الخناق يشتدّ حول رقبة الانقلاب

بينما تتسارع الأحداث عشيّة تنظيم استفتاء 25 جويلية لغلق قوس المسار الديمقراطي، عبر إلغاء دستور الثورة وفرض ما يسمّى “الجمهورية الجديدة”، يبدو أنّ رئيس سلطة الأمر الواقع قيس سعيد أكثر من يعمل على فتل الحبل الذي يشدّد الخناق حول رقبة الانقلاب، ليغلق قوسه في نفس المناسبة. فبعد المراسيم والأوامر الرئاسية الأخيرة التي تكرّس سياسة المرور بالقوّة وتستعجل فرض الأمر الواقع، والتي لاقت انتقادات حادّة من المختصّين في القانون ورفضا من المعارضة وصدّا من بعض المنظمات الوطنية والأطراف المدعوّة للحوار الوطني الصوري، جاء تقرير لجنة البندقية يوم 27 ماي 2022 ليطلق رصاصة الرحمة على استفتاء 25 وعلى عموم الروزنامة  القيسية والمسار الانقلابي برمّته. ومن هول وقع تقرير البندقية الذي بُذلت جهود جبّارة في الخفاء لمنع صدوره أو التأثير في محتواه، جاء ردّ الفعل المتشنّج عليه علنا، من قبل الرئيس قيس سعيد نفسه في خطابه المباشر لوزير الخارجية عثمان الجرندي مساء الإثنين 30 ماي.

“اللجنة الأوروبية للديمقراطية عبر القانون”، المعروفة ب”لجنة البندقية”، نسبة إلى مكان الاجتماعات الدورية لأعضائها بشمال إيطاليا، هي جهاز استشاري لمجلس أوروبا حول القضايا الدستورية، تمّ إنشاؤه سنة 1990. وتضم اللجنة 61 دولة عضو، منها 46 دولة في مجلس أوروبا و15 دولة أخرى  من خارجه من بينها تونس والجزائر. وتتألّف اللجنة من خبراء في مجال القانون الدستوري والقانون الدولي العام وأعضاء برلمانات محلية، من بينهم ممثلين عن الدولة التونسية.

صدر تقرير لجنة البندقية يوم 27 ماي 2022، جوابا على استشارة تقدّمت بها مفوّضية الاتحاد الأوروبي بتونس يوم 27 أفريل الماضي، حول المرسوم الرئاسي عدد 22 المؤرخ في 22 أفريل 2022 الذي عدّل القانون الأساسي للهيئة العليا المستقلة للانتخابات وغيّر خاصة تركيبتها المنتخبة من البرلمان، إلى هيئة معيّنة من رئيس الجمهورية. ولئن أبدت اللجنة تحفّظا عامّا على مجمل الأوامر الرئاسية والمراسيم الصادرة منذ 26 جويلية 2021، فإنّها اعتبرت المرسوم عدد 22 “مخالفا للدستور والمعايير الدولية المتعلقة بنزاهة الانتخابات”. ودعت في تقريرها بوضوح، إلى “إلغاء مرسوم تعديل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات”. وإلى استمرار هيئة الانتخابات بتركيبتها القديمة بالإشراف على الاستفتاء، الذي رأت  “أنّه من غير المقبول إجراؤه دون أن يسبقه بوقت معتبر، توضيح للقواعد والإجراءات التي سوف يسير وفقها، وخاصة صدور نص الدستور المزمع عرضه على الاستفتاء.”

جاء تقرير لجنة البندقية ليعزّز مواقف الأغلبية الساحقة لخبراء القانون في تونس، بل كان متحفّظا إلى حدّ  بعيد بالمقارنة، في رسائله السياسية. فالأستاذان عياض ابن عاشور وكمال بن مسعود على سبيل المثال، يعتبران كلّ  بُني على الاستعمال الباطل للفصل 80 من الدستور باطلا. كما أضفى التقرير قوّة إضافية على مواقف الأحزاب والمجتمع المدني الرافضة للمرسوم 22 والمسار التشريعي لانقلاب 25 جويلية عموما.  بل كان تقرير البندقية بمثابة المضادّات للصواريخ القيسية. فاللجنة الأوروبية للديمقراطية عبر القانون، جهة دستورية مُحكّمة، كيّفت المسار الانقلابي بعد 25 جويلية بصفته “بناء فوضويا”. وأعطت التفويض القانوني بإزالته. ولذلك نعدّها رصاصة رحمة على “الاستفتاء” والمسار الانقلابي عموما. ومن هنا الانزعاج الكبير والهلع في صفوف الانقلابيين رغم عنترياتهم الخطابية وفرقعاتهم الإعلامية.

وقد تزامن “رصاص البندقية” مع انتفاضة الجامعيين من أساتذة القانون  والعلوم السياسية الذين حرّضوا  عميدات وعمداء كليات الحقوق والعلوم القانونية والسياسية وعاضدوا رفضهم للأمر الرئاسي 505 لسنة 2022 الأشبه ب”التسخير”، الذي تمّ تعيينهم بمقتضاه دون موافقتهم، في “اللجنة الاستشارية القانونية”، لحوار وطني صوري، عبروا عن عدم استعدادهم للمشاركة فيه “تمسّكا بحياد المؤسسات الجامعية”. كما صدعت الهيئة الإدارية للاتحاد العام التونسي للشغل برفضها القاطع للمشاركة في حوار مسبق النتائج ولا يتوافق مع رؤية المنظمة. وصرّح الأمين العام لاتحاد الشغل نور الدين الطبوبي بعد الأمر 505 أنه لن يشارك في “اللجنة الاستشارية للشؤون الاقتصادية والاجتماعية” ولن يعيّن من يمثّله في الحوار الوطني المزعوم. وجاء بيان القيادة الشرعية للاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري في نفس الاتجاه رافضا المشاركة. كما لا قت موافقة الهيئة المديرة للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان على المشاركة، انتقادات حادّة من الفروع الجهوية للرابطة ومن قدماء الرؤساء والمسؤولين. وبذلك يجد الحوار المزعوم نفسه في حالة الاستحالة قبل انطلاقه. فضلا عن الوقت الذي يمرّ سريعا، ويضغط على الروزنامة القيسية المتأخرة أصلا عن مواعيدها.

لا يجد رئيس سلطة الأمر الواقع من خيارات في مواجهة مأزق الحصار السياسي الداخلي والخارجي، والتقاط بعض الأنفاس أمام اشتداد حالة الاختناق، سوى اللجوء إلى الآليات التقليدية التي تبيّنت محدوديتها في مواجهة الخصوم، وأبرزها إشهار سيفي القضاء والأمن في وجوه المعارضين. وهذا ما يفسّر كثرة لقاءات الرئيس سعيد بوزيرة العدل ووزير الداخلية بصفة مكثفةّ دون سائر الوزراء المعنيين بالاقتصاد والمالية العمومية والخدمات ونحوها. فأولويات الرئيس كما يتأكد مع الأشهر غير أولويات عموم الشعب الذي علّق آمالا عل تغيير إيجابي في الأوضاع بعد 25 جويلية ولم يجن سوى السراب. وللتغطية عن هذه الخيارات المفضوحة يتمّ رفع شعار “السيادة الوطنية” وتغذية المعارك ضدّ “الخارج” واللعب على تهم “التخوين” و “العمالة”.

وفي هذا السياق وفي محاولة لتبديل الوجهة وصرف الأنظار عن الأزمة الاقتصادية والسياسية المستفحلة، يتمّ العزف على وتر “فوبيا الإسلام السياسي” ويتمّ استخدام الملفات الأمنية والقضائية المستهلكة على نحو ما يعرف ب”الجهاز السرّي لحركة النهضة” واستهداف بعض قيادات حزب النهضة إرباكا له وإضعافا لجبهة الخلاص الوطني وتخويفا للمعارضة. كما يتمّ استهداف قيادات المنظمات الممانعة على غرار الانقلاب على رئيس اتحاد الفلاحين عبد المجيد الزار، والذي تمّ تنصيب المنقلب نور الدين بن عياد مكانه عبر القوة العامة صباح الثلاثاء 31 ماي 2022 ، في مشهد بالغ الخطورة وغير مسبوق في علاقة السلطة بالمنظمات الوطنية.

لن تزيد سياسة القمع، إلاّ مزيد الصمود والتحدّي لمعارضة ذات خبرة في مواجهة الاستبداد. ولن تزيد سياسة الانفراد بالقرار ومحاولة المرور بالقوة المعارضة المختلفة بينها إلاّ فرصا إضافية للتقارب وتوحيد الجهود في مواجهة الأخطار المشتركة. ولن تزيد خُطب العنتريات والاستخفاف بالعلاقات بالمؤسسات والدول والمهاجمة المجانية لها، إلاّ مزيدا من التضييق المالي والعزلة الديبلوماسية لتونس الانقلاب. وإن رجح تمرير الاستفتاء القيسي بالقوة القهرية كما أسلفنا في مقالنا الأخير، رغم حجم الرفض الداخلي الكبير والتحذيرات الخارجية المتزايدة، فإنّ ذلك سيعجّل بغلق قوس حكم قيس سعيد، الذي يشتدّ عليه الخناق، وصار رحيله شرط التقدّم باتجاة أية حلول سيتم التوافق عليها بعده. وفي انتظار ذلك للأسف تغرق تونس أكثر فأكثر، وتزداد كلفة الخروج من أزمتها المركّبة والمتراكمة.

محمد القوماني

*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 258 تونس  في 02 جوان 2022

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: