الرئيس الراحل والرئيس القادم لتونس مرشّح توافقي بات أوكد..

ودّع التونسيات والتونسيون يوم السبت الماضي 27 جويلية 2019 رئيسهم الراحل الباجي قائد السبسي في جنازة وطنية تليق بمكانته وتبعث برسالة إكبار واعتراف، مهما كانت التقييمات الفردية أو الجماعية لمسيرة المرحوم. وتبدأ غدا الجمعة 02 أوت 2019 الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في قبول الترشّحات لانتخاب رئيس جديد للجمهورية التونسية في دورة أولى مقرّرة ليوم 15 سبتمبر القادم. ولئن غلب على المشهد السياسي طابع الوحدة الوطنية والتضامن في علاقة بالمصاب الجلل، فإنّ المتابع لا تخفى عليه محاولات التوظيف لوفاة الرئيس الراحل في تحديد هوية الرئيس القادم. كما أنّ أجواء التنافس ستستعيد التجاذبات السياسية والأيديولوجية التي ستغيّر بالتأكيد من هدوء الأيام الأخيرة. فلوقع وفاة الرئيس المباشر وتقديم موعد الانتخابات الرئاسية آثارهما المباشرة في اختيار الرئيس الجديد لتونس. كما لا يخفى تأثيرهما على حسابات الانتخابات التشريعية التي تليهما، والعكس بالعكس. ويبدو أنّ متنافسين رئيسيين سيظهرون في الأمتار الأخيرة، ستكون حظوظهم أوفر في السباق الرئاسي، مقارنة بالشخصيات المعلنة منذ فترة عن ترشحها للانتخابات الرئاسية في دورتها العادية.
تقديم الرئاسية يربك المتنافسين في التشريعية
من لطف الله تعالى ببلادنا وحسن حظنا معشر التونسيين، أنّ وفاة رئيس الدولة المباشر، جاءت في الفترة الانتخابية للاستحقاقات التشريعية والرئاسية الدورية، مما جعل البلاد مهيأة للانتخابات. غير أن تقديم الرئاسية بشهرين واختزال بعض آجالها وإنجازها قبل التشريعية وفي تداخل غير خاف معها، كانت عناصر مربكة للمتنافسين، من الأحزاب خاصة، وأجبرتهم على مراجعة حساباتهم.
ففي تجارب ديمقراطية عديدة تؤثّر نتائج الرئاسية في توجيه الرأي العام الانتخابي في التشريعية لصالح الطرف الفائز، على غرار ما يحصل بفرنسا على سبيل المثال. لكن في المثال التونسي الحالي ستجرى التشريعية بين دورتي الرئاسية، ويستبعد حسم المنافسة في الدور الأول. ومع ذلك ستتأثر الأحزاب بنتائج مرشحيها الإيجابية والسلبية، وخاصة النتائج الضعيفة منها . وعلى من لا يراهنون بجدية على المرور إلى الدور الثاني، أن يفكّروا جيّدا في تبعات تنافسهم في الدور الأول.
وفي هذا السياق أيضا لا يبدو وجيها أن يدعم طرف حزبي مرشحا رئاسيا من حزب منافس له في التشريعية. ففي ذلك إرباك للناخبين وخلط للأوراق غير محمود العواقب. ومن هذا المنظور يُستبعد دعم حركة النهضة لأيّ شخصية حزبية بما في ذلك يوسف الشاهد أو كمال مرجان أو المهدي جمعة أو المنصف المرزوقي أو غيرهم من قادة الأحزاب. كما لا يبدو وجيها أن يبقى حزب على الحياد في الدور الأول للرئاسية، ويجعل قاعدته الانتخابية على ذمة مترشحين، يصعب عليه استعادتهم من فلكهم بعد فترة وجيزة جدا في الانتخابات التشريعية. فأيّ السيناريوهات تبدو أقرب للتحقّق بعد تداول أسماء مرشحين جدد على غرار عبد الكريم الزبيدي والمنذر الزنايدي وربما الحبيب الصيد ومحمد الغنوشي وغيرهم؟
توافق في الرئاسية وتنافس في التشريعية
لمّا كانت الانتخابات التشريعية تنافسية بطبعها، خاصة بين الأحزاب الرئيسية، ومجالا لإبراز اختلاف البرامج والتوجهات والوعود، فإنّ التوافق فيها غير وارد، ويتجه التفكير إلى ما بعد الإعلان عن نتائجها. وفي ظلّ القانون الانتخابي المعتمد والنظام السياسي المقرّر، والتوازنات الحزبية المعلومة، سيظلّ انفراد طرف حزبي بالحكم مستبعدا، مهما كانت الإعلانات الانتخابية والرغبات الأيديولوجية. لذا وجب أخذ ذلك بعين الاعتبار من طرف المتنافسين الأوفر حظوظا، الذين سيجدون أنفسهم في شراكة في الحكم، حتى لا تكون مخلّفات الرئاسية، عوائق أمام التحالفات المستوجبة لاحقا.
ويختلف الأمر في الرئاسية عن التشريعية. فرئيس الجمهورية بمقتضى الدستور رئيس لجميع التونسيين، وهو ملزم بالحياد الحزبي بعد انتخابه، وهو رمز للدولة وضامن للوحدة الوطنية، وصلاحياته تتمركز حول قيادة القوات المسلحة وتعهد السياسة الخارجية أساسا، وهذان مجالان أقرب إلى التوافق الوطني منهما إلى الاختلاف، ويمكن الاتفاق على برنامج مشترك فيهما، بين أحزاب مختلفة ومتنافسة في التشريعية.
طريق مفتوح لمرشح توافقي للرئاسية
لماّ كانت الأحزاب الرئيسية التي تقدّمها استطلاعات الرأي، مدعوّة إلى حكم ائتلافي مرة أخرى، ولم تفصح بعد عن مرشحين لها لرئاسية 2019، فإنّ الطريق بات أيسر لتوافق هذه الأطراف على مرشّح مشترك. بل يبدو هذا التوافق أكثر إلحاحا لبناء الثقة بين هذه الأطراف المرشّحة للأدوار الأولى في تشكيل مشهد حكم قادم يراد له الاستقرار من جهة، إضافة إلى ضمان الانسجام المطلوب بين طرفي السلطة التنفيذية في قرطاج والقصبة من جهة ثانية.
إنّ مرشّحا توافقيا لرئاسية 2019، لا يعني “مرشّح الإجماع”، ولا يلغي الانتخابات التنافسية والتعددية، ولا يصادر حق أيّ طرف تتوفر فيه شروط الترشح، بل هو توافق الأحزاب الرئيسية ومن حالفها، في دعم مرشّح مستقلّ من غير أعضائها ومن غير المحسوبين على دوائرها، ممّن يستجيب أكثر من غيره، لمواصفات رئيس الجمهورية الذي تحتاجه تونس ما بعد 2019. كأن يكون رئيسا مُجمّعا للتونسيات والتونسيين ويحمي وحدة المجتمع والدولة، ويضمن علوية الدستور ويحترم مؤسسات الدولة، ويدعم المسار الديمقراطي، ويعزّز علاقات تونس الخارجية. وهذا الهدف يتحقق أفضل بمرشح توافقي بين الأحزاب المؤهلة للمراتب الأولى في البرلمان، بما يعزّز التحالفات السياسية بعد الانتخابات.
توافق موضوعي إن تعذرت المفاوضات..
لا يتيح الوقت المتبقي عن تقديم الترشحات فرص حوار مطوّل بين الأطراف المعنية للتوافق على مرشح مشترك لرئاسية 2019، لكن تسارع روزنامة الانتخابات المبكرة قد يفرض توافقا موضوعيا على مرشح يتقدم من تلقاء نفسه أو يلقى تشجيعا من بعض الأطراف على التقدم للرئاسية، ويحظى ميدانيا بدعم معلن من أطراف حزبية عديدة، حين لا تقدم مرشحا من داخلها وتدعو صراحة إلى التصويت لذلك المرشح المستقل. وقد يحسم مثل هذا الخيار الرئاسية في دورتها الأولى، أو يجعل مرشح التوافق في طريق مفتوح للفوز في الدور الثاني.
وهنا يحضرني مثال تطبيقي في التوافق الموضوعي المشار إليه لا يستبعد تكراره. ففي الساعات الأخيرة من الجلسة العامة لمجلس نواب الشعب ليوم السبت 28 جويلية 2018، ما كانت تزكية وزير الداخلية الحالي هشام الفوراتي لتحظى ب148 صوتا أو لتتمّ أصلا، لولا التوافق الحاصل في التصويت بين أغلب الكتل البرلمانية دون مفاوضات مسبقة بين تلك الأطراف. فقد تعذّر هذا العدد قبل ذلك الموعد بأيام قليلة لاستكمال تزكية أعضاء المحكمة الدستورية العائدين إلى اختيار البرلمان، أو لانتخاب رئيس جديد للهيئة العليا المستقلة للانتخابات، إذ تسبب تعطّل كيمياء التوافق الذاتي بين الشيخين وبين الحزبين الكبيرين في تلك الفترة، في غياب التوافق على هذين المؤسستين الحيويتين في المسار الديمقراطي، لكن كان التصويت الاضطراري المشترك للسيد الفوراتي ضربا من التوافق الجديد بديلا عن التوافق المألوف.
وإنّ غدا لناظره قريب.
رحل السبسي رحمه الله تعالى وظلّ التوافق أحد محاسنه، رغم ما اعترى علاقته بشريكه الغنوشي من فتور في العلاقة قبل أشهر من وفاته. ولا تزال بلادنا بحاجة إلى خيار التوافق الذي يحتاج إلى مراجعة وتجديد لصيغه ومضامينه. فهل يكون التوافق حول مرشح رئاسي مشترك بين أحزاب أساسية مختلفة، عنوان استمرار الرئيس القادم على درب الرئيس الراحل في جمع كلمة التونسيين وتعزيز فرص نجاح مسارهم الديمقراطي المميز؟ وإنّ غدا لناظره قريب.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 118 ، تونس في 01 أوت 2019

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: