همسة في آذان الأصدقاء الإعلاميين..”أُكلنا يوم أُكل الثور الأبيض”

أصدر قاضي التحقيق بالمحكمة العسكرية بتونس صباح الإثنين 13 جوان 2022 بطاقة إيداع بالسجن في حق الصحفي صالح عطية. وقد انسحب لسان الدفاع من جلسة التحقيق لعدم توفر شروط المحاكمة العادلة حسب تصريحات بعض المحامين. وتمّ إيقاف صالح عطية مساء السبت 11 جوان على خلفية تصريح صحفي أدلى  به لقناة الجزيرة، مفاده “امتناع الجيش عن تنفيذ تعليمات رئيس الجمهورية بغلق مقرات الاتحاد العام التونسي للشغل وإيقاف قياداته”. كما ورد ببيان النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين في الغرض. الذي أكّد على “موقفها المبدئي الرافض للمحاكمات العسكرية في حقّ المدنيين سواء كانوا صحفيين أو غيرهم من المواطنين، وتجدّد تمسّكها بمحاكمة القضايا المتعلقة بالنشر والتصريحات أمام القضاء المدني ووفق مقتضيات المرسوم 115 المنظّم للصحافة والطباعة والنشر”.

لم يكن استهداف قيدوم الصحفيين التونسيين  صالح عطية الأوّل وقد لا يكون الأخير ضمن سياسة استهداف الحريات العامة ما بعد انقلاب 25 جويلية، والتي ذكرت النقابة سابقا أنّ “حرية الصحافة تواجه الخطر الداهم” في ظلّه، وذلك على هامش الاحتفال باليوم العالمي لحرية الصحافة يوم 3 ماي 2022. كما اعتبر نقيب الصحفيين  “أنّها أسوأ فترة مرّ بها الإعلام التونسي”. وإذ نعبّر عن تضامننا الكامل مع الصديق صالح عطية، ونطالب بإطلاق سراحه فورا، والتخلي عن قضيته لفائدة القضاء العدلي وضمان حقوقه من خلال مُحاكمة عادلة وفق أحكام المرسوم 115 المتعلق بحرية الصحافة، فإنّنا نودّ في تفاعل مع هذه القضية، أن نهمس في آذان سائر أصدقائنا الإعلاميين بالملاحظات التالية:  

1 ـ لست إعلاميا، ولكنّي أكتب بالصحف والدوريات التونسية والعربية منذ عقود، ونشرت مئات المقالات المختلفة. علاوة على مئات التصريحات الصحفية  الشخصية والمشاركة في منابر إعلامية عديدة. ويكفي هذا السبب لأكون صديقا لكثير من الإعلاميين، فضلا على أن أكون مستهلكا لما ينتجه الإعلاميون في وسائلهم المختلفة. ولا أخفي تقديري لجهودهم وتعاطفي مع الكثير منهم في معاناتهم. كما أقدّر عاليا دور السلطة الرابعة في الرقابة على السلطات الثلاث الأخرى وحماية الحقوق وتعزيز الديمقراطية وضمان الشفافية. وقد عبّرت بوضوح في سرديتي عن الثورة في كتابي “ما بعد العلمنة والأسلمة” عن أنّ الإعلام التونسي الذي نال حريته  بعد 14 جانفي  2011، بدا منحازا ضد الحكم، وكان عنصرا إيجابيا هاما في تحقيق التوازن المفقود بين الحكم والمعارضة خلال العشرية الأخيرة ذات المنسوب العالي في حرية التعبير.  

2 ـ أعجب للتغيّر السريع في الخطّ التحريري لعديد وسائل الإعلام التونسية بعد 25 جويلية وانقلاب مواقف بعض الإعلاميين، من الجرأة والجسارة إلى الخوف والتحفّظ المبالغ فيه. وإن كان من الطبيعي أن يتغير الموقف السياسي بتغيّر المواقع والتوازنات، فإنّه من غير الطبيعي أن يتخلّى الإعلام عن موضوعيته وعن دوره في كشف الحقيقة وإنارة الرأي العام. ويكفي أن نرصد تغيّر المعجم في خطابات كثير من الإعلاميين، دون تعميم. فقد غاب التركيز على “التعيينات بالموالاة” وضعف توفّر الكفاءة في المسؤولين، و”اختراق أجهزة الدولة”، و”التمكين” رغم الأمثلة العديدة والصادمة في هذا المجال ما بعد 25 جويلية. كما تراجعت نبرة نقد الحكم وهفوات المسؤولين وارتفاع الأسعار وندرة بعض الموادّ. وضعفت مساحات التعبير عن الرأي المعارض في أغلب المنابر، بل تخلّت منصّات مؤثّرة عن أيّة برامج سياسية حوارية.  ولم يعد “الحكّام الجدد” وخاصة رئيسة الحكومة ووزرائها على ذمّة وسائل الإعلام كما كان خلال العشرية. وكادت بعض المنابر أن تذكّرنا ب”الإعلام البنفسجي” قبل الثورة.

3 ـ لم تتأخّر سلطة الانقلاب في استهداف حرية الإعلام. فقد تمّ منذ الأيام الأولى ما بعد 25 جويلية غلق بعض وسائل الإعلام أو غلق مكاتب بعضها أو التضييق على إعلاميين أو محاكمة بعضهم. وتمّ إعادة التصريح لبعض المنابر بعد تغيير خطّها التحريري السياسي المعلوم عنها. وليس إيقاف الصحفي صالح عطية وإحالته على القضاء العسكري سوى إنذار جديد ومؤشّر خطير على هذا الصعيد. فصالح عطية الذي يكتب منذ عقود في السياسة، في العهدبن البورقيبي والنوفمبري وبعد الثورة، ونشّط برامج تلفزية حوارية بعد 2011، وكانت له مواقف نتّفق معه فيها أو نختلف، وتضامن بوضوح مع سياسيين ونقابيين وحقوقيين وإعلاميين، طيلة العقود الماضية، لم يتعرّض للإيقاف. ونشره لخبر تعدّه السلطة “كاذبا”، يستوجب تصحيح رسميا من الجهة المعنية لا أكثر. وإذا تعلّق الأمر ب”جريمة” فيحال على القضاء العدلي المدني  في حالة سراح وفق القوانين المنظّمة للإعلام، ولا يشكل سراحه أيّة خطورة ولا تستوجب حالته هذه الإهانة والتنكيل به وبعائلته في هذا الظرف الصعب على جميع الأصعدة.  

        4 ـ جاء في الأثر “أُكِلتُ يوم أُكِلَ الثورُ الأبيض”. وهو مثل بصرف النظر عن أصله، يُضرب عند الشعور بالنّدم على التفريط والتهاون في الحقوق، والإحساس  بأنّ الأمر السيّء الذي يبدأ بغيرك وتتورّط في حصوله ينتهي عندك. وملخّص حكاية هذا المثل أنّ ثلاثة ثيران  أبيض، وأسود، وأحمر، كانت في غابة كثيفة الأشجار، ومعها أسد، فكان لا يقدر  على أحد منها لاجتماعها عليه.  فقال الأسد للثور الأسود والأحمر: “إنه لا يدلّ عليكما إلا الثور الأبيض، فإن لونه مشهور، ولوني على لونكما، فلو تركتماني آكله”.  فقالا: “دونك وإياه فكله”، فأكله.  ومضت مدة على ذلك، ثم إنّ الأسد قال للثور الأحمر: “لوني على لونك، فدعني آكل الثور الأسـود”، فقـال له: “شأنك به”، فأكله. ثم بعد أيـام قال للثور الأحمر: “إني آكلك لا محالة”؛ فقال الثور الأحمر: “دعني أنادي ثلاثة”، فقال الأسد: “افعل”، فنادى الثور الأحمر: “إنما أُكلت يوم أُكِل الثورُ الأبيض” قالها ثلاثا، قبل أن يأكله الأسد.

ومن نافلة القول أن نزيد قياسا على هذا المثل، أنّ سكوت الإعلاميين عن ظلم أحدهم أو بعضهم، سيدفعون ضريبته لاحقا. وأنّ السكوت عن الحقّ والتنازل عن المبادئ لسبب أو لآخر ومهما كان الظرف، ومهما كانت الضحية، تكون كلفته عالية. ومن قبل بانتهاك الدستور وحلّ الحكومة والبرلمان بغير الصيغ التي يتيحه الفصل 80، وتواطأ مع مسار انقلاب 25 جويلية بدافع المناكفة الأيديولوجية أو السياسية، أو كرُه مشهد ما قبل 25، سيندم مع الوقت وسيكتشف أنّ الانقلاب لا يبقي على حقوق أحد ولن يسلم من جوره طرف.

5 ـ  خلال هذه الأسابيع الحاسمة في معركة الديمقراطيين مع الحكم الفردي المطلق، وبعد أن طال استهداف سلطة الانقلاب نوّاب الشعب والقضاة والمحامين والإعلاميين والسياسيين ورجال الأعمال والأحزاب والمنظمات والجمعيات، ومع الوقت يتوسع الاستهداف وتكثر الضحايا، حريّ بنا أن نقدّم الأهمّ على المهمّ، وأن نجمع الأماني في باقة واحدة والأيادي في قبضة واحدة. فالاستبداد دائما يكون بسطوة أقلية على أغلبية، كان الكواكبي بليغا في وصف تلك الأغلبية قائلا “عليهم يصول وبهم على غيرهم يجول”. فلو توحّدت الإرادات وتجمّعت القوى سهل الأمر مهما كانت قوة المستبدّ. وللإعلاميين دورهم المميّز على هذا الصعيد. ففي الاتحاد قوّة كما كنا نردّد منذ الصغر. ومن قبل أوجز ما نحتاجه في هذه المرحلة، المهلّب بن أبي صفرة الأزدي، الذي عيّنه الحجاج عاملا على خراسان، حين خاطب أبناءه قبل وفاته بقوله: “تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسّرا، وإذا افترقن تكسّرت آحادا”. فقد صار طيّ صفحة الانقلاب شرط التقدّم باتجاة أيّة حلول سيتم التوافق عليها بعده، عبر حوار وطني فعليّ للإنقاذ الاقتصادي والاجتماعي أولا. و أيضا لإدارة مرحلة انتقالية جديدة وإنجاز الإصلاحات السباسية والقانوتية الضرورية لتنظيم انتخابات مبكرة رئاسية وتشريعية، تضمن استمرار المسار الديمقراطي وتصحيحه كذلك، وعدم تكرار أخطاء عشرية ما بعد الثورة.

محمد القوماني

*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 260 تونس  في 16 جوان 2022

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: