التنافس على قرطاج.. ترشيح مورو يربك الحسبات والحملة الانتخابية للمترشّحين حاسمة

تتّجه تونس بخطى ثابتة إلى ترسيخ انتقالها الديمقراطي من خلال تنظيم انتخابات رئاسية سابقة لأوانها مقرّرة ليوم 15 سبتمبر 2019. فقد بعثت قائمة المترشّحين المقبولين أوّليا بمؤشرات إيجابية لتنافس ديمقراطي غير مسبوق على قصر قرطاج. فالمتنافسون يعكسون إلى حدّ كبير الطيف السياسي والفكري في المشهد التونسي، ويحتلّ العديد منهم مواقع متقدمة، بما يجعلهم مترشحين جدّيين لاختبار موازبن القوى السياسية الحقيقية، من خلال انتخابات حرة وتعدّدية وشفافة، يبدو من الصعب التكهّن بنتائجها، وهذا أحد وجوه مصداقية هذا التنافس الديمقراطي. ففي ظلّ تنوّع المترشحين وتقارب حظوظ البارزين منهم، ومن خلال أصداء تصريحاتهم الأولى، يبدو أنّ الحملة الانتخابية، التي سترفع أسهم البعض وتنزل بأسهم آخرين، ستكون حاسمة في الترجيح بينهم، وهذا وجه آخر لمصداقية هذه الانتخابات الرئاسية وجاذبيتها وأهميتها، والتي نتطلّع إلى تسهم مع الانتخابات التشريعية، التي تقع بين دورتيها، في إنهاء فترة انتقالية وتدشين مرحلة حكم مستقرّ وقويّ وقادر على تأمين المسار الديمقراطي ورفع التحدّيات الاقتصادية والاجتماعية المتأكدة.
أعلنت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، في ندوتها الصحفية ليوم الأربعاء 14 أوت الجاري، قبول 26 مترشح (24 رجل وامرأتان) أوّليا، من أصل 97 مطلبًا، تقدمت للانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها. ولئن كشفت المطالب غير الجدية الكثيرة، وضجّة التلاعب بالتزكيات، ثغرات غير خافية في القانون الانتخابي، تمسّ من هيبة الاستحقاق الرئاسي، وتحتاج إلى مراجعة مستقبلا، فإنّ المحصّلة العامة تظلّ إيجابية. فالمناصب العامة في الدولة متاحة لجميع التونسيات والتونسيين على قاعدة المواطنة والمساواة وطبقا للدستور والقانون. وتونس الديمقراطية لن يُعاقب فيها أحد، مهما كان شأنه، على مجرّد تجرّئه على الترشّح لمنصب رئيس الجمهورية، مهما كانت حظوظ فوزه، على غرار ما حصل سابقا ببلادنا في العهدين البورقيبي والنوفمبري، وما يستمرّ العمل به في أغلب البلدان العربية.
كما عكس عدد المترشحين المقبولين تنوّعا أيديولوجيا وسياسيا واسعا في المشهد السياسي التونسي، وفتح المجال لتصنيفات يحتاج الكثير منها إلى تنسيب كبير أو بات فاقدا للدلالة في الواقع أصلا. فلا يساعد الناخبين في شيء تصنيف المترشحين إلى يمين ويسار أو إلى منظومة قديمة وأخرى جديدة، أو إلى ديمقراطيين وسطيين وغيرهم، أو إلى أنصار للثورة وأعداء لها، أو إلى جماعة السيستام وجماعة التغيير، وغيرها من التصنيفات التي تخضع للأهواء والدعاية المجانية والرغبة في تشويه الخصوم وخلط الأوراق، أكثر مما تستند إلى معطيات علمية وموضوعية. ويبقى اللافت وجود مترشحين محسوبين على نفس العائلة السياسية أو الأيديولوجية، بما يجعل التنافس بينهم أقرب إلى التنافس على الزعامة، وليس على رئاسة الجمهورية، على غرار منجي الرحوي (حزب الجبهة الشعبية) وحمة الهمامي (ائتلاف الجبهة محمد عبو (التيار الديمقراطي) والمنصف المرزوقي (حزب الحراك) من جهة ثانية. أو محسن مرزوق (حركة مشروع تونس) وسلمى اللومي (حزب الأمل) وسعيد العايدي (حزب بني وطني) وعبير موسي (الحزب الدستوري الحر) وناجي جلول (مستقل) من جهة أخرى.
كما تختبر عديد الشخصيات المستقلة مدى شعبيتها، بناء على صدى بعض نتائج سبر الآراء في نوايا االتصويت، أو التغطية الإعلامية، خاصة في الفضاء الافتراضي الأزرق، لبعض المواقف والأسماء، على غرار قيس سعيد وحمادي الجبالي وعمر منصور وسيف الدين مخلوف ومحمد الصغير النوري وحاتم بولبيار. وكذلك بعض مرشحي الأحزاب على غرار لطفي المرايحي (الاتحاد الشعبي الجمهوري)، ومحمد الهاشمي الحامدي (تيار المحبة)، وإلياس فخفاخ (حزب التكتل)، وسليم الرياحي (ائتلاف الوطن الجديد)، والصافي سعيد (حركة الشعب).
ويكاد ينحصر التنافس على المرور إلى الدور الثاني بين سبعة مترشحين من أبرز من تضمنتهم القائمة الأولية، وهم رئيس الحكومة الحالي يوسف الشاهد(حركة تحيا تونس)، ورئيس البرلمان بالنيابة عبد الفتاح مورو (حركة النهضة)، ووزير الدفاع المستقيل عبد الكريم الزبيدي (مستقل)، والرئيس التونسي السابق منصف المرزوقي (حزب الحراك)، ونبيل القروي (حزب قلب تونس)، ورئيس الحكومة الأسبق المهدي جمعة (البديل التونسي) وقيس سعيد (مستقل).
ننتظر إعلان القائمة النهائية للمترشحين للرئاسية يوم 31 أوت وانطلاق الحملة الانتخابية يوم 2 سبتمبر، للتعرّف أكثر على برامج المترشحين وخطاباتهم الانتخابية، من أجل قراءة أعمق لطبيعة التنافس وتقدير حظوظ المررور إلى الدور الثاني، إذ لا توجد فرضيّة واقعية لحسم التنافس في الدور الأول. ويحقّ لنا في انتظار ذلك أن نسوق الملاحظات الأوّلية التالية:
أوّلها أنّ إعلان حركة النهضة ترشيح الأستاذ عبد الفتاح مورو في وقت متأخّر، قد أحدث المفاجأة بلا شك وخلط الأوراق وأعاد حسابات أطراف عديدة وتقديرات عديد المتابعين، بما يؤثّر ضرورة على نتائج سبر الآراء حول نوايا التصويت في الرئاسية قبل دخول الفترة الانتخابية ومنع نشرها لاحقا.
ثانيها أن حركة النهضة بترشيح رئيسها راشد الغنوشي للتشريعية على رأس قائمة تونس، وترشيح نائبه الأول عبد الفتاح مورو للرئاسية، وتقديم عدد كبير من من أهمّ قياداتها في المكتب التنفيذي والمكتب السياسي وبمجلس الشورى وبالجهات، في القائمات التشريعية للفوز بمقاعد تحت قبّة البرلمان، التي يُفترض أن يجتمع تحتها مختلف القيادات السياسية الوطنية، على غرار التجارب الديمقراطية العريقة، تفصح عن خيار بدأت تتّضح عناصره منذ مدة، يقضي بالدفع بقيادات النهضة إلى مؤسسات الدولة، تجسيما لمصالحة الدولة مع الثورة، وتثمينا لدور المؤسسات في النظام السياسي لدستور الجمهورية الثانية.
ثالثها أنّ مشاركة زعيمي النهضة التاريخيين الغنوشي ومورو تعطي زخما انتخابيا، يحتاجه هذا الاستحقاق الوطني النوعي المهدّد بالعزوف، وتعود على الحزب بنتائج إيجابية انتخابية وسياسية. فهذا الخيار تكريس لمخرجات المؤتمر العاشر للحزب في التخصّص في العمل السياسي. وهو ضمانة أكبر للتوافق والتحالفات والتعاهدات التي يبرمها حزب النهضة مع شركائه في البرلمان. وهو عنصر استقرار للحكم، بإعطاء الحكومة القادمة التي قد تشارك فيها النهضة، أكبر قدر من الدعم السياسي لإنفاذ الإصلاحات المتأكدة، وتطبيق البرامج المعلنة. كما أنّ مشاركة القيادات الحزبية في الحكم ووجودهم بمختلف مؤسسات الدولة، من شأنه أن يخفّف من مصاعب المزاوجة بين الحزب والدولة ومشاكل الانسجام بينهما في ضوء دروس تجربة السنوات الماضية.
رابعها أنّ مورو، المحامي المشهور، والخطيب المُفوّه المميّز في سمت لباسه، رمز الأصالة والانفتاح، ذو النصف قرن في المشاركة في الحياة العامة، صاحب الثقافة الواسعة، و الرئيس الحالي بالنيابة للبرلمان، والداعي إلى المصالحة بين التونسيين وحدتهم ورفعتهم، وذا الصيت الخارجي، كان خيارا موفقا لحزب النهضة وسيضيف إلى قاعدتها الانتخابية، بما يعزّز من حظوظها في الرئاسية والتشريعية في آن. لكن الصفة الحزبية لمورو ستجلب له من السهام والمشاكل والصعوبات ما لا يمكن إسقاطه من الحسابات الانتخابية. فضلا على أنّ تميّزه الحزبي والشخصي وحرصه على استقلاليته، صفات لا يخلو من عناصر قوة وضعف في آن.
خامسها أنّ دخول حزب النهضة على خط المنافسة المباشرة على رئاسة الجمهورية، حق دستوري وأمر طبيعي لحزب بهذا الوزن، وضرورة انتخابية في السياق المخصوص، وهي منافسة جدية لا تستقيم معها ادّعاءات الطابع الرمزي للترشيح، ذات الأغراض الانتخابية المعلومة مسبقا. وهي منافسة لا تبرّر بأيّ حال نزوع البعض إلى خلق حالة استقطاب أيديولوجي وسياسي واستعادة عناوين مستهلكة تبينت خسارتها في الضدية للنهضة. فالاستحقاق الرئاسي وطني بامتياز، والناخبات والناخبون ينتظرون برامج وخطابات انتخابية تعزز وحدتهم وتقدّم حلولا لمشاكلهم الاقتصادية والاجتماعية أساسا وتساعد على تحسين أوضاعهم على مختلف المستويات، فلا تخذلوهم ولا تزيدوا في تشاؤمهم بالخزعبلات والمغالطات.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 120 ، تونس في 22 أوت 2019
https://scontent.ftun12-1.fna.fbcdn.net/v/t1.0-9/68597061_586345151896633_3753069545686827008_n.jpg?_nc_cat=103&_nc_oc=AQk16NVOK8yFqbsVioQALsq-wjERPFkn8Iv5jF_JhyrkRZgiRLV7lTQnvOdGYLeqAGw&_nc_ht=scontent.ftun12-1.fna&oh=f8989279d8cc7d5c55c2f83825d488b7&oe=5DD46B10

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: