المحاكمات السياسية والحوار الإقصائي :عبثيّة تجريب المُجرَّب..

بتعليمات من الرئيس قيس سعيد إلى وزيرة العدل ليلى جفال، أذنت النيابة العمومية لدى المحكمة الابتدائية بتونس، بفتح تتبّع قضائي في حقّ أعضاء مجلس نواب الشعب المشاركين في الجلسة العامة عن بعد ليوم 30 مارس 2022. ورغم التأجيل الغامض لمثول “المظنون فيهم” أمام وكيل الجمهورية، بعد سماعهم لدى الباحث الابتدائي، وتأجيل السماع لبقية النواب الآخرين الذين تم استدعاؤهم، فإنّ 121 نائبا يظلّون مهدّدين بأحكام قد تصل إلى الإعدام أو المؤبّد. وفي الأثناء استقبل الرئيس سعيد مؤخرا عددا من ممثلي المنظمات الوطنية والجمعيات، وحدّثهم عن انطلاق “حوار وطني” يستند إلى ما خلصت إليه “الاستشارة الوطنية الإلكترونية”. ويستثني بعض الأطراف التي يتّهمها الرئيس سعيد بالفساد ومحاولة الانقلاب. فهل عادت تونس بسرعة إلى المحاكمات السياسية التي يتمّ فيها توظيف القضاء لتصفية الخصوم؟ وهل ينجح أسلوب الترهيب في دفع المعارضين إلى التراجع؟ وأيّ جدوى في حوار السلطة مع المتّفقين معها وتقريب الموالين وإقصاء المخالفين؟  وأيّة رسائل يبعث بها تكرار تجريب المجرّب في مشهد سياسي عبثيّ ووضع انقلابي مترنّح لا تخفى مؤشّراته؟

 شرع الباحث الابتدائي بالوحدة المركزية لمكافحة الإرهاب بثكنة بوشوشة بباردو يوم الجمعة الماضي 01 أفريل في الاستماع إلى ستّة نواب من بينهم رئيس البرلمان راشد الغنوشي بتهمة “تكوين وفاق إجرامي” و “التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي” و”محاولة الانقلاب ” على الحكم، كما كيّف الرئيس سعيد الجريمة في خطابه مساء انعقاد الجلسة العامة. وقد تمسّك نواب الشعب بحقهم في الحصانة البرلمانية التي يضمنها لهم الدستور، ورفضوا الإجابة عن الاسئلة الموجهة إليهم. وهبّ عشرات الأساتذة المحامين المتطوّعين برئاسة عميدهم الأسبق الأستاذ عبد الرزاق الكيلاني لتكوين هيئة دفاع عن النواب، قد تضم المئات لا حقا. فقد كان خبر استدعاء نواب الشعب للاستنطاق مدوّيا في الداخل والخارج. واستهجنت أغلب الأوساط هذه الخطوة وحذّرت من تداعياتها السلبية على المشهد التونسي. فكم كان غريبا اتهام نواب الشعب المنتخبين بمحاولة الانقلاب، بعد عقد جلسة عامة علنية تمّ بثها للعموم، صوتا وصورة. وصادق خلالها أغلبية ب116  نائبا على إلغاء الإجراءات الاستثنائية وإبطال الأوامر الرئاسية والمراسيم الصادرة بعد 25 جويلية 2021.

تحلّى رئيس البرلمان وزملاؤه المدعوون برباطة جأش ووضوح في مواجهة أسئلة الباحث الابتدائي، بالتأكيد على صفاتهم البرلمانية وتمتعهم بالحصانة وأداء مهامهم والتمسك بحقوقهم طبق مقتضيات الدستور والقانون. وسطّروا بالتنسيق مع محاميهم، لأنفسهم وللنواب المحتملين من بعدهم، معالم مواجهة هذه القضية السياسية بامتياز، كما وصفها العميد الأسبق البشير الصيد في الندوة الصحفية لهيئة الدفاع عن النواب. كما تتالت المواقف الرافضة لسلوك السلطة في الداخل والخارج، دون نفي وجود أصوات قليلة وشاذة مؤيّدة لها. وانتقدت جمعية القضاة التونسيين التدخل غير المسبوق لوزيرة العدل في شؤون السلطة القضائية في علاقة بهذه القضية. وقد كان ذلك واضحا في سرعة فتح  التتبع القضائي ضد نوّاب الشعب، بالتهمة التي كيّفها رئيس سلطة الأمر الواقع، وإحالتهم على “الوحدة المركزية لمكافحة الإرهاب” لمزيد تشويههم. وتتحدث بعض الأوساط عن ضغوطات بالغة على وكيل الجمهورية المتعهّد بالقضية، من أجل الاحتفاظ بالمظنون فيهم. والذي لم يسلم من تهجّمات خسيسة ومُدانة، طالته على مواقع التواصل الاجتماعي.

ليست هذه أولى المحاكمات السياسية بعد القرارات الانقلابية لمساء 25 جويلية. فقد انطلقت التتبّعات بعدها مباشرة وطالت نوابا وإعلاميين وشخصيات مختلفة لكنها لم تثن المعنيين من المعارضين للانقلاب، بل زادتهم إصرارا وجرأة. ولنا الشواهد في نتائج تتبّع الأستاذ سيف الدين مخلوف ونواب ائتلاف الكرامة عموما والإعلامي عامر عياد والعميد الكيلاني وغيرهم، علاوة على فضيحة   اختطاف الأستاذ البحيري واحتجازه قسريا، والتي كسب البحيري معركتها في النهاية بفضل صموده في الإضراب الوحشي الطويل. ففي معارك الشرف والمبادئ، يستأسد المناضلون على طريق المجد ويزدادون صلابة. ناهيك أنّ عددا كبيرا من المعنيين بالملاحقات القضائية من نواب الشعب خاصة ومن الوسط السياسي عامة، خبرتهم السنون السابقة في مواجهة الاستبداد، وصمدوا وكسبوا خبرات إضافية. كما كسب لسان الدفاع وجمعيات حقوق الإنسان خبرات إضافية أيضا على هذا الصعيد. ويكفي ذلك مؤشّرا على الطريق المسدودة التي تنتهجها سلطة الانقلاب على هذا الصعيد.

لا شيئ من الترهيب أو الترغيب يمكن أن يغيّر من مواقف المناضلين الشرفاء، والحوار وحده يمكنه ذلك، فقط بقوّة الحجة وليس بحجة القوّة كما يُقال. وكثيرا ما تنازل الفرقاء لبعضهم وغلّبوا المصالح العليا على المواقف الشخصية أو الحزبية أو الأيديولوجية، قبل الثورة وبعدها. ولذلك تدعو مختلف الأطراف إلى الحوار وتراهن عليه، للخروج من الأزمة المركّبة والمتراكمة، والتي بلغت مستويات غير مسبوقة. ومن البديهي أن يكون الحوار بين المختلفين للبحث عن المشترك والبناء عليه. ولذلك أيضا يكون الحوار المزعوم مع “الموالين” فقط، تزييفا للواقع وللوعي، لا يقنع ولا يصمد، وتحيّلا سياسيا لا مصداقية له في الداخل أو الخارج. وقد خبر التونسيون جيّدا “ديمقراطية الواجهات” وأدوار “أحزاب ومنظمات الموالاة” قبل ثورة الحرية والكرامة.

وإنّ الأستاذ قيس سعيد الذي لم يُعرف له نضال سياسي ولا حقوقي قبل الثورة، ولا تجارب في الحوار، وأظهر عجزا عن الاستماع للآخرين وكرّس صورة الخطاب الأحادي والمتعالي، ليس من السهل عليه الدعوة إلى الحوار أو المشاركة فيه، علاوة على الإشراف عليه بحكم موقعه ورمزيته في الدولة. والرئيس سعيد الذي تأكد نزوعه إلى الحكم الفردي المطلق بعد 25 جويلية، قد شبّه ذات مرة جلوسه مع المخالفين والاستماع إليهم، بمثابة “حضور جلسات للتعذيب النفسي”. ولهذه الأسباب وغيرها نراه ينتقد الحديث عن “الحوار الوطني” في مناسبات عديدة ولم يتفاعل إيجابيا مع مبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل وغيرها من المقترحات. وحين يقبل الحوار تحت إكراهات الواقع، على غرار ما يحصل خلال الفترة الأخيرة، يتحدّث عن “حوار إقصائي” وعلى أرضية مشروعه الشخصي الذي ترمز إليه نتائج الاستشارة الإلكترونية الفاشلة، والناجحة في نظره ونظر أنصاره فقط. وفي المقابل يشدّد مخاطبو الرئيس سعيد في الداخل والخارج على الحوار التشاركي الواسع طريقا وحيدا لتجاوز الأزمة. ناهيك إذا كان من يملك السلطة المطلقة، لا يملك حلولا لمشاكل الناس ولا يملك كفاءة في إدارة البلاد ولا قدرة له بمفرده على إنقاذ وضع موشك على الانهيار.

لن أتوقّف كثيرا عند خطابات الموالاة، ممّن يحاولون عبثا تبرير الإقصاء السياسي من الحوار لفاعلين أساسيين على غرار حركة النهضة وحلفائها، بتهم “الفشل السايق في الحكم” أو “شبهات التمويل الأجنبي” أو “المسؤولية عمّا حدث خلال العشرية” أو حتى “محاولة الانقلاب مؤخرا”  أو غيرها من صيغ التحيّل السياسي والإعلامي. فهؤلاء بيوتهم من زجاج ولا مصلحة لهم في رمي الحجارة على غيرهم. وجميع العناوين السابقة وغيرها تستهدفهم قبل غيرهم. وأكتفي بأن أهمس في آذانهم بأنّ تجريب المجرّب ممّا تأكّد فشله من السياسات، عبث ومضيعة للوقت دون جدوى. وأمضي قبل الختام لأنبّه إلى حقيقة سياسية مفادها أنّه حين تسود الضبابية في المشهد، ويتعطل دور المؤسسات التقليدية الفاعلة في القرار، يتعاظم دور الفاعلين غير المرئيين. وأفضل الحلول ما يتمّ التوافق عليها تحت الشمس وبشهادة الجميع. والطبيعة تكره الفراغ كما يقال.

لن أتوقّف على الدعوة والتذكير بالحاجة إلى الاعتراف بأخطاء العشرية والاعتذار عنها، وبالمسؤولية المشتركة بأقدار  في ذلك.  فهذا أحد شروط الدخول في زمن التغيير الذي دقّت ساعته، والانخراط في ترتيبات مرحلة جديدة بانت ملامحها. ولا أنفكّ أيضا عن تأكيد  القول بأن لا عودة إلى الوراء، وأنّ التصحيح المُستوجب للمسار يتمّ بالحوار والانتخاب، وليس بالتسلّط والانقلاب.

محمد القوماني

*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 251، تونس  في 08 أفريل 2022.

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: