أولويات وطنية وخيارات تؤكدها تداعيات كورونا

 

 

        قد تطول أزمة انتشار فيروس كورونا في تونس وفي العالم وقد تقصر، بحسب عوامل عديدة غير مُتحكّم في أهمّها، وإن كان مؤشّر نسبة الوفيات ببلادنا إلى حدّ الآن يبعث على التفاؤل.  لكن الأكيد أنّ التداعيات الاقتصادية لهذه الأزمة غير المسبوقة، ستكون أطول وأخطر. فبعد أن تجاوز عدد المصابين الجملي بكوفيد 19 المليونين في جميع أنحاء المعمورة، وبعد التمديد في فترات الحجر الصحي في دول عديدة من بينها تونس، ومن خلال المؤشرات الأولية التي تتناقلها وسائل الإعلام استنادا إلى بعض الدراسات أو الوقائع، نتبيّن أكثر فأكثر أنّ الأوضاع الصعبة التي ستعيشها بلادنا لا تثبّت أولويات وخيارات سابقة للأزمة، بل تؤكدها وتكشف الحاجة الملحّة إليها، وفي مقدّمتها معالجة التحديات الاقتصادية والاجتماعية واعتماد حكومة وحدة وطنية وتصحيح العلاقة بين الدولة ومواطنيها ببناء الثقة وتحسين الخدمات الأساسية ومزيد إبراز البعد الاجتماعي للدولة وتفعيل المواطنة.

        فقد انتقد البعض تصريح رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ، في أوّل حوار صحفي له يوم 10 مارس 2020 واعتبروه متشائما وغير مناسب من زاوية الزمن السياسي والآثار المترتبة عنه، حين توقّع تراجع نسبة نموّ اقتصاد بلادنا بنصف نقطة مئوية خلال العام الجاري ليصبح 1 بالمئة، بسبب تداعيات انشار فيروس كورونا على القطاعات المحلية. وهاهي توقّعات صندوق النقد الدولي، بعد شهر من حوار الفخفاخ تأتي صادمة بإعلانه يوم الجمعة الماضي 10 أفريل، أنّ الاقتصاد التونسي سيعرف نسبة انكماش ب4.3 بالمئة سنة 2020، وهذه أسوأ وضعية اقتصادية قد نعيشها منذ الاستقلال سنة 1956.

         فالانكماش يعني كساد اقتصاد الدولة أو ركوده، ممّا يؤدي إلى تراجع مؤقت لأوجه النشاط الاقتصادي المختلفة،  وقلّة الطلب على السلع والخدمات الترفيهية أساسا، بسبب تراجع القدرة الشرائية. علاوة على ما ينجم عن الكساد من غلق مؤسسات اقتصادية وفقدان مواطن شغل وتراجع الإنتاج وشحّ في السيولة المالية. وإذا أضفنا إلى ذلك انكفاء الدول على ذواتها بسبب الأزمة العالمية، ودخول القارّة العجوز التي ترتبط بها النسبة العالية من مبادلاتنا ومصالحنا، في أزمة خانقة، ندرك حجم المصاعب التي ستواجهها حكومة الفخفاخ في الأفق المتوسط والبعيد،رغم القروض والهبات وتراجع سعر المحروقات الذي يعطيها جرعة أوكسيجين في هذه المرحلة.

        إذ لمّا كانت الكلفة الصحية لمواجهة كورونا، هي أيضا كلفة اقتصادية واجتماعية في المقام الأول، فإنّ تداعيات مجابهة انشار كوفيد 19 زادت في الضغط على حكومة الفخفاخ التي كانت تستحضر أولوية الاقتصادي والاجتماعي في هذه المرحلة. ففي ظلّ مالية عمومية  تونسية مأزومة، وشحّ في موارد الدولة وعجز مفزع في ميزانية 2020، ووسط تراجع اقتصادي عالمي،  ليس مطلوبا فقط أموال طائلة للرفع من قدرات مؤسّسات الصحة العمومية المهترئة أصلا لمواجهة خطر الموت المحدق بالتونسيين، بل مطلوب إضافة إلى ذلك تأمين عيش المواطنين من ضعاف الحال خاصة، المجبرين  على الحجر الصحي العام، وتأمين مستقبل المؤسسات المجبرة على الغلق وتأمين مواطن الشغل بها بعد زوال الأزمة.

        ولهذا السبب بالذات تلقّى وزير المالية محمد نزار يعيش بارتياح كبير إعلان موافقة المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي استنادا إلى بيانه الصادر بتاريخ 10 أفريل 2020، على منح تونس قرضا بقيمة 745 مليون دولار، في إطار آلية التمويل السريع لمواجبهة التداعيات الاقتصادية والاجتماعية لجائحة كورونا. لكن الذي يجب التذكير به في هذا السياق هي شروط الصندوق الدولي على الحكومة التونسية لمنحها هذا القرض أوغيره. وأهمها الإصلاحات الهيكلية المستوجبة في الاقتصاد ومنها تخفيض كتلة الأجور باستمرار إيقاف الانتدابات في الوظيفة العمومية و خفض الإنفاق العمومي للدولة برفع الدعم ومراجعة حوكمة المؤسسات العمومية، وعدم تدخل البنك المركزي في سوق الصرف وغيرها من الإجراءات التي ظلت توصف بالضرورية والمُوجعة من مختلف الحكومات المتتالية بعد الثورة دون جرأة على إنفاذها، بسبب ما تثيره من خلافات مع الأطراف الاجتماعية خاصة، وما قد ينجم عنها من اهتزاز للاستقرار الاجتماعي والسياسي.

        ولهذه الأسباب أيضا لن ننفك عن التأكيد بأنّ الظروف الموضوعية والحالة الاستثنائية، تسدعي إعمال العقل وخفض التشنج واستحضار المصلحة الوطنية، وأن يمدّ الجميع أيديهم لبعضهم (دون مصافحة) لمواجهة خطر داهم لن تكون النجاة منه إلاّ جماعية. وأنّ “حكمة الدولة” ، وتحمّل المسؤولية في الحكم، وحسن تقدير الأولويات، عناصر مرجّحة في جمع كلمة الرئاسات الثلاث وتوجيه المشهد السياسي خلال المرحلة القادمة وترشيده وتوحيده. ومن هذه الزاوية أيضا نرى أنّ خيار حكومة الوحدة الوطنية بات الآن أوكد.

        وقد كشف التصويت في البرلمان مجدّدا حاجة حكومة الفخفاخ إلى هذا التوجّه. فلولا أصوات المعارضة لم يكن بالإمكان تمرير قانون التفويض التشريعي للحكومة بأكثر من 130 صوت،  لاعتماد مراسيم خلال شهرين. ولولا أصوات المعارضة لما أمكن معالجة الخلل في الائتلاف الحاكم لتمرير مشاريع قوانين الحكومة في آخر جلسة عامة عن بعد للبرلمان يوم الثلاثاء 14 أفريل الجاري. ولن تحتاج الحكومة فقط لأصوات المعارضة مستقبلا في تمرير مشاريع قوانين أخرى، بل تحتاج أكثر إلى أوسع دعم برلماني وسياسي لمواجهة المصاعب الاقتصادية والاجتماعية المتعاظمة وإنفاذ الإصلاحات المتأكدة. وقد يكون التوافق الحاصل بين الحكومة ومنظمتي الأعراف والشغالين يوم الثلاثاء 14 أفريل لتأمين صرف رواتب الموظفين والعمال بالقطاع الخاص، خلال فترة الحجر الصحي العام، مؤشرا إيجابيا باتجاه تحسين المناخات وتهيئة البلاد لخطوات أكبر في تعزيز الوحدة الوطنية و تثبيت الاستقرار.

        ونحسب أنّ النجاح في رفع التحديات الاقتصادية والاجتماعية، ورسالة الوحدة الوطنية، ومزيد إبراز الوظيفة الاجتماعية للدولة التي تتأكد في الحروب والأزمات الكبرى، عناصر مساعدة على بناء الثقة بين الدولة ومواطنيها. فبقدر ما يلمس الناس خدمات الدولة التي تعطي معنى لانتمائهم وكرامتهم، ويشعرون بحمايتها لهم وحرص المسؤولين فيها على تحسين ظروف عيشهم وإعطاء الأمل لشبابهم وأطفالهم، تكون محبّتهم لدولتهم على قدر محبتهم لبلادهم. وبقدر ما تُبنى الثقة بين الدولة والمجتمع وتتعزّز، تكون الأرضية مهيّأة أكثر لتفعيل معاني المواطنة وتحسين السلوك الفردي والارتقاء بالعلاقات الاجتماعية، والشعور بفخر الانتماء للدولة والذود عن حماها والتضحية من أجلها. و”على قدر أهل العزم تأتي العزائم”.

محمد القوماني

*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 152، تونس  في 16  أفريل 2020 (نسخة إلكتونية فقط)

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: