حركة النهضة بين مطرقة مُستهدِفيها وسندان مُناضليها

       ليس من المبالغة في شيء القول بأنّ الحريق الذي نشب في المقرّ المركزي لحركة النهضة يوم الخميس الماضي 09 ديسمبر 2021 استوجب عقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن القومي أكّد خلاله الرئيس قيس سعيد على أنّ “تونس لن تتقدم  إلاّ في ظل قبول الآخر والتنافس النزيه” وعلى أنّ “الدولة تتسع للجميع والقانون فوق الجميع” ودعا إلى “الوحدة بين التونسيين”. وغير بعيد عن ذلك عجّل رؤساء البعثات الديبلوماسية للدول السبع الكبرى ووفد الاتحاد الأوروبي بتونس، بإصدار بيان مساء نفس اليوم. كان من أهم ما جاء فيه “التأكيد على أهمية الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي من أجل تلبية احتياجات الشعب التونسي” والتنويه بأهمية “شمولية وشفافية عملية إشراك كافة الأطراف المعنية بما ذلك الأصوات المختلفة في الطيف السياسي والمجتمع المدني” في أية إصلاحات مطلوبة. ويكفي هذا المؤشر دلالة على أهمية حركة النهضة في المشهد السياسي التونسي بصرف النظر عن موقعها في الحكم أو في المعارضة. ومخاطر استهدافها بالاستئصال أو الإقصاء على غرار ما جُرّب وفشل وتأكّدت مخاطره. فهل يستقيم في ضوء ذلك إصرار بعض الاستئصاليين من المغامرين، على التحريض على استهداف وجود النهضة أصلا، والدعوة إلى فسخها من المشهد السياسي باستعمال أجهزة الدولة ضدّها، وخيبة أمل هؤلاء من “خطاب التسقيف الزمني” للرئيس سعيد مساء الإثنين 13 ديسمبر 2021، الذي خلا من إجراءات ضدّ حركة النهضة وحلفائها؟

       كان إقدام السجين السياسي السابق والمناضل من حركة النهضة سامي السيفي، على إضرام النار بجسده وبقاعة الاستقبال بالمقر المركزي لحزب النهضة بالعاصمة تونس، بعد ظهر الخميس 19 ديسمبر 2021، فاجعة كبرى نهضوية بالأساس ووطنية بصفة عامة. فقد تسبّب الحريق بالطابق السفلي للمقر في وفاة فورية لسامي رحمه الله تعالى، الذي أضرم النار. كما تسببت حالة الاختناق بالدخان والذعر بعد انقطاع الكهرباء، في حالة فوضى وإصابات مختلفة لنحو 20 من قيادات الحزب ومناضليه والإداريين الموجودين بالطوابق الخمسة المختلفة، وكانت الأضرار بليغة بالنسبة للقياديين علي العريض وعبد الكريم الهاروني، الذين يرقدان بالمصحة إلى الآن، ونرجو لهما الشفاء العاجل واستئناف النشاط.  وقد حلّت فرق الحماية المدنية بالمكان مشكورة، لتضع حدّا للحادث بسرعة وتنقذ العالقين وتتولى الفرق الأمنية لاحقا التحقيق فيما حصل. ويبقى للتحقيق القضائي وحده، الكشف غن تفاصيل ملابسات العملية ودوافعها. والحمد لله أولا وآخرا على تجنّب كارثة أكبر بكثير.

       كان الخبر الذي انتشر بسرعة في أرجاء البلاد وخارجها أيضا، صادما ومروّعا ومخيفا. فقد مكّنت وسائل الاتصال الحديثة من نقل فوري للحدث ومحاولات عشرات الأفراد ممّن كانوا بالمقر النجاة بأنفسهم بكل الوسائل، وسط حالة من الهلع والجهل بما يحصل. ولم تمنع مشاعر التعاطف الإنساني الطبيعي في مثل هذه الكوارث، مشاعر الشماتة والتدوينات السيّئة لبعض مرضى القلوب من محترفي “فوبيا النهضة”. وكانت بعض ردود الأفعال عليهم حادّة أحيانا، على قدر  حقارتهم.

       هبّ بعض القريبين من مقر الحادثة مشكورين لنجدة المصابين والعالقين. وتوافد مع مرور الوقت عدد كبير من مناضلي النهضة وأنصارها خاصة، للاستفسار وتقديم المساعدة المطلوبة. وكانت مشاعر غيرة المناضلين على حزبهم بادية، والاستعدادات للذّود عنه عالية، وكان الخوف من تبعات استهداف سياسي للمقر غالبة. ونرجّح أنّ انعقاد مجلس الأمن القومي وخطاب الرئيس سعيد غير المعهود في التهدئة مساء الحادثة، وكذلك بيان بعض رؤساء البعثات الديبلوماسية، في التأكيد على الاستقرار وإشراك كل الطيف السياسي في الشأن الوطني، غير بعيدين عن هذه الأجواء المشحونة.

       كان الدرس الأول في حادثة حريق المقر المركزي لحركة النهضة، التنبّه إلى مخاطر خطابات الكراهية والشحن والاحتراب وعواقبها الوخيمة على الأطراف السياسية المتنافسة، وعلى الدولة والمجتمع أيضا. فقوادح تحويل العنف اللفظي إلى نار تلتهم الأخضر واليابس لا قدّر الله عديدة. ولذا وجب الحذر من الجميع. وإذا تمّ استبعاد فرضية استهداف المقر المركزي لحركة النهضة بالحرق من خصومها، والذي تبقى كلمة الفصل فيه للتحقيق القضائي، وهذا مفيد في خفض التشنّج وتجنّب المكروه، فإنّ وجها آخر للحاثة ودرسا ثانيا وجب الانتباه إليه. إذ كانت وفاة المرحوم سامي السيفي مناسبة لإعادة طرح ملف العدالة الانتقالية المغدورة، وأوضاع مئات المضطهدين في عهد الاستبداد،  خاصة ممّن لم تشملهم أيّة إجراءات اجتماعية بعد الثورة ولم تتحسّن أوضاعهم، أو ممّن لم ينالوا حقوقهم بصفة عامة، لا المعنوية ولا المادية.

       تجد حركة النهضة نفسها، وقيادتها التاريخية على وجه الخصوص، بين مطرقة مُستهدِفيها وسندان مُناضليها، في موضوع العدالة الانتقالية. فهي تعاني من سرديّة كاذبة وجائرة، ترعاها جهات سياسية وإعلامية نافذة، مفادا أنّ حركة النهضة جيّرت الثورة لصالحها فقط، وأنهكت المالية العمومية بدفع تعويضات خيالية لقياداتها ومناضليها، الذين صاروا في بحبوحة من العيش بعد الثورة، بعد سنوات من العسر قبلها. وكم قصص حُبكت في الغرض وأساليب ماكرة استعملت في الدعاية، حتّى انطلت السردية الكاذبة على أعداد واسعة من الشعب، وربما طالت بعض أوساط النهضة نفسها. وفي كل حملة تحريضية على النهضة، وآخرها بمناسبة 25 جويلية وما سبقه وما تلاه، يرتفع منسوب خطاب تبخيس النهضة وكراهيتها والتحريض عليها.

       وفي المقابل يؤاخذ مناضلو النهضة قيادتهم خاصة، على تقصيرهم في إنصاف ضحايا الاستبداد الذين يشكّل النهضيون أغلبيتهم الواسعة. فهم الذين منحوا حزبهم المراتب الأولى في الانتخابات ومكّنوه من المشاركة في الحكم خلال عشرية ما بعد الثورة، لكنهم لم ينالوا حقوقهم المشروعة ولم تنفّد مقرّرات العدالة الانتقالية في شأنهم. بل قد تمّ إدماج من صنّفوا ب”المفروزين أمنيا” من عائلات أيديولوجية أخرى، وتمّت تسوية وضعيات عديدة من “التشغيل الهش”، كما سوّيت ملفات اجتماعية مشروعة عديدة، لكن ملف العدالة الانتقالية الذي أقرّته الدولة بعد الثورة، ونصّ عليه الدستور، وتعهّدت به هيئة الحقيقة والكرامة، ظلّ حبرا على ورق. بل صار المناضلون موضوع ازدراء إعلامي وتبخيس سياسي ووصم اجتماعي.

       كان سامي السيفي رحمه الله مثالا حيّا على الوضعية الصعبة لحركة النهضة  بين مطرقة مُستهدِفيها وسندان مُناضليها، في موضوع العدالة الانتقالية. فحالة سامي تطرح مشكلات داخلية للنهضة تأخّر علاجها وستكون لها تبعاتها. وهي تعكس أوضاعا اجتماعية ونفسية صعبة جدّا لعدد هام من مناضلي النهضة الذين يرون في حركتهم الملاذ الأخير. وإذا كانت النهاية الدرامية لمسيرة للمرحوم سامي، تُسقط بلا شك السردية الظالمة لخصوم النهضة حول التعويضات، والذين سرعان ما انقلبوا لنقد “تقصير النهضة في حقّ أبنائها”، فإنّ  هذه الحالة تطرح موضوعا أهمّ وهو مخاطر ردود أفعال من اكتووا باضطهاد دولتهم زمن الاستبداد، على حزبهم وعلى الدولة والمجتمع أيضا.

          فالمناضلون الذين فُتحت لهم آمال العدالة الانتقالية بعد ثورة الحرية والكرامة، ثمّ تعطّل المسار، باتوا يكتوون بالازدراء والوصم والتبخيس والتشويه في مختلف فضاءات الإعلام، وتسدّ الآمال في وجوههم باستهداف وجود حركتهم التي أفنوا أعمارهم  فيها. وها أنّ واحدا منهم يكتوي بنار يُضرمها  لتلتهم جسده المنهك في مقرّ حركته، وقد تمتدّ تلك النار إلى فضاءات أخرى، وربما تصبح تهديدا لجسد الدولة المنهك بالتجاذبات وروح المجتمع المهدّد بالتفكّك والانقسامات، إذا لم تتوقف خطابات الوصم والاحتراب، وإذا لم يُعالج ملف العدالة الانتقالية على أحسن وجه، وإذا لم ينخرط الجميع في مصالحة وطنية باتت أوكد من أيّ وقت مضى، لحفظ كيان الدولة.

محمد القوماني

*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 235، تونس  في 16 ديسمبر 2021

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: