناخبين. ولا يصعب على المتابع التقاط المشترك البارز والمتين بين الدكتاتورية الناشئة والفاشية الزاحفة، في ركوب خطاب “فوبيا النهضة”، من خلال تركيز ممنهج على تقييمات متحاملة لمشاركة حزب حركة النهضة في حكم عشرية ما بعد الثورة، وتعمية أيديولوجية غير خافية، من خلال ربطه باستعمال فضفاض لمصطلح “الإسلام السياسي” ومعجم مختار في هذا السياق. ويتغذّى هذا الخطر المضاعف الذي نروم التوقّف عنده، من بيئة تشكو من ضعف قناعة نخبها فضلا عن عامة مواطنيها بالديمقراطية، ومن إخفاقات اقتصادية واجتماعية لحكومات متعاقبة زادت في معاناة الناس المعيشية و”ترذيل الديمقراطية” في نظرهم.   

       تمّ إبلاغ تونس رسميا استبعادها من المشاركة في “القمة من أجل الديمقراطية” التي تنظمها الولايات المتحدة الأمريكية يومي 9و10 ديسمبر 2021 تنفيذا لأحد تعهّدات الرئيس جو بايدن. وكانت تونس الثورة في صدارة الدول العربية المؤهلة لهذه المشاركة، التي ستقتصر للأسف على ممثلي العراق، من بين ممثلي أكثر من 100 دولة في العالم، يتقدمهم  رؤساؤها ورؤساء حكوماتها. وتلك أحد أهم الخسائر الديبلوماسية الفادحة  التي تعرفها بلادنا بعد “التدابير الاستثنائية” للرئيس قيس سعيد ،منذ 25 جويلية، التي اعتبرها البيت الأبيض  “خطرا على الديمقراطية التونسية” ودعا في مناسبات عديدة إلى العدول عنها و”العودة السريعة إلى مسار الديمقراطية البرلمانية”.

       وبصرف النظر عن حسابات أمريكا ومكاييلها المثيرة للجدال، فإنّ هذا الاستبعاد لتونس من “نادي الدول الديمقراطية” الذي دخلته بفضل ثورة الحرية والكرامة وتجربتها الديمقراطية الاستثنائية من بين دول الربيع الربيع العربي، يعدّ انتكاسة تستوجب التوقّف. فقد شكّل المنجز الديمقرطي خلال العشرية الأخيرة عنوانا بارزا لتألّق تونس دوليا وحصولها على مساعدات وامتيازات هامة. فالديمقراطية التونسية الاستثنائية لم تخدم وجهة السياحة فقط، بل كانت تجلب الدعم المتزايد للحكومة وللمجتمع المدني وللمؤسسات ذات الصلة بترسيخ الديمقراطية، بل وتجلب الاستثمار أيضا الذي ينتعش بتحسين مناخات العمل، وفي مقدمتها شفافية المعاملات وإنفاذ القانون واستقلالية القضاء وحرية الإعلام. وتبدو مساهمات الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي وفي مقدمتها ألمانيا، لا فتة في الاستثمار في الديمقراطية التونسية. وهذا ما يفسر جانبا من حرص هذه الأطراف على استئناف المسار الديمقراطي المعطّل منذ 25 جويلية، مع دعمهم لأيّ حوار وطني وجهد تشاركي لمراجعة بعض الخيارات السياسية وتصحيح المسار.

       تجلب الديمقراطية  الدعم الخارجي لتونس من الدول السبع الكبرى الغنية خاصة، التي لا تخفى تأثيراتها في الجهات المالية المانحة، والتي باتت تشترط  صراحة استمرار دعمها للشعب التونسي باستمرار المسار الديمقراطي، في مرحلة تتزايد فيها حاجة بلادنا إلى موارد خارجية لتغطية العجز بميزانية الدولة. لكن الديمقراطية قبل ذلك والأهم منه، أنها شرط ذاتي داخلي للتنمية المستدامة الشاملة والعادلة، وهي العلاج الأنجع لمحاربة الفساد وإنهاء التهميش للأفراد والجهات والفئات.

        ومع إقرارنا بتخلّف المنجز الاقتصادي والاجتماعي عن المنجز السياسي خلال عشرية ما بعد الثورة، وكثرة الأخطاء في ديمقراطية مغشوشة وفاسدة في جوانب هامة منها، لا نرى الارتداد إلى الاستبداد حلاّ للأزمة أو أفقا لتحسين الوضع.  فالحكم الفردي المطلق  الذي يكرّسه قيس سعيد بتجميع السلطات في يده، ووجود حكومة قيسية بلا شرعية ولا قرار ولا أثر، والانفراد بتحديد مسار التصحيح المطلوب  ورسم مستقبل تونس، بصرف النظر عن القدرة على ذلك ومدى استجابة المقترحات لتطلعات عموم الشعب، مؤشّرات عجز واضح عن حوكمة أفضل للبلاد. ولنا العيّنات في ردود الأفعال الشعبية السلبية عن التوجهات الرئاسية في معالجة المشكلة البيئية في عقارب، أو تفعيل القانون 38 لسنة 2020 المتعلق بمن طالت بطالتهم، أو الغضب الشعبي من ارتفاع الأسعار أو التأخر في دفع بعض الرواتب أو الوفاء ببعض الوعود لجهات أو فئات. ولنا في توسّع الرافضين للحكم الفردي بين النخب، خاصة في الأحزاب والمنظمات والجمعيات، أمثلة دالة على الأفق المسدود للانقلاب على الديمقراطية.

       ومع أهمية تركيز الاهتمام داخليا وخارجيا على مخاطر الدكتاتورية القيسية الناشئة،  وجب الانتباه إلى مخاطر الفاشية الزاحفة التي تقودها عبير موسي. فالفاشية صنو الدكتاتورية وإحدى تعبيرات الشعبوية. ومن هنا أوجه الالتقاء  بين سعيّد وموسي في خطاب قُصووي وطهوري، يستهدف كل المخالفين ويعادي الجميع تقريبا، واستفادة كل منهما موضوعيا على الأقل من الآخر، دون إغفال التنافس بل العداوة بينهما. وقد يبلغ الأمر حدود المقايضة السياسية، على غرار ما صرّحت به عبير مؤخرا في كلمتها أمام أنصارها يوم 20 نوفمبر بالقصبة، حين عرضت على قيس التعجيل بانتخابات تشريعية مبكرة، تمنّي نفسها بأن تكون لصالح الدستوري الحر بعد ضمان إقصاء النهضة بالطبع، مقابل دعما ل”رئاسة مدى الحياة” لقيس سعيد. وهي في ذلك وفية بوضوح لعراقة ثقافتها “الدستورية البورقيبية” على هذا الصعيد.

       لم يعد خافيا أنّ حزب عبير يعدّ أسوأ نسخة للتجمع الدستوري المنحل. وهي لا تتردّد في تصريحاتها في تمجيد حكم بن علي وتبخيس ثورة الحرية والكرامة. ولذلك تهاجم بشراسة الدستوريين الذين انخرطوا في المسار الديمقراطي بعد الثورة. وهي وفيّة خاصة للنهج الاستئصالي لجكم بن علي في استهداف حركة النهضة واتهامها بالعنف والإرهاب والرجعية والارتباط بالخارج، ونسبة كلّ سيّئ إلى زعيمها راشد الغنوشي، وما إلى ذلك من معجم التبخيس والافتراء، الذي لم يفلح من قبل، ولن يفلح حاضرا ولا مستقبلا في الإقناع بهذه الديماغوجيا. فقد رحل بن علي عن تونس هاربا وظلت حركة النهضة طرفا سياسيا وطنيا مهما في المعادلة السياسية التونسية.

       لا ترى عبير من مستقبل سياسي لها ولحزبها إلاّ على أنقاض حركة النهضة. ولذلك احترفت استهدافها ورئيسها الغنوشي، وترذيل البرلمان قبل 25 جويلية، وقد اعترفت بذلك صراحة. وهي حين تعارض سياسات سعيد اليوم، لا تخفي مغازلته في استئصال حركة النهضة، والدفع إلى توجيه التدابير الاستثنائية ضدها. والفاشية بهذا المعنى أسوأ على هذا الصعيد وأخطر على المجتمع بلا شك. فخيار الاستئصال كان باهظ الكلفة على تونس قبل الثورة. وانتهى إلى استئصال الديمقراطية وإفساد مناخ الأعمال وفسح المجال للاستبداد والفساد الذين قامت الثورة عليهما. ومن مؤشرات فساد الرأي، تجريب ما جُرّب وثبت فساده. ولذلك أيضا تبدو الفاشية الزاحفة على خطورتها في طريق مسدودة وبلا أفق، على غرار الدكتاتورية الناشئة.

       عرف التونسيون والمعنيون بالشأن التونسي، حركة النهضة، قبل الثورة وبعدها. ومثلما سقطت سرديات “نوفمبرية” عديدة حولها بعد الثورة، ها هي سرديات جديدة عنها تتهاوى بعد أربعة أشهر من انقلاب 25 جويلية.  ومهما اختلفت المواقف من حركة النهضة تأييدا أو معارضة لها وتباينت التقييمات لأدائها، تظلّ كبقية الأحزاب تصيب وتخطئ، ويرتفع سهمها الانتخابي وينخفض. وقد جعلت الانتخابات دورية لمحاسبة الأحزاب والمترشحين لشؤون الحكم. وليس من الديمقراطية في شيء، استعداء الخصم بدل منافسته، والعمل على استئصاله بالانقلاب والتعسف في استعمال السلطة ضده. ومن الحماقة بل من العبث التورّط في اتخاذ الخلاف مع خصم سياسي مهما كان، ذريعة وشماعة للإطاحة بمسار ديمقراطي.

محمد القوماني

*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 233، تونس  في  02 ديسمبر 2021

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: