الورطة التونسية: دوّامة السقوط أم قرار الشجعان؟ “دون روتوش”

أحرص أكثر من أيّ وقت مضى على الموضوعية ورفع التحفّظ في البوح بما يختلج في صدري ويشقى به عقلي حول حاضر المشهد السياسي التونسي ومستقبله. فحين ينزل التصنيف السيادي لتونس إلى المرتبة قبل الأخيرة من إعلان إفلاس الدولة، وتنقطع مواد أساسية من السوق بسبب العجز عن الدفع المسبق للمقتنيات، وتلتهب الأسعار، وتتجاوز نسبة العجز الرقمين لأوّل مرة. ويشتكي الأفراد والمؤسسات. وترتسم صورة خارجية سيّئة غير مسبوقة عن تونس، تزيدتها قتامة حملة الاعتقالات السياسية الأخيرة واستهداف الحريات العامة، إضافة إلى التصريحات الرسمية المسيئة للأفارقة جنوب الصحراء، المتنكرة للاختيارات الاستراتيجية والعلاقات التاريخية لتونس بمحيطها الإفريقي والتي غذّت عزلتنا الدولية.

وحين يصبح من غضب عنهم جزء هام من الشعب، وصفّق مساء 25 جويلية 2021 لمن زعم تخليص المشهد منهم، عناوين “للإنقاذ” و”خلاص الشعب” من التداعيات السلبية الخطيرة لشعبوية “المُنقِذ” الذي صار بعد أشهر قليلة خطرا داهما على الدولة والمجتمع. وتصل نسبة العزوف عن الانتخابات إلى 90 بالمئة وما تعنيه من رفض للعملية السياسية برمتها، بما يجعل المعادلة الشعبية “صفرية” في رفض الماضي والحاضر، وما قبل وما بعد. ويهيمن الغموض والتوجّس من المستقبل.

حين يحصل كلّ ذلك ندرك مأزق الورطة التونسية المركّبة والمعقّدة والمتراكمة، ومٱلات تدمير قواعد التعايش الديمقراطي، وتشكيك الكلّ في الكلّ، وأزمة الثقة المتبادلة. وحينها نستشعر دخول بلادنا في دوّامة السقوط الذي يبدو بلا قاع.

فبعد أن فشلت سلطة قيس سعيد، في حلّ أيّ من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية ذات الأولوية لعموم الشعب، بل فاقمتها. وبعد الانتفاضة الشعبية الصامتة ضدّ مسار 25 جويلية، بالامتناع الواسع عن المشاركة في انتخابات 17 ديسمبر 2022، وتأكيد الموقف في الدورة الثانية يوم 29 جانفي 2023. ها هي السلطة تجنح إلى قمع الدولة لمعارضيها واعتقالهم، وتخويف القضاة والضغط عليهم، وفبركة سيناريوهات التٱمر والتخوين، والتحريض على جزء من التونسيين.

وفي المقابل تستمر المعارضة وسائر الطبقة السياسية التقليدية عموما في “غيبوبة” وحالة إنكار. فهي بعد نحو سنتين من الإطاحة بعشرية الديمقراطية المُستَحقة بالثورة، لم تستخلص الدروس. فلم تقم مختلف الأطراف الفاعلة بنقدها الذاتي. ولم تجدّد مقارباتها ولا قياداتها ولا عرضها السياسي. ولم تبذل جهدا يُذكر في ترميم صورتها السيئة لدى عموم الشعب. ولم تعمل على تجسير الثقة معه، ولا حتى بين أطرافها المستمرة في المناكفة والتشكيك المتبادل والتنافي. وعجزت عن توحيد كلمتها وجهودها في مواجهة الحكم الفردي الذي يستهدفها.

وقبل هذا جميعا وبعده، تترى المؤشرات على إفلاس الدولة الوشيك وانهيار الاقتصاد الوطني واتجاه البلاد إلى الفوضى وإدارة التوحش. والعجيب أن يبدو ذلك خارج أولويات المتصارعين عن الحكم من مختلف مواقعهم. وكأنّ تصنيف موديز السلبي وسائر وكالات التصنيف لتونس، لا يعني قيس سعيد والمعارضين له، أو يتعلق ببلد ٱخر وشعب ٱخر.

يحضرني وأنا أراقب هذا الصراع العاري عن الحكم دون رؤى ولا برامج، حديث طريف لصديق يصنّف فيه السكارى اليوميين من روّاد الحانات في بلادنا. فمن يحتسون “بيرة” بين السادسة والثامنة مساء، “يتسلّون بطريقتهم”، ويعودون إلى أهلهم في وضع شبه عادي. ومن يستمرّون في الشّرب من السادسة إلى العاشرة، فأولئك يأخذ منهم السكر مأخذا، عادة ما يعبّرون عنه من خلال خصوماتهم المفتعلة وعنفهم مع من يحتكّون بهم، بداية من سائق التاكسي أو المارّة بالطريق، وصولا إلى الزوجة بالمنزل وربما الأبناء. وأمّا أولئك الذين يظلّون بالحانات حتى يتمّ طردهم منها، فلا يصحون من سكرهم عادة إلاّ صباحا، حين يجدون أنفسهم في المستشفيات أو مراكز الإيقاف أو في أوضاع أخرى مزرية. وربما “يتزوّج” أحدهم وهو سكران. وحين “تطير السكرة” يواجهون حقيقة الواقع وتبعات سُكرهم.

وحتّى يكون حديث صديقي قياسا لما نحن بصدده. أخلص إلى أنّ عموم طبقتنا السياسية، في السلطة أو في المعارضة، المعنية أساسا بالحكم، وبالديمقراطية “الحقيقية” موضوع الصراع الظاهر، لا يختلفون في مساراتهم ومصائرهم عن أصناف السكارى سالفة الذكر، على وجه المجاز بالطبع. كيف لا وهم مهووسون بالحكم، وبالتغيير الفوقي من خلال السلطة وحدها، دون اهتمام ببقية العناصر الثقافية والاجتماعية، ودون استحضار لضرورة المشروع الوطني الجامع لتجاوز الأزمة المركّبة.

فبعضنا “يتسلّى بحديث السياسة” دون ضوابط ولا التزامات. وبعضنا يغلبه الحماس ف”يتورّط” من حيث يدري أو لا يدري، في العنف السياسي اللفظي وربما المادي. وآخرون حالمون، تسبدّ بهم حالة الإنكار. ولا ينتبهون إلى المٱلات الخطيرة لأقوالهم أو أفعالهم إلا بعد أن “يقع الفأس في الرأس”. لكن يظلّ الجامع المشترك بين عموم الطبقة السياسية، حالة مفارقة الخطابات والمعطيات والتقارير والتحاليل المعتمدة في المؤسسات والاجتماعات الرسمية للواقع المعيش. فهي أشبه بحالة السكر بدرجات حسب الأصناف الثلاثة. ولذلك يبدو المستقبل ورديّا لكلّ منهم، رغم قتامة الواقع، واتساع الهوة بين المجتمع السياسي المنظُم، وأغلبية الشعب المهمّش.

وما لم يعترف مختلف الفاعلين، كلّ من موقعه وبحسب حجمه، خاصة من شاركوا في الحكم بعد الثورة، بالمسؤولية عمّا ٱلت إليه أوضاعنا والتعثّر في تحقيق أهداف ثورتنا، التي سُقطت في أيدي المنحازين إليها والمستفيدين منها. وما لم يتمّ الاعتذار للناخبين عن عدم الوفاء بالوعود، وعن الأخطاء في التقديرات والأولويات والقرارات والخيارات والسياسات التى ٱلت بعد عشرية من الانتقال الديمقراطي والفشل الاقتصادي، إلى مخاطر محدقة بالدولة والمجتمع، وحالة، سياسية ودستورية مغلقة، لم تكن إجراءات 25 جويلية 2021 العلاج المناسب لها، رغم ما حظيت به من قبول ودعم داخليا وخارجيا. ولم تكن صيغ “مقاومتها” لاحقا بصفتها انقلابا، مناسبة ولا ناجعة بدورها.

وما لم يعتذر من غدروا بالديمقراطية وأيّدوا دون تحفّظ مسار 25 جويلية وحرّضوا على إلغاء المؤسسات المنتخبة بغير الصيغ الدستورية، أو قبلوا بذلك او رحّبوا به مناكفة أو”شماتة”، وهدموا قواعد التعايش الديمقراطي التي لن نستعيدها بسهولة. وفتحوا الأبواب على مصارعها لخطابات الكراهية والتنافي والعنف. ووضعوا البلاد على حافة الإفلاس والفوضى وإدارة التوحّش. ولا يختلف من يستمرّون في تأييد مسار 25 عمّن تراجعوا في محطات لاحقة، في واجب المراجعة والاعتذار والتصحيح.

وما لم تدرك سلطة 25 جويلية فشل مراهنتها على ترذيل معارضيها ووصمهم وتخوينهم وتوظيف القضاء لملاحقتهم، وربح الوقت في إنهاكهم وتقليص أعدادهم. وما لم تكفّ عن “تجريب المجرّب” الذي بان فشله، في اتهام المخالفين ومحاكمتهم. فقد ازدادت المعارضة قوة وصلابة مع مرور الأشهر وارتفعت نبرة خطابها. ونجحت بعد سنة ونصف في تهرئة شعبية قيس سعيد دون غلق قوس حكمه. وممّا ساعد على ذلك أسلوب حكمه الفردي وإخفاقه في تحسين أوضاع الناس المعيشية. حتى حصل الانطباع العام بأن “قيس سعيد أهم عدوّ لنفسه”.

ما لم يتّخذ مختلف الفاعلين قراراتهم الشجاعة، بالاعتراف بأخطائهم والاعتذار عنها. وما لم ينصرفوا لمقاربات مختلفة في فهم ما حصل وما يُحتمل. وما لم يجدّدوا عروضهم السياسية وواجهاتهم الحزبية ولم يفسح من أخذوا حظّهم في التسيير، المجال لوجوه جديدة وواعدة. وما لم يعدّلوا اهتماماتهم وأولوياتهم حسب نبض عموم الشعب وأولوياتهم الاقتصادية والاجتماعية، حتى يستعيدون ثقة الناس. وما لم يعترفوا ببعضهم ولم يقطعوا مع الإقصاء والتنافي. ما لم يحصل ما ذكرنا من مختلف الفاعلين، عن قناعة وبرويّة، من أجل تدارك تجعله الأيام والشهور صعبا بمرورها. نرجّح الانهيار المحتوم والتردّي في دوّامة السقوط وخسارة الجميع، بما في ذلك “المتفرّجين” على حلبة الصراع و”المحرّضين” و”الشامتين” أيضا. ويدفع عموم الشعب الفاتورة بلا شك.

وحتّى لا نكون متشائمين. لا نتردّد في التأكيد على أنّه لا يزال بوسعنا مغادرة دوّامة السقوط، إذا غلب العقل العاطفة، وتقدّم الوطني على الشخصي، وكان القرار الشجاع بالاعتراف والاعتذار والانصراف، وتنادى مختلف الفاعلين إلى الحوار. فيتمّ التوافق مجدّدا على قواعد العيش المشترك والإصلاحات المتأكّدة، والأولويات الشعبية، وتأمين الديمقراطية والاحتكام إليها. وتكون العودة إلى الشعب، صاحب السيادة الأصلية، تكريسا لحقّه في تقرير مصيره بانتخاب حرّ لحاكميه. ولن يستقيم أيّ ترتيب سياسي فوقي يمارس الوصاية على الشعب، أو لا يعترف بحقه أو يؤجّله. فهذا مدخل لأي حلّ ديمقراطي لأزمة البلاد المتعفّنة، وهدف لا يبدو بلوغه بعزيز البتّة، إذا اجتمعت الكلمة عليه وتضافرت جهود مختلفة على الوصول إليه.

فبعد تأمّل في تعقيدات المشهد السياسي، يلوح اقتراح انتخابات رئاسية وتشريعية تتوّج الحوار الوطني بصيغة أو بأخرى، اقتراحا مناسبا وأقل كلفة وأكثر ضمانا للخروج من الأزمة وضمان الاستقرار. فهو مطلب ديمقراطي واضح وبسيط. قد يحظى بأوسع تأييد داخلي وخارجي. وهو مقترح مسكون بالواقعية، ولا يكترث ب”العنتريات” المستندة إلى “سرديات” مختلفة حول الصراع السياسي، بين “الانقلاب” و”التصحيح” وما بينهما من وجهات نظر في قراءة ما حصل مساء 25 جويلية 2021 وما سبقه وما تلاه. فليحتفظ كل بسرديته، ولكن لنجتمع على حلّ ولا نرتهن الوطن.

محمد القوماني

*منشور بجريدة المغرب، تونس في 08 مارس 2023

 

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: