هل لا يزال سعيد جزءا من الحلّ؟

         بعد مرور 4 أشهر عن انقلاب قيس سعيد واستفراده بالسلطة،  تتالى المؤشرات على بداية تغيّر المزاج الشعبي نحوه عكسيا.  فبعدما تبيّن عجز “الرئيس” على إدارة شؤون البلاد الآخذة في التدهور، وعدم وفائه بوعوده بتغيير الأوضاع نحو الأفضل وتحقيق تطلعات عموم التونسيين خاصة الشباب منهم، وبعد أن توسّعت خارطة المعارضين للانقلاب، وصار جزء هام من النخب يرى في قيس سعيد خطرا على الدولة والمجتمع، تتراجع شعبية الرئيس بسرعة وتخفت الأصوات المهلّلة لقرارات 25 جويلية. وقد يشكّل رفض تفعيل القانون 38 لسنة 2020 مؤخرا، إضافة لسقوط الشهيد عبد الرزاق لشهب رحمه الله تعالى في مواجهات أهالي عقارب مع قوات من الأمن منذ أيام قليلة، منعرجا جديدا في مستقبل المشهد السياسي بتونس. فقد كانت التعليقات بفضاءات التواصل الاجتماعي على صور القنابل المسيلة للدموع المنصبة على المحتجين بعقارب، بأنّها عنوان “انطلاق الحوار مع الشباب”، أصدق “بارومتر” لقيس شعبية الرئيس. وجاءت ردود أفعال الشباب الغاضبين ممن طالت بطالتهم، بحهات عديدة نهاية الأسبوع المنقضي، لتعزّز مؤشرات تغيّر المزاج الشعبي، وهذا أيضا ما عكسه “البارومتر السياسي” الأخير لسيغما،  حول نسب التشاؤم واتجاهات نوايا التصويت. وتلك بعض أسباب تساؤلنا التالي في هذا المقال: هل لا يزال الرئيس قيس سعيد جزءا من الحل للأزمة المركّبة والمتراكمة التي تعيشها بلادنا؟

         لم يعالج الانقلاب الأزمة بل عمّقها. فبعد 4 أشهر تغرق البلاد في مزيد من الضبابية ويعمّ التشاؤم في مختلف الأوساط. فالمؤشرات الاقتصادية ووضعية المالية العمومية على وجه الخصوص، ترجّح فرضية شبح عجز الدولة وإفلاسها. وتزداد المخاوف في هذا الصدد في ظلّ العزلة الديبلوماسية غير المسبوقة، واشتراط الدول السبع الكبرى والاتحاد الأوروبي والجهات المالية المانحة، استمرار دعمها لتونس بعودة “المسار الديمقراطي” وإنهاء “الوضع الاستثنائي”.

 إذ لا يخفى على المتابعين تداعيات تعطّل الحوار مع الجهات المالية المانحة على توفير موارد للميزانية التكميلية لسنة 2021 مع تفاقم العجز فيها، فضلا عن موارد ميزانية 2022.

          كما لا تخفى التداعيات السلبية على مناخ الاستثمار، لمظاهر عدم الاستقرار السياسي، والتي تعكسها الأسيجة الأمنية المبالغ فيها على مراكز الحكم في قرطاج والقصبة وباردو، وبعض المؤسسات والسفارات، علاوة على الدوريات الأمنية المكثفة بالطرقات المختلفة، التي تجعل البلاد أشبه بأوضاع الحرب. كما تكثر الإشاعات مع غموض إدارة السلطة وضعف الحكومة التي تبدو بلا شرعية ولا قرار ولا أثر، وتراجع أوضاع الحقوق والحريات، واستعمال الملفات القضائية بانتقائية لتصفية حسابات سياسية. وتزداد مخاوف عدم الاستقرار وانكماش الاستثمار الداخلي والخارجي، مع ارتفاع وتيرة الاحتجاجات الاجتماعية وعودة مظاهر اقتحام مراكز الولايات والمعتمديات وقطع الطرقات وإحراق العجلات، واحتداد المناكفات السياسية البينية ومع رئاسة الجمهورية.

         وفي ظلّ هذه الأوضاع الخطيرة التي ألمحنا لبعض مظاهرها، يستمرّ الرئيس قيس سعيد الذي يجمّع السلطات بيديه وينفرد بالحكم نصّا وواقعا، في اعتماد خطاب رسمي عنيف وإقصائي تجاه مخالفيه، و في رفض الحوار الوطني المطلوب داخليا وخارجيا من مختلف الأطراف. وفي انتظار إطلاق “المنصات الإلكترونية للحوار مع الشباب”، التي انتقدها عديدون واعتبروها “عناوين” لجمع مقترحات، وليست فضاء تفاعليا للحوار، ومع استمرار الرئيس في أولويات برنامجه “الشخصي”، الذي لا تخفى أولوياته السياسية على حساب أولويات عموم الشعب الاقتصادية والاجتماعية، ومع ارتفاع نسبة البطالة وغلاء الأسعار ودخول فصل الغضب الاجتماعي، قد يفرض الزمن السياسي للمجتمع نفسه على زمن قيس سعيد، وقد تجري الرياح بما لا يشتهي السَّفن.

         فعموم النخب السياسية، على اختلافاتها البينيّة، باتت تستحضر مخاطر الانتظارية السلبية وتدحرج الأوضاع نحو الانهيار الذي يصعب معالجة آثاره، وقد يتأخر بالبلد عقودا. وتؤشر مقترحات “المبادرة الديمقراطية” التي عرضها “مواطنون ضدّ الانقلاب” وكذلك “العريضة  المفتوحة” التي أمضاها عدد هام من النشطاء التونسيين من مواقع ووظائف وأعمار واتجاهات فكرية وسياسية مختلفة،  إضافة إلى التصريحات السياسية خلال الفترة الأخيرة والحوارات المكثّفة بين فاعلين مختلفين، تؤشر جميعها على بداية التفكير في حلول واقعية للأزمة المستفحلة. فقد باتت المقترحات العملية لفتح آفاق للبلاد أهم من إعلان المواقف من الانقلاب، بعد الفرز الذي حصل خلال الأشهر الأخيرة.

         ورغم تتالي البيانات الحزبية والتصريحات المشكّكة في شرعية رئيس الجمهورية قيس سعيد ومشروعيته، بعد نكثه لليمين وإلغائه للدستور الذي أقسم على احترامه، وإطاحته ببقية السلطات، واستفراده بالحكم اعتمادا على القوة القاهرة ودون تفويض شرعي، وانتهاك الحقوق والحريات تحت سلطته، ورغم مخاطر خطابه على المجتمع ومخاطر مشروعه السياسي على الدولة، لا زالت أغلب الأطراف السياسية والاجتماعية تدعوه إلى التراجع عن قراراته وأوامره الرئاسية وإنهاء المرحلة الاستثنائية والجنوح إلى الحوار والعمل التشاركي للبحث عن حلول تستأنف المسار الديمقراطي المعطّل  وتصحّح المسار ولا تعود إلى الوراء. فقد باتتا الآراء متقاربة في التشخيص، وتبيّن أنّ الخطر في الانحراف بالسلطة والتنكّر لقواعد الديمقراطية والخروج عن الشرعية.

         ومهما اختلفت المواقف والمواقع من قيس سعيد وأقواله وأفعاله، فإنّ موقعه في الدولة قبل 25 جويلية وبعده يجعله جزءا من الأزمة بلا شك وطرفا في الحلّ أيضا. وإنّ أربعة أشهر كافية وزيادة ليستخلص سعيّد وأنصارُه أنّ طريق المضيّ في الانقلاب مسدودة وتكلفته باهظة. وأنّ الأزمات السياسية مهما تعقّدت واستحكمت لا تعدم صيغا للتجاوز. وأنّ أبواب الحوار التي لا ينفكّ الداخل والخارج يطرقها،  تظلّ مفضّلة على غيرها من الصيغ لحسم الخلافات. فإن واصل قيس سعيد رفض الإنصات لناصحيه ولمخالفيه في الإنهاء العاجل للمرحلة الاستثنائية والجنوح إلى الحوار التشاركي لرسم معالم المستقبل، فإنّ العقول السليمة تأبى العبث.

         وعلى الفاعلين الوطنيين الأحرار من مختلف مواقعهم، أن يتعالوا على خصوماتهم وأن يقدّموا الأهمّ على المهمّ، وأن يتنادوا إلى حوار وطني لا يتوقف على مشاركة قيس سعيد ولا على موافقته على مُخرجاته، ليضعوا “خارطة طريق” للخروج من الأزمة المركّبة، تستعجل برنامجا للإنقاذ الاقتصادي والاجتماعي وتتوافق على الإصلاحات السياسية الضرورية لإعداد البلاد لانتخابات تشريعية ورئاسية سابقة لأوانها، تعيد القرار إلى الشعب صاحب السيادة في اختيار من يحكمه، بعد أن تآكلت مختلف الشرعيات.  ونحسب أنه لا صوت يعلو على هذه الأولوية في هذه المرحلة.

محمد القوماني

*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 232، تونس  في  25 نوفمبر 2021

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: