تشريعية بين رئاسيتين.. تنافس المترشّحين وحظّ الوطن؟

فرضت وفاة الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي ضغطا على الروزنامة الانتخابية التونسية بتقديم الرئاسية وإبقاء التشريعية في موعدها، (06 أكتوبر 2019) ممّا يجعلها تقع بين الدورة الأولى (15 سبتمبر 2019) والدورة الثانية (تحدّد لاحقا) للانتخابات الرئاسية. وقد تقدم العشرات، قبل غلق باب الترشحات، للتنافس على كرسي قرطاج، في حين أعلنت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات قبول أكثر من 1500 قائمة للتنافس على 217 مقعد تحت قبة باردو في 33 دائرة انتخابية. ولئن عكس كمّ الترشّحات حيويّة المشهد السياسي التعدّدي والحرّ في تونس الديمقراطية، فإنّه كشف من جهة أخرى هشاشة هذا المشهد وضعف المضامين وأولوية المواقع على البرامج ممّا يجعل السؤال مشروعا عن حظّ الوطن في هذا التنافس بين المترشحين على رئاسة الجمهورية أو على مجلس نواب الشعب؟
تباعد في الاهتمامات والأولويات ..
عشية انتخابات رئاسية وتشريعية، لا تخطئ عين المتابع للأوضاع العامة بتونس التباعد في الاهتمامات والأولويات الآخذ في الاتساع بين المشهدين المتقابلين السياسي والمجتمعي، الذين يفترض فيهما التقارب والتفاعل. فالمشهد السياسي يبدو مشوّشا ومحيّرا، تختفي فيه الاختلافاف في الخيارات والاقتراحات، وتتشكّل مكوناته على غير ما هو معهود في عالم السياسة، وتتآكل فيه مصداقية السياسيين تحت وطأة تأخّر إنجاز الوعود والقصف الإعلامي في تبخيس الأحزاب.
أما المشهد المجتمعي فيبدو محزنا ومخيفا، تتعقد أزمته وتتشابك على مستوات مختلفة، لتشمل مؤشرات الاقتصاد المفزعة، وأوضاع المعيشة الصعبة لشرائع اجتماعية واسعة، وارتفاع معدلات الفقر والتفاوت بين الفئات والجهات ومخاطر الجريمة المجتمعية، وتردّي أوضاع المدرسة العمومية وخدمات الإدارة والنقل والصحة، وأداء الأمن والقضاء الذي يبعث على السخط، واتّهام للحكومة بالعجز والفشل.
والأخطر في هذا الوضع أنّ اهتمامات السياسيين وأولوياّتهم لا تبدو معدّلة على هذا المشهد المجتمعي، كما أن اهتمامات أغلبية التونسيات والتونسيين لا تبدو معدلة على هذا المشهد السياسي الذي لا يهمّهم فيه من يكون الرئيس ولا لمن تكون الأغلبية في البرلمان، وقد لا تعنيهم الاستحقاقات الانتخابية أصلا. والأخطر من كل ذلك أن لا ينتبه الفاعلون إلى عواقب تباعد المشهدين.
مشهد سياسي ضعيف ومشوّش..
تقدّم العشرات بمطالب ترشّح للانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها. وتفيد مصادر بهيئة الانتخابات أنّ حوالي ثلثي الملفات تفتقد للشروط القانونية المطلوبة ولا تدلّ على جدية الترشح. ويتنافس أكثر من 15000 مترشحًا ومترشحة على الفوز بمقاعد المجلس النيابي المقبل. وتوزّعت مجمل القائمات بين 163 قائمة ائتلافية و687 قائمة حزبية و722 قائمة مستقلة. ولم تترشح سوى 10 أحزاب في جميع الدوائر، في حين ترشح 175 حزبا في دائرة واحدة. وتلك عينة على الطابع الشخصي لأغلب الأحزاب وضعف جلّها، بما يجعل عددها الذي يفوق المائتين مضلّلا.
فلم تشهد بلادنا، بعد أكثر من ثماني سنوات من إطلاق حرية التنظّم، تشكّل أحزاب سياسية وازنة وذات تمثيلية اجتماعية واضحة، رغم الكثرة. إذ أغلب التنظيمات، سواء التي يعود وجودها القانوني أو السرّي، إلى ما قبل الثورة، أو تلك التي نشأت في سياق الانتقال الديمقراطي، لا يخفى ما تعانيه من ضعف مادي وانحسار جماهيري، وانقسامات وصراعات على الزعامة وصعوبات الالتقاء والاندماج. فهي إمّا شظايا انفجارات حزبية، أو هي أقرب إلى مشاريع فردية أو جماعية حالمة.
وإزاء ما يحصل من تبخيس للأحزاب أو تنفير منها، تتنامى ظاهرة “المستقلين”، التي لا تخفى تعقيداتها وخلفيات أزمة الأحزاب في تشكيل بعضها، أو التحيل على الناخبين في عدد كبير منها. إضافة إلى ما في ذلك من خلفيات في مغالطة للرأي العام الداخلي والخارجي في التعاطي مع نتائج تلك “القائمات المستقلة”.

حين تقف الزنقة بالهارب..
كم يبدو لافتا ومحيّرا، أنه خلال الفترة الانتخابية، وقبل فترة وجيزة من موعد الاقتراع في الرئاسية والتشريعية، لم تطرح في المنابر الإعلامية أفكار جذّابة في الاقتصاد أو النظام السياسي أو العلاقات الخارجية أو صيغ عملية للإصلاحات المتأكدة، أو غيرها من المواضيع المضمونية، ولم تحصل مناظرات بين المتنافسين. فلا حديث إلا عن الأشخاص والقائمات والتجاذبات والانشقاقات، بما يجعل الصراعات داخل الأحزاب أو فيما بينها، تتعلّق بمواقع لا يبدو للوطن حظ كبير فيها.
ولئن بيّنت التجربة السابقة عدم التمييز في الخطاب الانتخابي بين الرئاسية والتشريعية، رغم اختلاف المجالات والصلاحيات، فإنّ التداخل سيكون أكثر في هذه المناسبة، اعتبارا للتداخل في الأجندة الانتخابية بين الاستحقاقين، ووقوع التشريعية بين رئاسيتين كما أسلفنا. إضافة إلى وجود رهانات رئاسية وتشريعية لعديد الأحزاب وحتى الشخصيات المتنافسة.
ولن يكون مسموحا ولا مُجديا في انتخابات 2019، تكرار سيناريوهات الوعود الزائفة والخطابات الشعبوية والاستقطاب الهووي والأيديولوجي، مهما كانت العناوين، ومهما كانت المناورات والمراوغات، ومهما حصل من توظيف للمستجدات. فبحلول مواعيد الحملات الانتخابية ستقف الزنقة بالهاربين، ليُواجَه المترشحون من الأحزاب والمستقلين، بأسئلة الناخبين، على غرار ما هي حلولكم لمشكلة المديونية المتفاقمة؟ كيف ستجلبون الاستثمار وتخلقون الثروة؟ ما الحلّ لخفض ملحوظ لنسبة البطالة؟ وكيف السبيل للتعاطي مع حوالي المليون من المعطّلين؟ ما هي رؤيتكم للإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية المتأكدة؟ كيف تعيدون التوازن للمالية العمومية؟ كيف تخفّضون كتلة الأجور بالميزانية ونسبتها في مختلف الوزارات؟ كيف ستتعاطون مع المؤسسات العمومية ذات الصبغة الانتاجية التي تعاني من الخسائر والديون؟ ما هي برامجكم المقترحة لتحسين البنية التحتية والنهوض بالصحة والتعليم والنقل؟ وما هي مصادر تمويل الإصلاحات؟ ما معنى الحوكمة الرشيدة؟ وكيف تقيسون نجاحها؟ ما هي خططكم المرحلية للقضاء على الفساد؟ ما ذا ستفعلون مع الاقتصاد الموازي؟ كيف تدمجونه؟ ما هي الحوافز وآليات الردع؟ ماهي مقترحاتكم العملية للعدالة الجبائية؟ وكيف ستجعلون المهن االحرة تخضع لما تقرّرون؟ ما هي مشاريعكم للجهات المهمشة ولتفعيل التمييز الإيجابي؟ هل أنتم مع منحة للبطالة ودفتر علاج لكل مواطن؟ من أين ستمولون ذلك؟ كيف ستتعاملون مع توقيف الإنتاج في مصالح حيوية؟ كيف ستضعون حدّا للجريمة التي صارت تهدّد أمن المواطنين؟
فالتونسيات والتونسيون ينتظرون أجوبة واضحة ومقنعة ووعودا قابلة للتحقّق في التصدّي لمشاغلهم و الاستجابة لانتظاراتهم المعيشية التي تراكمت وصارت تنغّص حياتهم وتتهدّد مستقبل أولادهم.
لنحذر العواقب..
فتحت ثورة الحرية والكرامة آمالا عريضة وغيّرت المزاج العام إيجابيا وشعر فيها الأغلبية بأنّهم يستعيدون وطنهم المخطوف منذ عقود، ويحلمون بأوضاع أفضل، لكن نسبة التشاؤم المفزعة اليوم في صفوف التونسيين وخاصة الشباب منهم، والإقبال اللافت على الهجرة، لا سيما في صفوف الإطارات من الجامعيين والمهندسين والأطباء وغيرهم، إضافة إلى قوارب الموت في صفوف الشباب المعطّل، صارت مؤشرات عكسية على ذهاب الآمال والتشكيك في الثورة، وربما الحنين إلى الماضي الذي قامت عليه.
فماذا يهمّ عموم التونسيين في أن ينتصر أيّ طرف يعرض نفسه ويتعالى صوته في الانتخابات، إذا لم يكن لذلك أثر مباشر في تحسين يومياتهم وتحقيق تطلعاتهم؟ وأيّ جدوى للديمقراطية إذا صار العزوف غالبا وصارت الانتخابات لا تعني إلاّ نسبة ضعيفة من المواطنين لم تصل إلى عشرة بالمائة في الانتخابات البلدية الأخيرة بباردو على سبيل المثال؟ وما الفائدة من السياسة أصلا إذا لم تكن الطبقة السياسية في خدمة المجتمع وتلبية تطلعات الشعب والتنافس على التقدم بأوضاعه وتحسين ظروف عيشه؟ إذ ليس أخطر على مستقبل تونس من هذا التباعد بين مجتمع الحكم (النخب) ومجتمع المحكومين (عامة الشعب).
ولكلّ ما تقدّم يتأكّد تساؤلنا عن حظّ الوطن من التنافس في الرئاسية والتشريعية؟ لعلّ صداه يبلغ المترشحين وذلك ما نرومه.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 119 ، تونس في 08 أوت 2019
https://scontent.ftun3-1.fna.fbcdn.net/v/t1.0-9/67561219_578419942689154_5161024881185259520_n.jpg?_nc_cat=101&_nc_oc=AQmeqWgNc9uikJk4wHLupgYKOwzhSaA_aSIpPGAMawNKvZ-qZWzdoP_V0xrgTXUqsq4&_nc_ht=scontent.ftun3-1.fna&oh=f0c8ed7223a6b2cff5d6026a3bb98b80&oe=5DDF4D53

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: