تونس على طريق الخلاص الوطني: خطوة هامة في الاتجاه الصحيح

نحتاج إلى شيء من شحذ الذاكرة واستعراض أهم تطورات المشهد الوطني التونسي خلال 9 أشهر من الانقلاب، لكي نفهم أهمية الخطوة السياسية التي حصلت في الندوة الصحفية الأولى التي عقدتها جبهة الخلاص الوطني يوم 26 أفريل 2022، مقارنة بما كان عليه الحال صباح 26 جويلية 2021. فإعلان الأستاذ أحمد نجيب الشابي عن تشكيل هيئة تسييرية للجبهة وأهم مكوناتها ورؤيتها للخروج من الأزمة المركّبة والمتراكمة التي تعيشها بلادنا وآفاق عمل الجبهة، كان حدثا سياسيا هاما غطته وسائل الإعلام المختلفة، الداخلية والخارجية، وسيكون له ما بعده، في تغيير المعادلات السياسية التونسية.

        لقد أطاح انقلاب 25 بمنظومة ما بعد 2011 رمزيا على الأقلّ. وتقاطعت أسباب وأجندات داخلية وخارجية، وإن اختلفت دوافعها وغاياتها، في الانخراط في هذا المنعرج الحاسم. ولن يساعد بالمرّة على فهم ما حصل، استمرار إنكار الإقرار بحالة الانسداد التي آل إليها المسار، والحلقة المغلقة سياسيا ودستوريا التي تردّت إليها الأزمة المركّبة والمتراكمة والمتشابكة، مما استوجب تدخلا غير عادي، على نحو تفعيل الفصل 80 من الدستور واللجوء إلى إجراءات استثنائية. فحجم الأخطاء والمخاطر خلال العشرية بات مخيفا. ومنسوب صبر الناس كاد ينفد. وحالة الاحتقان الشعبي كانت تفتح على أخطار تهدّد كيان الدولة. إذ المشهد السياسي المتشظّي والمُرذّل، ومنسوب الحريات المفرطة الذي بات يفتح على الفوضى ويهدّد الاستقرار والاقتصاد والمجتمع، ومأزق النظام السياسي والدستور الذي لم يكتمل تنزيله بعد 7 سنوات، وحالة التعطّل التي وصلتها البلاد بسبب مناكفات مراكز السلطة في قرطاج والقصبة وباردو، والمشهد البرلماني المرذّل، وتهديد حياة التونسيين بفيروس كورونا القاتل في تلك الفترة، مقابل الأداء الهزيل لحكومة مشيشي  التي لم تعد تقبل الاستمرار.  كل ذلك كان حالة سريالية خانقة.

وقد حصلت الإطاحة بالثورة بنفس الأدوات التي انتصرت بها. فقد تم توظيف وسائل الإعلام المختلفة وخاصة الفضاء الافتراضي بمختلف صيغه، أداة رئيسية لخلق رأي عام من الشباب خاصة، كاره لمنظومة حكم ما بعد الثورة وداع لإسقاطها. وقد وجد في الحصائل التنموية السلبية للعشرية، والجفوة بين مجتمع الحكم والأغلبية من الشعب المهمشة، مادّة مناسبة للمطالبة بالتغيير. وكانت المؤشرات التي استعرضنا بعضها ولا يسمح السياق بشرحها، كانت مقنعة في التفهّم الداخلي والخارجي لما أقدم عليه الرئيس قيس سعيد. ومن هذه المنطلقات يجد شعار “لا للعودة إلى الوراء” مقبولية مستمرة ندعمها.

فبعد صدمة الساعات الأولى وتبيّن مساندة المؤسسات الصلبة للقرارات والإجراءات، وانخراط طيف هام من الفاعلين السياسيين والاجتماعيين في دعم القرارات الرئاسية وانحياز إعلامي غير خاف لها، انقلب ميزان القوى كليا لصالح قرطاج وأصبحت المرحلة الجديدة أمرا واقعا. لكن ستظلّ وقفة الثمانيني راشد الغنوشي، أمام أبواب البرلمان التونسي المقفلة، قبالة مدرّعة عسكرية، وهو يخاطب ضباط الجيش بمقتضات الدستور ولزوم حياد المؤسسات الصلبة، وحقه في دخول مجلس نواب الشعب الذي يترأسه، ستظل لحظات فارقة عالقة بذاكرة الأجيال. فتلك الصورة التي طافت العالم فجر 26 جويلية 2021، كانت أكبر رسالة في فضح الوجه الانقلابي للقرارات الرئاسية الاستثنائية المعلنة التي اتخذت من للفصل 80 من الدستور مطية في غياب المحكمة الدستورية ذات الاختصاص الحصري في تأويل الدستور.

وبعد أن تجمّع عد من النواب وبعض أنصار النهضة خاصة والرافضين للانقلاب عامة، أمام مبنى البرلمان، مطالبين بفتحه، وحصل اعتداءات متكررة عليهم بالعنف لفظيا وماديا من أنصار الرئيس قيس سعيد الداعمين للقرارات الرئاسية. وبعد تزايد عدد المحتجين بتقدّم الساعات وتعظم مخاطر الاحتكاكات، لم يتردّد الغنوشي في دعوة المعتصمين إلى الانسحاب ودعوة القادمين من مختلف الولايات إلى العودة على أدراجهم لمنازلهم. فقد بلغت الرسالة الثانية للداخل والخارج، بأنّ الإجراءات يوجد من يرحب بها ويدعمها، ويوجد من يرفضها ويتصدى لها. وأنّ الحكمة في خفض منسوب التشنّج ومنع أيّ احتمال للعنف باستبعاد الاحتكاك بين الفريقين أو التصادم مع قوات الأمن والجيش. وبذلك فوّت الغنوشي على المتربصين بالتجربة وبالنهضة سيناريوهات كانوا يدفعون إليها بحيل متعدّدة. وترك قنوات الحوار المختلفة مفتوحة للبحث عن حلول سياسية واستمرار النضال السلمي من أجل استئناف الحياة الديمقراطية.

واليوم بعد9  أشهر من التدابير الانقلابية تزداد الأوضاع سوءا على جميع الأصعدة.  إذ يشهد الوضع الاقتصادي تدهورا أكبر. وتغرق المالية العمومية في العجز، في ظلّ ضعف قدرات الدولة على التفاوض أمام حصار مالي دولي يشترط المساعدة باستئناف المسار الديمقراطي المعطّل، وتزكية الإصلاحات المتأكدة من القوى السياسية والاجتماعية الفاعلة. وتزداد معاناة الناس بارتفاع مشطّ للأسعار أو التأخّر في صرف الرواتب أو عدم الوفاء ببعض الوعود لجهات أو فئات، أو صعوبة الحصول على بعض الموادّ الأساسية للأشخاص أو الشركات. علاوة على وقف الانتدابات في القطاع العام ، وتجميد بعض التشريعات ذات الصلة، على غرار القانون 38 لسنة 2020 الخاص بمن طالت بطالتهم، وارتفاع نسبة البطالة وطنبا، والتلويح بوقف تفاوض الحكومة مع النقابات، حول تحسين القدرة الشرائية لمنظوريها. وفي ضوء شبح إعلان إفلاس الدولة، وارتفاع منسوب الاحتقان الاجتماعي، ينبّه المراقبون في الداخل والخارج من مخاطر الفوضى والعنف.

                          وفي المستوى السياسي يبدو قيس سعيد ناجحا خلال 9 أشهر في جعل الاستثناء أصلا، بالانقلاب على الدستور والاستحواذ على مختلف السلط التنفيذية والتشريعية والقضائية، وإحكام قبضة الحكم الفردي المطلق، مدعوما من القوى الصلبة في الدولة. ويتمدّد الانقلاب للسيطرة على الهيئات الدستورية والإدارة والإعلام والمجتمع المدني، واستهداف مكاسب الحقوق والحريات، ليرتدّ المشهد السياسي سريعا إلى ما قبل ثورة 17/14. لكن تظلّ المفارقة في فشل قيس سعيد في الإقناع بمشروعه السياسي الشخصي. إذ تتسع دائرة الرفض لمشروع  “البناء القاعدي” ومستلزماته، وينفضّ الناس من حوله مع مرور الأشهر، حتى بات عدد المعلنيين عن تأييدهم الكامل للرئيس محدودا جدّا،

                          طالت الأزمة المركّبة والمتراكمة واستفحلت. ولم تتعطّل في ظلّها  دواليب الدولة عن نشاطها العادي فقط، بل تعطّلت دواليب حياة التونسيين بصفة عامة وازدادت معاناتهم وتعمّق ضجرهم بمستقبل لا يبشّر بخير. ولا يخفى على أيّ متابع ما تؤشّر عليه خطابات عموم التونسيين من احتقان مؤذن بانفجار غير مأمون العواقب. إذ الكلفة الاجتماعية للأزمة لم تعد تُحتمل.

ولئن تحدّث الرئيس سعيد مؤخرا عن انطلاق “الحوار الوطني” فقد جاء كلامه في الموضوع غير مقنع ولا مطمئن. فهو مستمرّ في عدم الاكتراث بآراء المخالفين له ووصمهم ونعتهم بما لا يليق، مستعصما ب”الإرادة الشعبية” التي يدّعيها. كما هو مستمرّ أيضا في الاستخفاف بمقتضيات العلاقات الخارجية وتقاليد الدبلوماسية التونسية باسم “السيادة الوطنية”. وليس من المبالغة في شيئ حين نؤكد على أنّ زمن قيس سعيد غير زمن تونس و عموم التونسيين. وأنّ من احتفلوا ب25 جويلية وساندوه وبشّروا بعهد سعيد بعده، لم يعد لديهم ما يُقنعون به على أنّه إنقاذ للوضع وتصحيح للمسار. كما أنّ قيس السعيد بمراسيمه التي  يقول أنها”ستغير وجه تونس والعالم أيضا”، لا بدّ له أن يستفيق على حقيقة الواقع المختلفة تماما عن “أحلامه الوردية”.

فبلادنا تحتاج أكثر من أيّ وقت مضى إلى وقفة حازمة من الجميع دون استثناء. وأبواب الحوار تظل مفتوحة قبل خطوط اللاعودة. و الإنقاذ الاقتصادي الذي يظل أولوية، لا يزال ممكنا رغم كارثية الأوضاع. وأنّ الطريق الوطنية السريعة لمستقبل أفضل ولتجاوز أزمتنا السياسية التي لم تنجح الإجراءات الاستثنائية في حلّها، هو استئناف المسار الديمقراطي المعطّل منذ 25 جويلية والعمل على تصحيحه. وأنّ مشاكلنا نحلها بأيدينا لا بأيدي عمرو. وهذا من صميم رؤية جبهة الخلاص الوطني وبرنامجها.

فمن 26 جويلية 2021 حيث كانت حركة  النهضة تكاد تكون وحيدة في رفض ما وصفته منذ الساعات الأولى بالانقلاب، وحيث كان المتابعون مندهشين من ضعف ردّة المجتمع في بلد ثورة الحرية والكرامة، إلى إعلان مسار تشكيل جبهة للخلاص الوطني   في 26 افريل 2022، تم كسب رهان النضال السلمي وتوحيد المعارضة وجرت مياه كثيرة أثّرت في المعادلات.  إذ مع توغّل قيس سعيد في تكريس مسار الحكم الفردي المطلق، وتوسّع رقعة المعارضين له وحصول تقاطع موضوعي سياسي واسع في رفض الانقلاب، بدأت موازين القوى تتغيّر إيجابيا لصالح المعارضة.

فقد جاءت مبادرة الأستاذ نجيب الشابي يوم 10 أفريل في اللحظة السياسية المناسبة، بعد توضّح المشهد السياسي الوطني وتعاظم المخاطر الجمّة التي لم تعد قابلة للمزيد، وتأكّد التغيير الذي دقّت ساعته.  وبإعلانه يوم 26 أفريل عن تشكيل هيئة تسييرية مفتوحة تتولى إدارة شؤون جبهة الخلاص الوطني وتنسيق أعمالها، والتي تتكون من ممثلين عن الأطراف الحزبية والبرلمانية والمجموعات السياسية والشخصيات المستقلة التي عبرت عن دعمها للمبادرة، في انتظار استكمال المشاورات، يخطو المدافعون عن الديمقراطية في تونس خطوة هامة في تحقيق المطلوب.

فهذه الجبهة كما جاء في البلاغ الصحفي عن إعلانه هيئتها التسييرية تعمل أساسا من أجل “رصّ صفوف كل القوى الديمقراطية من أجل إسقاط الانقلاب والتراجع عن الإجراءات الاستثنائية، ومن أجل استئناف المسار الديمقراطي والدستوري”. و”إعطاء الأولوية للإنقاذ الاقتصادي المستعجل عبر إقرار الإصلاحات المتأكدة واعتماد خيارات كفيلة بالنهوض بالاستثمار ورفع نسبة النمو بما يوفر فرصا حقيقية للتشغيل ويحسن مستوى عيش عموم المواطنين”. و”وضع خارطة طريق تونسية تشاركية بديلا عن الخارطة الأحادية وتقديم حلول عقلانية نابعة من توافق وطني تونسي عريض، للخروج من الأزمة المركبة والمتراكمة”.

 ويتم ذلك عبر “تفعيل القانون عدد 1 لسنة 2022 المؤرّخ في 30 مارس 2022 المتعلق بإيقاف العمل بالاجراءات الاستثنائية واستعادة العمل العادي لدواليب الدولة.” و”إطلاق حوار وطني حول الإصلاحات الأساسية في المجالات الاقتصادية والسياسية والدستورية والقانونية ودعم حكومة انتقالية للانقاذ تقوم على ذلك.” و”دعوة البرلمان الذي وضع نفسه على ذمة الحوار الوطني، إلى تزكية الحكومة ومخرجات الحوار الوطني لضمان الانتقال الدستوري الآمن”. و”إعداد البلاد لانتخابات رئاسية وتشريعية مبكّرة وفق مقتضيات الوفاق الوطني ومخرجات الحوار الوطني”.

يبدو أنّ الأمور في نهاية الشهر التاسع تجري سريعة وفي الاتجاه الصحيح على طريق الخلاص الوطني (خلاص الوحل) من أزمة غير مسبوقة. ولا سبيل لذلك إلاّ  بجعل الكلمة النهائية للشعب صاحب السيادة الأصلية، للحكم على المتنافسين عبر صناديق الاقتراع، في انتخابات صرنا نشكّ في حريتها وتعدديتها وشفافيتها، بعد جعل الهيئة العليا للانتخابات معيّنة من الرئيس. فالانتخابات النزيهة وحدها تضفي الشرعيات الجديدة عن الحكام ووضع البلاد على طريق التعافي الاقتصادي التدريجي وتأمين التجربة الديمقراطية الفتيّة.

محمد القوماني

*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 254 تونس  في 28 أفريل 2022.

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: