الانقلاب المترنّح يُسائل النخب والمجتمع المدني والأحزاب

       لا يهمّني تحزّبك من عدمه ولا نشاطك أيضا. ولا يبدو لي الموقف من الفاعلين السياسيين ولا التقييم لعشرية ما بعد الثورة، ولا التموقع السياسي أو المهني، محدّدا فيما أروم تناوله. فكّر كما تريد وكن حيثما تختار وترتاح.  لكن اسمح لي، وهذا حقّي عليك، بمقتضى ما هو محمول عليك، بانتمائك إلى “مجتمع النخبة” وبما يؤهلك إليه مستواك التعليمي، وبما يترتّب عن انخراطك في المجتمع المدني أو الأحزاب، أن أسائلك، عن مسؤوليتك فيما آلت إليه أوضاعنا السياسية؟ وعن واجبك في حماية المكاسب الديمقراطية؟ وعن الدور المنوط بعهدتك من موقعك، في درء المخاطر المتربّصة بشعبنا ودولتنا ومجتمعنا ومستقبلنا؟ أخاطب وعيك بصفتك من “النخبة”، وكثيرا ما يقال أنّ قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان تهمّ النخب بالدرجة الأولى.

       لعلّ من أهمّ استخلاصات تحوّلات المجتمع والسياسة في التاريخ المعاصر لبلادنا، ومن أهمّ أسباب ثورة الحرية والكرامة، أنّ الاتجاهات التحرّرية في مجتمعنا التي رعتها دولة الاستقلال، ومستويات التمدرس العالية التي بلغناها، والخيارات الليبرالية في الاقتصاد التي انتهجناها، جميعها لا تناسب، بل تتصادم مع سياسة الانغلاق وحكم الاستبداد وقمع التعدّدية الفكرية والسياسية. فكانت الثورة حصيلة طبيعية لمراكمة نضال الأجيال من مختلف العائلات الفكرية والسياسية، وصيغة لحلّ التناقض بين تطوّر المجتمع وتكلّس الحكم. وبعد عشرية من المنسوب العالي في الحريات الفردية والعامة والممارسة التعدّدية والحكم التشاركي، سيكون من الصعب، بل من الخيارات بالغة الكلفة على المجتمع، العودة إلى الوراء واتجاه الدولة إلى الحكم الفردي والنهج التسلّطي.

       ومهما اختلفت تقييماتنا لعشرية حكم ما بعد الثورة، وأخطائها الكثيرة وتعثّرها الاقتصادي والاجتماعي خاصة، ومهما اختلفنا في تحديد المسؤوليات فيما آلت إليه الأوضاع من سوء على أغلب الأصعدة،  يُفترض أن نتفق بعد أكثر من 5 اشهر عن انقلاب 25 جويلية 2021، أنّ الأوضاع تزداد سوءا. وتوجد مؤشّرات قويّة على عجز الانقلاب على إدارة البلاد. والأرجح أنّ حقبة الانقلاب ستكون قصيرة، لكنها ستظلّ بقعة سوداء في تونس الجديدة ما بعد الثورة. وستكون محطّة للتأمّل والدراسة واستخلاص الدروس داخل تونس وخارجها أيضا. لكن لربح الوقت وتقليص الخسائر والتداعيات الناجمة عن الانقلاب. وحتّى لا تتردّى أوضاع بلادنا إلى مربّعات الإفلاس أو الاحتراب الأهلي أو انهيار الدولة، أو غيرها من السيناريوهات الرهيبة غير المستبعدة، التي عرفتها دول أخرى، والتي يكون التدارك بعدها أصعب بكثير وكلفته باهظة عن الجميع. لكل ذلك يبدو من المفيد الانتباه والتفاعل الإيجابي مع ما رمنا التعبير عنه  في عنوان هذا المقال بأنّ “الانقلاب المترنّح يسائل النخب والمجتمع المدني والأحزاب”.

       لن ننفك على تكرار أنّ حالة الانسداد التي آل إليها مسار الانتقال الديمقراطي، والحلقة المغلقة التي تردّت إليها الأزمة المركّبة والمتراكمة والمتشابكة سياسيا ودستوريا،  كانت  تستوجب تدخلا غير عادي  من الأطراف الفاعلة. وأنّ الحلول التي  تأخرت عن مواعيدها،  فسحت المجال لقرارات 25 جويلية التي لاقت تأييدا لافتا لا يُنكر. لكن بعد مسافة زمنية هامة من الحدث، وأمام تفاقم الأزمة بعد 25، وفي ظلّ المخاطر العالية على المنقلبين أنفسهم في التوغّل في الأخطاء ومستوجبات المساءلة القضائية، وعلى عموم الشعب ممّن سيدفعون الثمن في نهاية المطاف، وعلى الدولة المهدّدة بمزيد الضعف والتفكّك والمجتمع المهدّد بالانقسام والأحقاد والعنف  والاحتراب، ودرءا لكل هذه المخاطر، تبدو مسؤولية النخب عامة والمجتمع المدني والأحزاب خاصة، أوكد مما مضى، و المطلوب منها مختلفا عمّا سبق.

       فقد كان المجتمع المدني بمنظماته العريقة وجمعياته النشيطة وأفراده المتألقين، عنصر قوّة وتوازن واقتراح، ومفخرة خلال عشرية ما بعد الثورة. ولا يخفى على المتابعين حجم الأموال الضخمة الداخلية والخارجية، التي ضُخّت لدعم أنشطة المجتمع المدني التي لا يتّسع المجال لاستعراضها في جميع المجالات، سيما ما يتصل بالمواطنة والانتخابات والمشاركة السياسية والتربية على الديمقراطية. ويسائلنا الانقلاب البغيض عن آثار عمل المجتمع المدني في تحصين المجتمع من التردّي مجدّدا إلى الاستبداد؟ وهل كان ردّ الفعل على خرق الدستور بل تعليقه فعليا وانتهاك الحقوق والحريات التي ضمنها مناسبا؟ ولماذا تأخّرت مواقف المنظمات والجمعيات في رفض الانقلاب، ولا تزال مواقف أغلبها غائبة أو خافتة؟ وما قيمة مجتمع مدني مناصر للديمقراطية إذا غاب أثره في مثل زلزال 25 جويلية وما تلاه؟ وما هي تداعيات الحصائل الضعيفة والمواقف غير المشرّفة لعديد مكونات المجتمع المدني على تمويله والإقبال على أنشطته مستقبلا؟

       تطول الأسئلة المحيّرة في مساءلة الانقلاب للمجتمع المدني، لكن تظلّ الخيبة الكبرى في المنظمات العريقة التي حاز بعضها على جائزة نوبل للسلام وبدت مواقفها غير مشرّفة من الانقلاب. وأخصّ بالذكر الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان التي تشرّفت بالعمل داخلها وتحمّل المسؤولية في قيادتها لفترة غير قصيرة قبل الثورة، وكانت مفخرة النضال الحقوقي والديمقراطي تونسيا وعربيا ودوليا أيضا. فكيف لقيادة الرابطة الحالية أن تتلعثم في الصدع برفض الانقلاب على الشرعية الدستورية وانتهاك حقوق وحريات طالما ناضلت من أجلها؟  بل لعلّ قيادة الرابطة الحالية رسميا على الاقلّ، بدت أقرب إلى دعم الانقلاب وتسويقه. وكانت تصريحات كاتبها العام فضيحة وموقفا مخزيا حول تبرير محاكمة رئيس الجمهورية ورئيس الرابطة الأسيق الدكتور المنصف المرزوقي بسبب تصريحاته السياسية الرافضة للانقلاب. كما كانت تدوينة نفس الكاتب العام للرابطة، سقطة أخلاقية وموقفا مخزيا أيضا بالإساءة للشخصيات الوطنية وخاصة عميد المناضلين العنيد عز الدين  الحزقي، المضربين عن الطعام احتجاجا على الانقلاب وانتهاكات حقوق الإنسان منذ 23 ديسمبر 2021.

       أستحضر جيّدا تأثير المناكفات الأيديولوجية والسياسية وأزمة الثقة بين الفاعلين، على المواقف والعلاقات، ولكن استحضر قبلها نُبل القيم والمبادئ. وكم ناضلنا في الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان قبل الثورة حتى يكون شعار أحد مؤتمراتها ودَيدنها في المواقف “كلّ الحقوق لكلّ النّاس”. لذلك لا نجد مبرّرا لردّة اليوم.   واستنهض همم الرابطيات والرابطيين بأجيالهم للتحرّك دفاعا عن شرف الرابطة ومكانتها ودورها.كما أتطلع إلى مواقف أكثر انسجاما ومبدئية من مختلف المنظمات والجمعيات، دون أن تخالف طبيعتها غير الجزبية وغير السياسية. وأحيّي الأكادميين والشخصيات الوطنية والنشطاء المختلفين الذين لم يتأخروا عن الصدع بمواقفهم المناهضة لخرق الدستور والقانون والمحذّرة من الحكم الفردي المطلق والمحذّرة من مخاطر الدكتاتورية الناشئة والفاشية الزاحفة، وأرنو إلى سير نظرائهم على طريقهم في الشرف والمجد. فما قيمة علم تعلمناه أو نعلّمه، إذا لم يرفعنا في الدنيا قبل الآخرة، ولم يكن موجّها لنا في مواقفنا؟

       سلّطنا الضوء على جوانب من مواقف النخب والمجتمع المدني. أمّا مواقف الأحزاب السياسية فهي متداولة بكثرة ومعلومة. ونؤكد ختاما أنّ الانقلاب لن يصمد طويلا في وجه تطلّعات النخب وعموم الشعب إلى الحرية والديمقراطية. وسيكون شتاء الاحتجاجات الاجتماعية المشروعة قاسيا. ولن تجد ميزانية 2022 طريقا إلى تغطية العجز الكبير في مواردها في ظلّ الضبابية السياسية والنهج الانفرادي في الجكم وأزمة ثقة الداخل والخارج بالاستقرار السياسي. ولذلك يبدو الانقلاب مترنّحا. وكم سنحصي من السقّاط من حولنا يوم سقوطه. وإنّما تبنى الأمجاد بالمواقف المشرّفة، بصرف النظر عن المآلات.

محمد القوماني

*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 237، تونس  في  30 ديسمبر 2021

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: