أيّ دور للاتحاد في ترتيب حلّ لأزمة البلاد؟
طوى الاتحاد العام التونسي للشغل صفحة المؤتمر 25 بصفاقس صباح السبت 19 فيفري 2022، بإعلان نتائج التصويت وتوزيع المسؤوليات بين أعضاء المكتب التنفيذي الوطني الجديد الذي تجدّد أكثر من نصفه. وعقب نهاية أشغال المؤتمر، صرّح الأمين العام نور الدين الطبوبي، الذي تمّ التجديد له لدورة ثانية على رأس المنظمة، بأنّ الاتحاد أنهى ترتيب بيته الداخلي وسيفرغ للقيام بدوره الوطني في معالجة أزمة البلاد. وقد فوّض المؤتر المكتب التنفيذي الجديد إمكانية عقد مجلس وطني استثنائي لحسم خياراته حول الاستحقاقات السياسية للمرحلة القادمة. ويبدو أنّ اتحاد الشغل أكثر الفاعلين جاهزية للاضطلاع بقيادة حوار وطني، لتجاوز الأزمة المركبة والمتراكمة. فقد استعدّ منذ فترة لهذا الدور. واشتغل على مقترحات مضمونية في الغرض من بينها تعديلات في القانون الانتخابي وفي القوانين المنظمة للحياة السياسية، وخيارات للإنقاذ الاقتصادي. كما استحضر أكثر من سيناريو لإدارة العملية السياسية.
تمّ تجديد انتخاب نور الدين الطبوبي بنحو 80 بالمئة من أصوات المؤتمرين، وفازت قائمته بجميع مقاعد المكتب التنفيذي بأغلبية ساحقة، في وضعية غيرمسبوقة في تاريخ المنظمة. وقد جاءت نتائج المؤتمر 25 لتعزّز نتائج المؤتمر الاستثنائي السابق له قبل أشهر في تعديل القانون الأساسي وفسح المجال للأمين العام وأعضاء المكتب التنفيذي للترشح من جديد بعد دورتين متتاليتين. كما حسمت النتائج موازين القوى داخل الاتحاد لصالح الطبوبي وفريقه، في مواجهة معارضة نقابية بدت ضعيفة ولم تتقبل حقيقة تلك الموازين، ولم تخف محاولتها الاستقواء بالموقف السياسي المبالغ في مغازلة السلطة القائمة وإظهار دعمها اللامشروط لها. وقد خرج الأمين العام نور الدين الطبوبي أكثر شرعية وقوة، في المنظمة وداخل المكتب التنفيذي، بما يعزّز تأهّله للقيام بدور وطني في تجاوز الأزمة السياسية، على غرار ما نجح فيه سلفه حسين العباسي، وحاز بسببه الاتحاد على جائزة نوبل للسلام، مقاسمة مع بقية شركاء الرباعي الراعي للحوار الوطني في أزمة 2013/2014.
لا يخفى على المتابعين التطور النوعي والسريع في خطاب نور الدين الطبوبي وأدائه على رأس الاتحاد العام التونسي للشغل. وقد صار بارعا في تكثيف رسائله في عبارات بسيطة وبليغة في آن. وكثيرا ما تكون تصريحاته موضوع تداول إعلامي، بحكم موقعه بلا شك، ولكن لأهمية المضمون أيضا، خاصة فيما يتصل بالأزمة السياسية التي تبدو ليست من صميم اهتمامات الاتحاد. وقد عبّر الطبوبي خلال الأيام الماضية بعد المؤتمر 25، على قدرة بلادنا على تجاوز أزمتها مهما بدت مستفحلة ومعقدة، في نبرة متفائلة تقتضيها الأوضاع. و شدّد على تغليب المصلحة الوطنية على ما سواها، وعلى ضرورة التنازل من مختلف الفاعلين وتعديل مواقف جميع الأطراف، وعلى استبعاد الإقصاء بأنواعه. فتونس حسب تعبيره المتكرّر تتسع لجميع أبنائها. ودعا إلى اعتماد صيغ تشاركية في الحوار الذي يظلّ السبيل الوحيد لتجاوز الأزمة. وأن يعمل الجميع على وضع برنامج وطني عاجل للإنقاذ، وأن يجتهدوا في إنجاحه كلاّ من موقعه، وأن يتحمّل الجميع مسؤولياتهم. وتلك لعمري مبادئ عامة نبيلة لإطلاق حوار وطني متأكد، لا ينفك اتحاد الشغل عن الدعوة إليه، وأرضية جامعة لعمل مشترك منشود في هذه المرحلة.
لا تخفى علينا تعقيدات الوضع، وحسابات الأطراف الفاعلة في قرارات الاتحاد العام التونسي للشغل، وموازين القوى الداخلية التي تحكم المعادلة والأجندات غير المعلنة، فتلك من معطيات الواقع التي تُاخذ بعين الاعتبار. ومع ذلك نرشّح الاتحاد لأدوار متقدّمة في إدارة الأزمة، في ظلّ ضعف أداء الأطراف السياسية، بسبب حدّة التجاذب وأزمة الثقة بينها، وضعف أغلب مكونات المشهد الحزبي، وسوء تقدير بعضها لقواها وقدراتها، وأولوية مناكفة بعضها لبعض، على حساب المصلحة العامة المشتركة. كما لا يخفى علينا أنّ الاتحاد سيحصد إيجابيا ما زرعته أطراف سياسية عديدة وفعاليات مواطنية خلال الأشهر السبعة الماضية في مقارعة السلطة الجديدة بعد 25 جويلية ونزوعها للحكم الفردي المطلق. وقد غيّرت بلا شك، الوقفات الاحتجاجية المتعاقبة والمتزايدة لبعض أطراف المعارضة، المعادلة السياسية في صفوف النخب عامة والمجتمع المنظم على وجه الخصوص. فلئن كانت القرارات الرئاسية في 25 جويلية التي لا يخفي اتحاد الشغل دعمه لها، معطى هاما في المعادلة السياسية، فإنه ليس بوسعه إنكار معطى المقاومة السياسية الباسلة في الداخل والخارج، لتلك القرارات في الجهة المقابلة.
تدخل الإجراءات الانقلابية ل25 جويلة شهرها الثامن دون قدرتها على الوفاء بالحدّ الأدنى من تحسين الأوضاع العامة نحو الأفضل، بل تدلّ المؤشرات على تراجع الأوضاع نحو الأسوأ. وتتنامى المقاومة داخل المجتمع المنظم لنزعات الحكم الفردي المطلق، ويتغير المزاج الشعبي السلبي نحو الحكم الجديد تدريجيا. ومع الشعور العام الآخذ في الاتساع بالمخاطر الجمّة المحدقة بالدولة والمجتمع، وفي ظلّ استفحال الأزمة المركبة والمتراكمة، وتزايد احتمالات إفلاس الدولة ودخول الاقتصاد مرحلة التدارك الصعب وشبح مخاطر الفوضى والعنف، تتأكد الحاجة إلى التغيير وتنطلق ترتيبات الوضع الجديد سريعة في الداخل والخارج. ولئن تبدو الدعوة إلى الحوار الوطني الذي لا يقصي إلاّ من رفضه، سبيلا وحيدا للخروج من الأزمة وعنصرا مشتركا في مختلف الخطابات ذات الصلة، فإنّ الغموض يكتنف ترتيبات التسوية السياسية، التي يؤكد الجميع أنها الشرط والمدخل لمعاجة الأولويات الاقتصادية والاجتماعية.
لم تخف بعض تصريحات قيادات الاتحاد العام التونسي للشغل تواصلا قائما بين المنظمة ورئاسة الجمهورية، وانتظار تفاعل إيجابي أو سلبي من الرئيس قيس سعيد مع مقترحات تقدم بها الاتحاد لتعديل بعض القوانين في سياق السعي إلى إطلاق حوار وطني تشاركي. وبات منتظرا استقبال رئيس الجمهورية للأمين العام للاتحاد وربما كافة أعضاء المكتب التنفيذي بعد برقية تهنئتهم بنجاح المؤتمر 25 والتأكيد على اعتبار الاتحاد “شريكا وطنيا فاعلا”. كما لا تخفى انتظارات بعض الاطراف السياسية ودعمها لدور فاعل للاتحاد في الوصول إلى حلّ لأزمة البلاد. ورغم تتالي بيانات حزبية مختلفة وتصريحات مشكّكة في شرعية رئيس الجمهورية قيس سعيد ومشروعيته، بعد نكثه لليمين وإلغائه للدستور الذي أقسم على احترامه، وإطاحته ببقية السلطات، واستفراده بالحكم اعتمادا على القوة القاهرة ودون تفويض شرعي، وانتهاك الحقوق والحريات تحت سلطته، ورغم مخاطر خطابه على المجتمع ومخاطر مشروعه السياسي على الدولة، لا زالت أغلب الأطراف السياسية والاجتماعية تدعوه إلى التراجع عن قراراته وأوامره الرئاسية ومراسيمه وإنهاء المرحلة الاستثنائية والجنوح إلى الحوار والعمل التشاركي للبحث عن حلول تستأنف المسار الديمقراطي المعطّل وتصحّح المسار ولا تعود إلى الوراء. فمهما اختلفت المواقف من قيس سعيد وأقواله وأفعاله، فإنّ موقعه في الدولة قبل 25 جويلية وبعده، يجعله جزءا من الأزمة بلا شك وطرفا في الحلّ أيضا.
وإذا استمرّ الرئيس في غلق أبواب الحوار مع المختلفين معه، ومضى في نهجه الانفرادي في إدارة البلاد، فإنّ الاتحاد العام التونسي للشغل وبقية الفاعلين السياسيين والاجتماعيين، الذين لا يخفى أيضا رفع نسق عملهم واستعداداتهم، سيمضون إلى حوار وطني لا يتوقف على مشاركة قيس سعيد ولا على موافقته على مُخرجاته، ليضعوا “خارطة طريق” للخروج من الأزمة المركّبة في إطار دستوري، عبر إدارة مرحلة انتقالية أخرى، تستعجل برنامجا للإنقاذ الاقتصادي والاجتماعي وتتوافق على حكومة إنقاذ للقيام عليه. كما تتوافق على الإصلاحات السياسية الضرورية لإعداد البلاد لانتخابات تشريعية ورئاسية سابقة لأوانها، تعيد القرار إلى الشعب صاحب السيادة في اختيار من يحكمه، بعد أن تآكلت مختلف الشرعيات.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 245، تونس في 24 فيفري 2022
مقالات ذات صلة
25 جويلية: جمهورية مغدورة.. وذكرى حزينة..
2023-07-25