دقّت ساعة التغيير.. استعدّوا ..

كلّ شيء في تونس هذه الأيام يؤشّر على أنّ ساعة التغيير قد أزفت. وأنّ ترتيبات لمرحلة جديدة ما تجري هنا وهناك. لا تشي بذلك أروقة السياسة وكواليسها في الداخل والخارج فقط، بل تدلّ عليه أيضا الوقائع من خلال القرارات والتصريحات السياسية والتحاليل الإعلامية والحركية الديبلوماسية واللقاءات والتدوينات. وكانت الرسالة الأبلغ من خلال  عقد البرلمان المنقلَب عليه جلسة عامة عن بعد، برئاسة النائب الثاني لرئيس البرلمان طارق الفتيتي، يوم الأربعاء 30 مارس بدعوة من مكتب المجلس المنعقد قبل ذلك بأغلبية أعضائه ورئاسة راشد الغنوشي.  وقد صادق 116 نائبا على إلغاء الإجراءات الاستثنائية وإبطال الأوامر الرئاسية والمراسيم الصادرة بعد 25 جويلية 2021. وجاءت ردود أفعال رئيس الدولة قيس سعيد سريعة وقوية بالدعوة إلى اجتماع لمجلس الأمن القومي مساء نفس يوم جلسة البرلمان، وإعلان حلّ مجلس نواب الشعب.  وتتالى مواقف مختلف الأطراف بين مؤيد ومعارض، لتؤكد أهمية ما أقرّه البرلمان  في جلسة عُدّت تاريخية، وما تؤشّر عليه من دخول البلاد مرحلة جديدة من استفحال الأزمة وربما تدحرجها إلى مربعات أكثر خطورة أو بداية الانفراج. وفي كل الأحوال لم تعد الأوضاع بعد 8 أشهر من التدابير الانقلابية ليوم 25 جويلية 2021 قابلة للاستمرار. وأنّ تغييرا ما في اتجاه أو آخر بات مستوجبا، بل وشيكا.

تناولنا في مقالات الأسابيع الأخيرة بما سمح به المجال، أوضاع تونس التي تغرق في أزمتها المركبة والمتراكمة، وتكاد تتوقّف (تحبس) فيها دواليب الحياة عن سيرها العادي، وليست دواليب الدولة فقط بعد 8 أشهر من الحالة الاستثنائية. ونجدّد التنبيه اليوم إلى الوضعية المأزقية الناجمة عن الفشل المزدوج وتوازن الضعف بين الحكم والمعارضة وطنيا. فقد فشل قيس سعيد في الإقناع بمشروعه السياسي الشخصي، رغم نجاحه في الاستحواذ على مختلف السلطات، ومحاولته استغلال الظروف الاستثنائية لتمريره بالقوة القهرية. وكان الفشل المدوّي للاستشارة الإلكترونية عنوان فشل مشروع سعيد وروزنامته. وهذا ما زاد في اتساع دائرة الرفض لمشروعه في “البناء القاعدي” ومستلزماته، لينفضّ الناس من حوله مع مرور الأشهر، حتى بات عدد المعلنيين عن تأييدهم الكامل للرئيس محدودا جدّا. وفي المقابل يصحّ أيضا الحديث عن فشل المعارضة بجميع مكوّناتها في “إسقاط الانقلاب”، رغم نجاحها في إرباكه وإضعافه وحسم معركة الشارع السياسي المنظم لصالحها. فقد فشلت معارضة سعيد في جمع صفوفها واتحاد كلمتها على الحدّ الأدنى الوطني للخروج من الأزمة واستئناف المسار الديمقراطي المعطّل وإنقاذ الوضع الاقتصادي المهدّد بالانهيار والمنذر بإفلاس الدولة، والوضع الاجتماعي المحتقن والمنذر بالانفجار ومخاطر الفوضى والعنف.

وفي الوقت الذي تستمرّ فيه انتظارات بعض الاطراف السياسية  لدور فاعل للاتحاد العام التونسي للشغل في ترتيب حلّ لأزمة البلاد، اعتبارا لمكانته التاريخية وموقعه وثقة به، وفي ظلّ ضعف أداء الأطراف السياسية، وبسبب حدّة التجاذب وأزمة الثقة بينها، وضعف أغلب مكونات المشهد الحزبي، وسوء تقدير بعضها لقواها وقدراتها، وأولوية مناكفة بعضها لبعض، على حساب المصلحة العامة المشتركة، في هذا الوقت تأتي تصريحات الأمين العام نور الدين الطبوبي وبعض قيادات المنظمة مخيّبة للآمال، تعليقا على الدعوة إلى عقد جلسة عامة للبرلمان أو تفاعلا مع قرار حلّه. وهذا مما يضعف موقعه بلا شك.

فلئن كان اتحاد الشغل لا يخفي دعمه منذ البداية للقرارات الرئاسية في 25 جويلية من زاوية انتقاده للأوضاع  قبلها وتطلّعه إلى التغيير، وفي سياق التفاعل مع استحسان أوساط تونسية هامة لتلك الخطوة، تأييدا منها لإنهاء أوضاع عشرية ضاقت بها ذرعا، خاصة مع منظومة حكم ما بعد 2019. فإنه ليس بوسع قيادة الاتحاد بعد 8 أشهر، إنكار معطى المقاومة السياسية الباسلة في الداخل والخارج، للقرارات الانقلابية ليوم 25 جويلية، والحصاد الهزيل لمرحلة ما بعدها، وتحمّل غالبية نواب الشعب لمسؤولياتهم التاريخية التزاما بقسم النائب وأداء للواجب. ومهما اختلفت التقييمات وتحديد المسؤوليات عمّا آلت إليه الأوضاع، فإنه من غير المقبول بأيّ وحه، غدر النخب خاصة بالديمقراطية والتنكّر لمقتضياتها الأساسية، ومنها الاحتكام للدستور والتسليم بشرعية المُنتخَبين مهما كان أداؤهم، في انتظار انتخابات أخرى قد تأتي بغيرهم، ورفض انتهاك الحقوق والحريات ومخالفة القانون في استهداف الخصوم، مهما كانت الاختلافات معهم. ويزداد العجب ممّن حازت منظماتهم على جائزة نوبل للسلام، تأخّرهم في إدانة الانتهاكات للحقوق واستهداف المؤسسات الديمقراطية، ودعمهم مقابل ذلك التوجهات الانقلابية، بالدعوة إلى حلّ مؤسسات مُنتخَبة بغير الصيغ الدستورية أو تأييد ذلك، على غرار المجلس الأعلى للقضاء وخاصة البرلمان المنتخب من الشعب مباشرة.

قضى رئيس السلطة القائمة قيس سعيد  8  أشهر  ويزيد، وهو يحاول إقناع نفسه  وأنصاره والداخل والخارج، بأنه جمّد البرلمان ولم يحلّه لأن الدستور لا يسمح له بذلك. وأخيرا يناقض نفسه ويعلن البارحة في خطاب غلب عليه الانفعال، أمام كبار قادة القوات المسلحة العسكرية والأمنية الذين اجتمع بهم للمرة الثانية خلال يومين،  يعلن حلّ البرلمان بمقتضى الفصل 72 من الدستور الذي لا علاقة له من قريب أو بعيد بحالات حلّ البرلمان، ولا يرتّب أيّة آثار أو آجال على ذلك. وبهذه الخطوة يتعزّز القول بأنّ ما يأتيه الرئيس سعيد منذ 25 جويلية انقلاب باسم التدابير الاستثنائية. وأنّ الانقلاب لا يحتكم لنصوص أو قانون يكون من ضياع الوقت والجهد مجادلته فيها، بل  يحتكم الانقلاب لمنطق القوة فقط. وبصرف النظر عن مآلات تتبّع نواب مجلس نواب الشعب قضائيا بتهم “محاولة الانقلاب” بتحريض من الرئيس سعيد، ومهما كانت تأثيرات قرارات البرلمان بإبطال الحالة الاستثنائية وقرار  الرئيس بحلّه، بصرف النظر عن تطورات المشهد واقعيا، تظلّ المواقف المبدئية غربالا للفرز التاريخي على قاعدة الانتصار للديمقراطية ودولة المؤسسات، لتورث المجد للبعض وتخلف الخزي للبعض الآخر. ويبدو أن النواب الذين شاركوا في الجلسة التاريخية ليوم 30 مارس 2022 أحسنوا اختيار موقعهم لحساب التاريخ.

وفي ظل فشل الأطراف الوطنية في إيجاد مخارج مناسبة للأزمة المركّبة والمتراكمة، وفي إطار الرهانات الدولية والإقليمية على استقرار تونس، تزداد المؤشرات على أنّ الاهتمام الخارجي ببلادنا سيتضاعف وتجري الترتيبات حثيثة لمعالجة الوضع بالسيناريوهات المختلفة التي تستوجب التغيير. وليست عروض صندوق النقد الدولي والبنك العالمي في الإصلاحات الإقتصادية والاجتماعية التي توصف في الغالب بالموجعة، التي تجد الدعم الديبلوماسي، وتُختبر فيها مختلف الأطراف، سوى عناوين حلول لمستقبل تونسي، مهما اختلفت الخطابات حوله، سيأتيه الجميع، ولا أستثني طرفا، على الأرجح صاغرين. وستُفرض الحلول القاسية على الكافّة، وستُمرّر إملاءات الخارج باسم صندوق النقد الدولي أو غيره من التسميات، وتتهاوى شعارات “السيادة الوطنية” و”الدولة الاجتماعية” وغيرها من الصياغات البرّاقة. ولن ينفع بعد ذلك تلاوم أو تبادل للاتهامات وتحميل المسؤوليات فيما كسبت أيدينا جميعا.

ورغم تتالي بيانات حزبية مختلفة وتصريحات مشكّكة في شرعية رئيس الجمهورية قيس سعيد ومشروعيته، بعد نكثه لليمين وإلغائه للدستور الذي أقسم على احترامه، وإطاحته ببقية السلطات، واستفراده بالحكم اعتمادا على القوة القاهرة ودون تفويض شرعي، وانتهاك الحقوق والحريات تحت سلطته، ورغم مخاطر خطابه على المجتمع ومخاطر مشروعه السياسي على الدولة، لا زالت أغلب الأطراف السياسية والاجتماعية تدعوه إلى التراجع عن قراراته وأوامره الرئاسية ومراسيمه وإنهاء المرحلة الاستثنائية والجنوح إلى الحوار والعمل التشاركي للبحث عن حلول تستأنف المسار الديمقراطي المعطّل  وتصحّح المسار ولا تعود إلى الوراء. ولم تشذّ اتجاهات نواب الشعب ممّن تحدّثوا في الجلسة العامة ليوم 30 مارس عن هذا المسار. فقد استبعد جميعهم سيناريو صراع الشرعيات وشدّدوا على الدعوة إلى الحوار الوطني. فمهما اختلفت المواقف من قيس سعيد وأقواله وأفعاله، فإنّ موقعه في الدولة قبل 25 جويلية وبعده، يجعله جزءا من الأزمة بلا شك وطرفا في الحلّ أيضا.

ومهما استمرت المناكفات بين مختلف الفاعلين من الأطراف السياسية أو الاجتماعية أو المهنية أو غيرها، فإنها لا محالة تتجه إلى التقارب في اجتراح الحلول، بعد التقارب الموضوعي في المواقف الأساسية والالتقاء في جبهة الرفض لما هو قائم. وليس تكثيف  التنسيق الميداني خلال الأيام الأخيرة بين حراك “مواطنون ضد الانقلاب” مرموزا إليه بجوهر بن مبارك،  و”اللقاء الوطني للإنقاذ” مرموزا إليه بنجيب الشابي، سوى أحد المؤشرات على تطوّر إيجابي في هذا الاتجاه. وربّما تشتدّ الأزمة بعد قرار حلّ البرلمان، لكنها سرعان ما تتجه للانفراج. وإذا تأخّر الفاعلون المدنيون وطنيا عن أدوارهم، ولم يأخذوا بمقتضيات الزمن السياسي، فإنّ قطار التغيير المُستوجَب الذي دقّت ساعته سينطلق للأسف بدونهم، بعد أن تكون الطبقة السياسية الحالية برمّتها هي الخاسر الأكبر، وبعد أن تطال أضرار تداعيات الأزمة جميع فئات الشعب دون استثناء.

 محمد القوماني *منشور بجريدة الرأي العام، العدد 250، تونس  في 01 أفريل2022

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: