الأجندة التونسية بديلا عن الأجندة القيسية

أمام استفحال الأزمة المركّبة والمتراكمة وتعاظم المخاطر على المالية العمومية وتداعياتها على الاستقرار الاجتماعي والسياسي، تتحرّك أطراف عديدة وتجري ترتيبات سريعة من أجل محاولة “إنقاذ الوضع” عبر “أجندة تونسية”، تعتمد التشاركية. أجندة يضعها فاعلون تونسيون. وتلتزم بمخرجات حوار وطني لا يقصي أحدا. وتعطي الأولوية للإنقاذ الاقتصادي والاجتماعي والإصلاحات المستوجبة على هذا الصعيد. وتهيئ البلاد لانتخابات عامة رئاسية وتشريعية بإصلاحات سياسية وقانونية متأكدة. فبذلك فقط يجدّد الشعب صاحب السيادة شرعية مؤسسات الحكم وتستأنف بلادنا مسارها الدستوري والديمقراطي. ونسلك الطريق الأكثر أمانا للخروج من أزمة غير مسبوقة، نحتاج فيها إلى دعم مالي من جهات مانحة، بعد أن  تطمئن على مسارنا ونكسب ثقتها.

فرئيس سلطة الأمر الواقع قيس سعيد لا يصرّ للأسف على أجندته الأحادية في الاستشارة والاستفتاء والانتخابات التشريعية، ويحرص على المرور بقوة في إنفاذها فقط ، بل أكثر من ذلك يُعلن صراحة وبصيغة استباقية نتائجها في وضع دستور جديد يكرّس نظاما رئاسيا، ووضع قانون انتخابي جديد يعتمد التصويت على الأفراد في دورتين. ولم يفصح بعد عن اعتماد دوائر محلية والتصعيد القاعدي لأعضاء “المجلس النيابي” كا سمعنا مرات من عناصر “الحملة التفسيرية”. وهو لا يخفي خلال أكثر من 8 أشهر من إجراءاته الانقلابية واستحواذه التدريجي على مختلف السلطات والهيئات الدستورية، أولوية مشروعه السياسي الشخصي على الأولوية الاقتصادية والاجتماعية لعموم التونسيين. بل إنّ زمنه غير زمنهم. وهو لا ينفكّ يُشهر في كل مرة “سيف القضاء” المتحكّم فيه، لتهديد مخالفيه. ومن ذلك التحريض مؤخرا على القضاة الذين لا يسايرون إرادة “السلطة” الوحيدة في تتبع نواب الشعب خاصة، واقتياد 120 منهم إلى مقصلة الإعدام أو السجن المؤبد، بتهمة التآمر على أمن الدولة ومحاولة “الانقلاب”.

يجري نسق الزمن سريعا في تونس خلال الأسابيع الأخيرة بعد أن دقت ساعة التغيير. ولا عذر لأيّ طرف قادر على التأثير الإيجابي في مجرى الأحداث، في التخلّف عن دوره. وقد أبانت تجارب الماضي أنه في ساعات الحسم الوطني تتغير المعطيات، ويتنادى الوطنيون للمهام المتأكدة متعالين ولو ظرفيا، عن خلافاتهم ومناكفاتهم وأجنداتهم الخاصة وأخطائهم السابقة. وليست بعض أحداث الفترة الأخيرة سوى مؤشرات جدية على ذلك. فعقد البرلمان المُنقلَب عليه جلسة عامة تاريخية عن بعد، يوم الأربعاء 30 مارس بدعوة من مكتب المجلس، ومصادقة 116 نائبا على إلغاء الإجراءات الاستثنائية وإبطال الأوامر الرئاسية والمراسيم الصادرة بعد 25 جويلية 2021، كان حدثا نوعيا خلق وضعا جديدا. وإعلان الأستاذ أحمد نجيب الشابي نصّه السياسي الهام الذي عنونه ب”بيان 9 أفريل” وضمّنه نداءه/مبادرته من أجل تشكيل  “جبهة للخلاص الوطني”. تعمل على “توحيد الكفاح الميداني وعلى إعداد برنامج الإنقاذ والدفع إلى عقد مؤتمر الحوار الوطني دون توان ولا إقصاء”، كان حدثا بارزا حظي بالاهتمام والمتابعة ومنعرجا في عمل المعارضة التي يقع على كاهلها إنجاز هذه المهام وإنقاذ البلاد. وقد بدأ الأستاذ الشابي سلسلة لقاءاته مع مختلف الفاعلين من أحزاب سياسية وكتل ومجموعات نيايبية ونشطاء عبّروا عن دعمهم للمبادرىة والانخراط فيها. ولا يُستبعد تسجيل تفاعلات هامة على هذا الصعيد أو إطلاق مبادرات أخرى أو الكشف عن ترتيبات ما كانت تسير بعيدا عن الأضواء.

أخذ قيس سعيد الوقت الكافي وتوفّرت له فرص لم تسبق لغيره على الإطلاق في تونس المعاصرة، بعد نجاحه في الاستحواذ على مختلف السلطات، ومحاولته استغلال الظروف الاستثنائية لتمرير مشروعه السياسي الشخصي بالقوة القهرية.  ولا نظلمه في شيء حين نؤكد بعد 8 أشهر من انقلابه أنه فشل في الإقناع بمشروعه، وأبان عن عجز بنيوي في إدارة البلاد. وكان الإقبال الشعبي الضعيف جدّا على الاستشارة الإلكترونية عنوان فشل مشروع سعيد وروزنامته. وهذا ما زاد في اتساع دائرة الرفض لمشروعه في “البناء القاعدي” ومستلزماته، لينفضّ الناس من حوله مع مرور الأشهر، حتى بات  المعلنون عن تخليهم عن سعيد يشمل الدوائر القريبة منه والتي أبدت حماسا في تأييده بعد 25 جويلية. ولن يغيّر من واقع أزمة تونس في شيء، إصرار قيس سعيد على سلامة توجّهاته وشيطنة مخالفيه وسعادته بمراسيمه. فتونس تغرق كل يوم أكثر في أزمتها المركبة والمتراكمة، وتكاد تتوقّف (تحبس) فيها دواليب الحياة عن سيرها العادي، وليست دواليب الدولة فقط. وأوضاع عامة التونسيين تزداد سوءا ومعاناة. ولن تقدر “المراسيم” القيسية التي فقدت شرعيتها السياسية ولا “الاستفتاء” معلوم النتائج مسبقا، ولا حتى “الانتخابات” إن حصلت، على تغيير الأوضاع نحو الأفضل.

لا غنى عن أخذ التونسيين لناصيتهم بأيديهم قبل فوات الأوان، دفعا لأيّ مجهول، سيما خطر “الفوضى والعنف” الذي لا تستبعده دوائر عديدة. أو خطر  “التدخل الخارجي” الذي إذا توفّرت أسبابه فلن يتأخر في فرض إملاءاته مهما تنوعت عناوينه. وبعدما تبيّن أنّ الإصرار على خرق سفينة الوطن هو “الخطر الداهم”. فإننا إذا لم نأخذ على أيدي من يفعلون ذلك فسنغرق جميعا. ولن يكون خلاص تونس من الأخطار المحدّقة بها  بأجندة قيسية، ولا بأجندة شخصية أو حزبية أو جهوية أو فئوية لأيّ طرف، بل بأجندة تونسية جامعة، لن نختلف في ضبط أولوياتها ومتطلباتها، عبر حوار وطني متأكد أكثر من أي وقت مضى. إذا خلصت النوايا وصدقت العزائم.

محمد القوماني

*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 253 تونس  في 21 أفريل 2022.

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: