هل تجمع حكمة الدولة ما بعثرته المناكفات وكورونا؟

       صادق مجلس نواب الشعب مساء السبت 04 أفريل 2020 على مشروع القانون عدد 30-2020 المتعلق بالتفويض إلى رئيس الحكومة في إصدار مراسيم بغرض مجابهة تداعيات انتشار فيروس كورونا (كوفيد- 19) بموافقة 178 نائبا، وذلك عبر اعتماد إجراءات استثنائية في التصويت من داخل قاعة الجلسات العامة بمجلس نواب الشعب ومن المبنى الفرعي للمجلس ومن الجهات عبر التطبيقة الموضوعة للغرض. وقد أنهى التصويت الأغلبي المريح جدال الأسابيع الماضية حول تفعيل الفصل 70 من الدستور، وعكس توافقا عريضا فاجأ بعض المتابعين، وأسقط فرضية التنازع على الصلاحيات واحتمال المواجهة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية في هذا الظرف العصيب الذي تمر به تونس والعالم بأسره.

       وقد أصدر رئيس البرلمان راشد الغنوشي فور التصويت بيانا ثمّن فيه “الانسجام بين مؤسسات الدولة وروح المسؤولية لمختلف الكتل النيابية” كما طمأن التونسيين في هذه الظروف الإستثنائية وشدّد على أنّ “مجلس نواب الشعب سيواصل عمله بمختلف هياكله كما سيبقى الضامن لحقوقهم والمدافع عن مطالبهم والداعم للوحدة الوطنية تكريسا لمبدأي التضامن والتآزر”. كما جاء تفاعل رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ مع  تدخلات نواب الشعب بالجلسة العامة مؤشرا على تحسّن ملحوظ في العلاقة من خلال التناء على دورهم وتفهّم حرصهم على  الاضطلاع بمهامهم كاملة وتحمل مسؤولياتهم أمام ناخبيهم، مشدّدا على تقيّده بغرض التفويض خلال الشهرين، وإبقاء البرلمان على إمكانية سحبه متى قدّر ذلك.

       وكان رئيس الحكومة في لقائه الإعلامي ليلة التصويت، قد لاقى رضى على خطابه المطمئن للتونسيين وتوضيحاته حول مختلف الإجراءات المقرّرة في مواجهة الوباء صحيا واقتصاديا واجتماعيا. ولم يخف هذا الرضى الواسع ما بدا عليه رئيس الحكومة من توتّر في حديثه عن البرلمان حين ذكر في معرضه شرحه لمنظومة الحكم السلطة التنفيذية برأسيها، رئاسة الجمهورية والحكومة، ووصف مجلس نواب الشعب دون أن يسمّه بقوله “ثمّة 217 نائب عندهم رئيس ونائب رئيس”، ممّا خلّف استياء لدى بعض المتابعين للقاء وفي مقدمتهم نواب الشعب، لما في ذلك الوصف من تبخيس للسلطة التشريعية وتجاهل لمكانتها باعتبارها سلطة أصلية منتخبة ومؤسسة دستورية أساسية في الحكم. وقد سبق لرئيس الجمهورية يوم تكليف الفخفاخ أن تحدث عن “هيئة تشريعية” وليس عن سلطة تشريعية.

       فإذا أضفنا هذه التصريحات التي يتمّ التقاطها لشحن الأجواء، إلى مؤشرات المناكفات غير الخافية، بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، التي رافقت المسار الطويل لتشكيل الحكومة بعد الانتخابات، والمناكفات الحزبية بين أطراف الائتلاف الحاكم نفسه، أو بينه وبين المعارضة، ندرك بعض أسباب المخاوف من أجواء صراع مُحتمل بين مؤسسات الحكم قد تزيد في إرباك البلاد في مواجهة وضع استثنائي بالغ الخطورة وغير مسبوق.

       لم تكن حماية صحّة المواطنين والمحافظة على حياتهم في مواجهة مخاطر فيروس كورونا القاتل من أولويات حكومة الفخفاخ في برنامجه للحكم المدوّن بالوثيقة التعاقدية ولا المعلن أمام البرلمان في جلسة نيل الثقة. لكن تسجيل أول إصابة بتونس بعد يومين من تسلم الحكومة لمهامها وتطوّر الوضع الوبائي سريعا في المنطقة لاحقا، اضطرّ الحكومة إلى تغيير الأولويات واتخاذ إجراءات استثنائية. وتضاعف الضغط الاقتصادي والاجتماعي، الذي كان على رأس التحديات، وتبيّن أنّ الكلفة الصحية لمواجهة كورونا، هي أيضا كلفة اقتصادية واجتماعية في المقام الأول.

        ففي ظلّ مالية عمومية  تونسية مأزومة، وشحّ في موارد الدولة وعجز مفزع في ميزانية 2020، ووسط تراجع اقتصادي عالمي وانشغال كل دولة بنفسها في المقام الأول،  ليس مطلوبا فقط أموال طائلة للرفع من قدرات مؤسسات الصحة العمومية المهترئة أصلا لمواجهة خطر الموت المحدق بالتونسيين، بل مطلوب إضافة إلى ذلك تأمين عيش المواطنين من ضعاف الحال خاصة، المجبرين  على الحجر الصحي العام، وتأمين مستقبل المؤسسات المجبرة على الغلق وتأمين مواطن الشغل بها بعد زوال الأزمة.

       لا نكشف سرّا حين نؤكّد أنّ الظروف الموضوعية والحالة الاستثنائية تسدعي وحدها إعمال العقل وخفض التشنج واستحضار المصلحة الوطنية، وأن يمدّ الجميع أيديهم لبعضهم (دون مصافحة) لمواجهة خطر داهم لن تكون النجاة منه إلاّ جماعية. ولذلك نقدّر أنّ “حكمة الدولة” ، وتحمّل المسؤولية في الحكم، وحسن تقدير الأولويات، عناصر مرجّحة في جمع كلمة الرئاسات الثلاث وتوجيه المشهد السياسي خلال المرحلة القادمة وترشيده وتوحيده. وليس أدلّ على ذلك على سبيل الذكر لا الحصر،  من خفض الحزب الدستوري الحرّ لمنسوب معركته الأيديولوجية والسياسية تحت قبة البرلمان، والإجماع العريض على إقرار الإجراءات الاستثنائية التي تتيح استمرار أداء مجلس نواب الشعب لمهامه، والتفويض التشريعي الواسع لرئيس الحكومة لإصدار  مراسيم مدة شهرين في مواجهة تداعيات كورونا. فهل تكون النخب التونسية وعموم الشعب في مستوى اللحظة التاريخية لعزل الخارجين عن “الخزمة الوطنية” مهما كانت مواقعهم، وكسب الحرب الصحية أولا والاقتصادية والاجتماعية لاحقا؟

محمد القوماني

*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 150، تونس  في 05  أفريل 2020 (نسخة إلكتونية فقط)

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: