من أزمة ما قبل 25 إلى كارثة ما بعده..والقادم أخطر
لم تعد من مصلحة وطنية فُضلى في استفراغ ما تبقّى من مخزون شحن الناس ضدّ ما سمّي بمنظومة عشرية الثورة وتوظيف غضبهم، لضخّ بعض الأوكسجين لإنعاش منظومة ما بعد 25 جويلية. بل حتّى المناكفات السياسية والأيديولوجية وتصفية الحسابات لم تعد تبرّر أيّ صمت أو مواربة فضلا عن مساندة مهما كانت درجتها لانقلاب 25، بعد أن تأكّد خطره على الدولة والمجتمع وعلى حاضر تونس ومستقبلها. فعشية غلق سنة من الانقلاب، تبدو جميع المؤشّرات التونسية سلبية، ويعيل صبر الناس الذين تبخّرت آمالهم في تحسين أوضاعهم، ويتزايد عدد ضحايا الإجراءات الانقلابية ومعارضيها. وليست المذبحة التي طالت 57 قاضيا بالعزل دون حق الدفاع أو التظلّم، ولاقت سخطا واسعا داخليا وخارجيا، سوى حلقة أخرى من الأغلال التي توضع على جسد وطن ينزف، فتزيد في تأزيم الأوضاع وفي الإساءة لصورة تونس وصعوبات توفير موارد لعجز ماليتها العمومية. ولسنا من المبالغة في شيء حين نوجز ما نعيشه من أكثر من عشرة أشهر بأنه تدحرج من أزمة مركبة ومتراكمة ما قبل 25 جويلية 2021، إلى كارثة وطنية شاملة ما بعده.
مرّة أخرى نؤكّد أنّنا كنا نعالج أزمة خطيرة، مركّبة ومتراكمة، قبل 25 جويلية الماضي، وأنّ أوضاع بلادنا لم تكن على أحسن ما يرام، و كانت تلقى سخطا شعبيا متناميا خاصة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي. ولذلك تفهّمنا تفاعل بعض الأوساط إيجابيا مع الإجراءات الرئاسية الاستثنائية ليوم 25 جويلية رغم طابعها اللاّدستوري غير الخافي. لكن حصائل أشهر الانقلاب كفيلة وحدها بالجواب عن الانتظارات. فاهتمامات قيس سعيد منصبّة على “الجمهورية الجديدة” بعناوينها السياسية، وملاحقة معارضيه، ولا حضور لمطالب الناس الحياتية في التشغيل وتحسين القدرة الشرائية والارتقاء بالخدمات وغيرها، في الخطاب أو الممارسة. وإن حصل ذلك من باب المزايدة والتمويه، فلا يكشف إلاّ عن عجز بنيوي في معالجة هذه المواضيع. ويكفي استحضار نتائج حملات مقاومة الاحتكار أو عنتريات “مسالك التجويع” على مؤشرات الأسعار التي ازدادت ارتفاعا، أو العجز في معالجة الأزمة البيئية بصفاقس، أو الفشل في عقد اتفاق مع صندوق النقد الدولي، أو رصد عدد لقاءات الرئيس قيس سعيد بوزيري العدل والداخلية، مقارنة بوزراء الاقتصاد والصحة والتعليم والنقل وغيرهم، لنفهم حقيقة وفاء 25 جويلية بوعوده وأولويّات قرطاج الحقيقية وقدرات سلطة الانقلاب في تحسين الأوضاع.
نجح قيس سعيد في وضع اليد على مختلف السلطات بالقوة القاهرة، ضاربا عرض الحائط بالدستور والقانون. وكرّس واقعيا حكما فرديا مطلقا لا تقبل أوامره ومراسيمه للطعن. وتمدّد الانقلاب بعد الحكومة والبرلمان والسلطة القضائية، إلى الهيئات الدستورية على غرار هيئة مكافحة الفساد وهيئة الانتخابات. وها أنّ عقلية الانقلاب تتوسّع إلى المنظمات الوطنية على غرار استهداف اتحاد الفلاحين واتحاد الشغّالين. وربما يتمّ استهداف وجود الأحزاب السياسية وحتى المجالس البلدية المنتخبة، بعد تعيين ولاة من “التنسيقيات” ممّن لا رصيد لأغلبهم في كفاءة تسيير الشأن العام، ولا مرجّح في تعيينهم إلاّ الولاء للرئيس قيس سعيد والتظاهر بحدّة مواجهة معارضيه. وتلك عيّنة من “المسؤولين الجدد” في “الجمهورية الجديدة”. وبعد عزل 57 قاضيا وتعديل مرسوم “المجلس الأعلى للقضاء المؤقت” وإطلاق قيس سعيد ليده مجدّدا في التصرف في القضاء، لملاحقة المعارضين له، رغم تكرار خطاب عدم التدخل في شأنه، لم يبق سوى جلوس السيد قيس سعيد نفسه على أرائك القضاة للحكم على معارضيه، بعد أن يدينهم في خطاباته وتتولى تنسيقياته نشر وثائق إدانهم ومحاكمتهم شعبيا في صفحات التواصل الاجتماعي.
لا يصعب على أيّ متابع رصد مخاطر الانزلاقات الخطيرة في خطابات المحسوبين على الرئيس قيس سعيد، في النيل من أعراض المعارضين مهما كانت انتماءاتهم وتشويههم بالإدّعاءات الباطالة والنيل منهم ومن عائلاتهم وسحلهم عبر التعليقات بالفضاء الافتراضي بعبارات سافلة ومخلّة بالأخلاق العامة وغريبة عن المشهد السياسي التونسي. وسيظل ما طال شرف بعض “القضاة المعزولين” مؤخرا، من النساء خاصة، عارا غير مسبوق في تاريخ تونس، وارتدادا عن المكاسب. وأخطر ما في تلك التعليقات شحنات الحقد والتحريض والعنف والدعوات المعلنة للتباغض وللتصفية وتهديد السلم الأهلي. ولم تعد بعض الشخصيات المرموقة تخفي تخوّفاتها من مثل تلك الخطابات وتحذّر من تداعياتها. علاوة على رغبة البعض في الهجرة القسرية.
عبّرت أطراف خارجية مؤثّرة من دول وهيئات دولية عن قلقها الشديد بعد قرار عزل القضاة، من استمرار “تقويض المؤسسات الديمقراطية في تونس” و”التهديد الجدي للحرية وسيادة القانون”، على غرار الإدارة الأمريكية والاتحاد الدولي للنقابات. وأكدت مختلف التصريحات على أهمية الحوار الوطني التشاركي الذي يضمن أوسع توافق وطني لتجاوز الأزمة. لكنّ المشاركة الضعيفة لشخصيات فاقدة للمصداقية والتمثيل، مقابل المقاطعة الصريحة لهيئة الصادق بلعيد للحوار الصوري في اجتماع السبت 04 جوان الجاري، من المنظمات الوطنية الوازنة والجامعيين والأحزاب وأغلب الشخصيات التي تمت دعوتها، عنوان إضافي آخر على مضيّ سلطة الانقلاب في المرور بقوّة في فرض مشروعها، رغم المعارضة الداخلية والتحفظات الخارجية. وهذا أكبر مؤشّر على استمرار الأزمة والتوغّل أكثر فأكثر في الكارثة الوطنية الشاملة التي تمر بها تونس ما بعد انقلاب 25 جويلية. وقد صارت مخاطر الإفلاس والمجاعة وربما الاحتراب الأهلي في تونس موضوع تقارير دولية متضافرة.
يستطيع قيس سعيد عبر القوّة القاهرة، أن يبسط سلطان الحكم الفردي المطلق، وأن يستهدف القيادات الشرعية للهيئات الدستورية والمهنية والمنظمات الوطنية والأحزاب السياسية والمجالس المنتخبة وغيرها، وأن يعزف على أوتار الغضب الشعبي على أداء الطبقة السياسية برمتها، وأن يمرّر الاستفتاء غير الشعبي، لكنه مع كلّ ذلك لن ينجح في حلّ مشكلات تونس الاقتصادية والاجتماعية أساسا ولا في تحسين عيش عموم التونسيين. ومهما كانت الإجراءات القمعية مثل منع السفر أو المحاكمات السياسية أو الضغط بمختلف الوسائل على النشطاء وأصحاب المواقف الرافضة للانقلاب، فإنّ خبرة النخب التونسية في مقارعة الاستبداد، ومنسوب الحريات العالي الذي عرفته عشرية ما بعد الثورة، وعراقة المنظمات الوطنية المناصرة للحريات وأرصدة النضال السياسي، وتمسّك عموم التونسيين بالخيار الديمقراطي ودعم الخارج لهذا المكسب، تمنح مجتمعنا دفاعات مدنية وسياسية قوية نعوّل عليها في كسب المعركة من أجل استئناق المسار الديمقراطي وتصحيحه في أقرب الآجال. ولنا في الوقفة المشرّفة للقضاة بمختلف هياكلهم يوم السبت الماضي 04 جوان وإضرابهم الناجح التالي لقراراتهم الشجاعة، والمساندة المتنامية لهم من القوى المدنية والسياسية خير حافز عل مواصلة خوض معركة المجد والانتصار في نهايتها.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 259 تونس في 09 جوان 2022
مقالات ذات صلة
25 جويلية: جمهورية مغدورة.. وذكرى حزينة..
2023-07-25