فلنتهيّأ للأسوأ في مواجهة تداعيات كورونا
استمعت أكثر من مرّة لرئيس الحكومة إلياس الفخفاخ يعبّر بوضوح أنّه تفاجأ وفريقه، فور استلامهم لمهامهم، بحجم تداعيات انتشار فيروس كورونا على الوضع العام بالبلاد وعلى أولويات الحكومة وسرعة نسق الإجراءات المستوجبة على الصعيد الصحي وبقية الأصعدة لا سيما الاقتصادية والاجتماعية والأمنية أساسا. وكلّما سُئل الفخفاخ عن المسقبل أجاب بأنّه لا يمكنه توقّع ما سيحصل، وأنّه يتعاون مع جهات عديدة على إدارة يوميات أزمة، لا أحد يجزم بمستقبل تطورها ولا بنهايتها، لا من حيث التوقيت ولا من حيث التداعيات. ونكاد نسمع نفس الإجابة من وزير الصحة وسائر الوزراء الأكثر معنيّين بالحرب على كورونا.
وكلّما استمعت لهذه التصريحات أستحضر جلسة نيل هذه الحكومة لثقة البرلمان يوم 27 فيفري 2020، حين عبّرت شخصيا عن تحيّتي وتقديري لشجاعة هذا الفريق الحكومي الذي يُقدم على تحمّل المسؤولية في وضع اقتصادي واجتماعي صعب جدا، وفي أفق مواجهة التداعيات المحتملة لانتشار كورونا ببلادنا الذي لم يبدأ رسميا يومها. وبعيدا عن معارك الاختصاص وتباين التحاليل حول الوباء، لا نكون مخطئين حين نستند إلى واقع تطوّر الوباء في العالم وفي الإقليم وإلى متوسّط التوقّعات، لنرجّح احتمال استمرار الأزمة لفترة أطول بكثير ممّا كان في الحسبان. ولا نكون متشائمين حين ندعو إلى التهيّؤ إلى الأسوأ صحيّا واجتماعيا واقتصاديا وأمنيا، على مستوى مؤسسات الدولة وكذلك في المجتمع والأسرة وعلى الصعيد الفردي.
فوزارة الصحة التي تجنّدت مختلف طواقمها بقيادة الوزير/الطبيب عبد اللطيف المكي، نجحت إلى حدّ الآن في التحكّم في نسق انتشار العدوى مند مطلع الشهر الماضي. ودون التبخيس من الشكر المستحق لهم، لا يمكن إخفاء ما بدا في الأداء العام من محدودية في الإمكانيات وأخطاء في بعض القرارات وتردّد لدى بعض موظفي الصحة،بسبب غياب وسائل الحماية الكافية، وأسباب أخرى.
ورغم التفاؤل بكسب الحرب بأخفّ الأضرار، مقارنة بما يحصل بدول كبرى تزامنت معنا في العدوى، فإنّ القائمين على وزارة الصحة غيّروا من خطابهم خلال الأيام الأخيرة ليظهروا نبرة من التحذير المُشبع بالتشاؤم والتخوّف من القادم. وفي الوقت الذي يتمّ فيه التأكيد على تشديد وسائل التوقّي وفي مقدمتها التزام الحجر الصحي العام، ويقع تجميع المصابين في أماكن تمّ تجهيزها لهم، وتوجيه من يستدعي منهم التدخل الطبي العاجل إلى المستشفيات، ويرتفع عدد المشمولين بالتحليل يوميا، يتمّ بالتوازي مع ذلك إعداد مساحات كبرى لإيواء المرضى، ويسابق المسؤولون الزمن في استيراد المستلزمات العلاجية وطلب المساعدات الممكنة. وهذا مجهود مشكور في التهيؤ للأسوأ الذي يضلّ أحد الفرضيات، وأهل الاختصاص من جنود الصفوف الأولى أدرى بنسبة إمكانية حصوله.
ومع إعطاء الأولوية المطلقة للصحة، والحرص على حماية حياة المواطنين، تضبط بقية الوزارات بقيادة رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ، وقع أنشطتها على مواجهة تداعيات الحرب على كورونا. سواء تعلّق الأمر بالإجراءات الاجتماعية العاجلة لمساعدة المحتاجين، أو بالإجراءات الاقتصادية لحماية المؤسسات ومواطن الشغل وضمان توفير الغذاء ومستلزمات الحياة الحيوية، أو بإجلاء التونسيين العالقين. كما يتمّ توجيه جزء من جهود مؤسستين العسكرية والأمنية لضمان تطبيق مختلف القرارات وضبط الوضع الأمني العام والتصدي للتجاوزات واستغلال الظرف لمآرب يمنعها القانون. وتبقى جهود مختلف الوزارات مشكورة رغم ما يوجّه لها من نقد وما يظهر في أدائها من هنات. وليس لنا من خيار في أزمة يرتبط فيه الخلاص الفردي بالأداء الجماعي، سوى الثقة بمؤسسات الدولة والوقوف إلى جانبها.
لكن الذي يجب التهيؤ إليه أكثر هو احتمال مزيد تعقيد الوضع بضعف إمكانيات الأسر والأفراد وتقلّص المؤونة وضجر الناس مع طول مدّة الحجر وتوقّف أغلب الأنشطة. ويمكن الاستفادة ممّا حصل خلال الأسابيع القليلة الماضية، وهي مدة قصيرة نسبيا، في توقّع الأسوأ إذا تراجعت كميات السميد والفرينة والمواد الغذائية المختلفة التي تمّ ضخها في السوق المحلية بما تجاوز المعدلات المسجلة منذ عقود. ولذلك لا نستبعد أدوارا متعاظمة للجيش والأمن في إدارة الأزمة في الفترة القادمة.
ومن مفارقات الوضع أن يتمّ تسجيل ارتفاع ملحوظ في كميات القمامة اليومية المرفوعة من المنازل بما يؤشّر على ارتفاع الاستهلاك في زمن الأزمة الخانقة. وتحيلنا الملاحظة الأخيرة إلى متطلبات التهيؤ المجتمي والأسري للأسوأ المتوقّع. فمهما تحسّن أداء مؤسسات الدولة المختلفة، ومهما كان نقدنا لأدائها، لا بدّ من توجيه النقد إلى السلوك المجتمعي والأسري في خرق الحجر الصحي، واللهفة على تخزين البضائع، والرفع في الاستهلاك، واستغلال الظرف للاحتكار والاستغلال والربح السريع والاستفادة من أزمات الغير، وغياب التضامن وانتعاشة النشل والسرقة ومحالفة القانون وتشتيت جهود الأمن. علاوة على الأنانية المبالغ فيها والإساءة البليغة للآخرين من خلال رفض البعض لدفن موتى وباء كورونا في المقابر التي يختارها أهلهم أو تأذن بها المصالح البلدية.
فبقدر ما تستدعي الأزمات مشاعر التضامن وتُعلي من الروحانية وتكثّف جوانب الخير في الناس، بقدر ما تعرّي الأزمات أيضا الشرّ والأنانية والسيئ في الإنسان وفي الوعي الذاتي والثقافة المجتمعية. لذلك ما أحوج مجتمعنا في هذه المرحلة إلى جهود جمعيات المجتمع المدني في معاضدة مجهود الدولة، في المجال الاجتماعي خاصة، وإلى الخطباء والكتاب والشعراء والمبدعين في رفع معنويات الأفراد والشعب، وتصحيح الوعي وإصلاح السلوك الفردي والعلاقات الاجتماعية.
ويظلّ المعوّل الأساسي عليه في مثل هذه الأزمات هو الوعي الذاتي والسلوك الفردي. فليتهيأ كل منّا للأسوأ بأن يحيا يومه كأنه يعيش أبدا، ويستحضر آخرته وكأنه سيموت غدا. فهذا زمن الثقافة الدينية الأصيلة والروحانية الإيمانية التي تقوّي العزم وترفع من المعنويات والمناعة. ففي زمن جائحة كورونا تعيش أجيالنا لحظات غير مسبوقة، يكاد تستوي فيها فرص الحياة أو الموت، و حريّ بكل منا أن يتفكّر في أفق أرحب، حيث يحاصرنا فيروس كورنا القاتل، فتُحبس أجسادنا في جدران منازلنا، وتحبس أنفسنا التائقة إلى المطلق في أجسادنا المشدودة للشهوات، ويبدو ليس أسوأ من الموت ينتظرنا أو يتربّص بأحبّتنا.
أن نتهيّا للأسوأ على الصعيد الفردي من إحدى الزوايا، هو أن نتأمّل في أنّ الحياة ليست في نهايتها سوى معركة خاسرة ضدّ الموت. فنحن نعمل ونكسب لكي نأكل ونشرب ونتداوى ونعيش بكرامة ودون أوجاع، لكننا سنموت في النهاية. وها أنّ فيروسا من الكائنات غير المرئية يتهدّد حياة عالم الحداثة وما بعد الحداثة ويقلب معايير وأوضاعا لم نفكّر فيها من قبل. و قد يكون كسب المعركة الفردية ضدّ الموت بالتحرّر الذاتي من الخوف من الموت، بحسن الاستعداد له وحسن العاقبة.
فكثيرا ما نقرأ نحن المسلمين آيات القرآن دون نلقي لها بالا ومنها قوله تعالى “وللآخرة خير وأبقى”. فلتكن أعمالنا في مساعدة غيرنا في هذه الأزمة تغليبا لآخرتنا المفضّلة. ولتكن أعمالنا في الإنابة إلى الله تعالى والتسبيح والاستغفار خير ما يدفع به المولى عنا الوباء، أو خير ما نودّع به دنيانا الفانية لآخرتنا الخالدة.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 151، تونس في 11 أفريل 2020 (نسخة إلكتونية فقط)
فراد والشعبأأأ
مقالات ذات صلة
25 جويلية: جمهورية مغدورة.. وذكرى حزينة..
2023-07-25