انكشفت الخطّة.. قضاء قيسي مرفوض

هل لا يزال لدى من احتفلوا بالقرارات الرئاسية ليوم 25 جويلية وساندوها وبشّروا بعهد سعيد بعدها، ما يُقنعون به على أنّها إنقاذ للوضع وتصحيح للمسار؟ فبعد 7 أشهر تأتي الحصائل مخيّبة للآمال على جميع الأصعدة وتزداد الأوضاع سوءا. وتنكشف الأجندة السياسية الشخصية للرئيس قيس سعيد، في محاولة تركيز حكم فردي مطلق، دون أيّة استفادة من أخطاء تجربة العشرية الماضية التي يحاول تأسيس مشروعيته على تبخيسها والتحريض عليها، ودون اعتبار من الدكتاتوريات التي سبقته. فزمن قيس سعيد وأولوياته غير غير زمن تونس وأولويات عموم التونسيين. وها أنّ المرسوم الرئاسي عدد11 لسنة 2022  المحدث للمجلس الأعلى المؤقت للقضاء، الصادر بالرائد الرسمي عدد 16 بتاريخ 13 فيفري 2022، يستهدف إخضاع السلطة القضائية بعد السطو على اختصاصات الحكومة والبرلمان، ويعزّز صفوف الرافضين لتوجّات سعيّد، والمتوجّسين في الداخل والخارج من دكتاتورية ناشئة. فبحلّ المجلس الأعلى للقضاء المُنتخب، تنكشف خطة قيس سعيد في  السيطرة على حكم تونس، عبر  التحكّم في القضاء وتوظيفه لاستهداف كافة المخالفين على غرار ما كان يحصل زمن حكم سلفه بن علي، وربّما أكثر. وفي ضوء هذه المواجهة الجديدة بين رئيس سلطة الأمر الواقع والسلطة القضائية، تدخل الأزمة المركبة ببلادنا مرحلة جديدة، يبدو أنّ مستقبل المسار الديمقراطي سيتحدّد في ضوء نتائجها.

بعد 7 أشهر من الإجراءات الانقلابية يزداد الوضع الاقتصادي تدهورا. وتغرق المالية العمومية في العجز، في ظلّ حصار دولي يشترط المساعدة باستئناف المسار الديمقراطي المعطّل، وتزكية الإصلاحات المتأكدة من القوى السياسية والاجتماعية الفاعلة. وتزداد معاناة الناس بارتفاع مشطّ للأسعار أو التأخّر في صرف الرواتب أو عدم الوفاء ببعض الوعود لجهات أو فئات، أو صعوبة الحصول على بعض الموادّ الأساسية للأشخاص أو الشركات. علاوة على وقف الانتدابات في القطاع العام ، وتجميد بعض التشريعات ذات الصلة، على غرار القانون 38 لسنة 2020 الخاص بمن طالت بطالتهم، وارتفاع نسبة البطالة وطنبا، والتلويح بوقف تفاوض الحكومة مع النقابات، حول تحسين القدرة الشرائية لمنظوريها. وفي ضوء شبح إعلان إفلاس الدولة، وارتفاع منسوب الاحتقان الاجتماعي، ينبّه المراقبون في الداخل والخارج من مخاطر الفوضى والعنف.

لا يبدو الوضع الاقتصادي والاجتماعي المأزوم ضمن الأولويات القيسية. فالاهتمام منصرف في هذه الفترة إلى “الاستشارة الوطنية” وإلى “تطهير القضاء”، في انتظار البقية. وعلى خلاف ما حصل مع السلطة التشريعية، تبدو الأمور أكثر صعوبة مع السلطة القضائية. إذ تمّ الاشتغال على تهيئة البرلمان للاستهداف بالحلّ، على فترة طويلة. وقد اعترفت عبير موسي بالعمل على ترذيله منذ اليوم الأول لعضوتها به. كما ذكر زهير المغزاوي وآخرون أنهم أسهموا في تهيئة الظروف للقرارات الرئاسية في 25 جويلية. ولهذا السبب أساسا يختصم الشركاء مع سعيد اليوم في نصيبهم من الغنيمة. كما ساهم الأداء غير المرضي  لبعض النواب والنقل المباشر للجلسات العامة ووضع البرلمان على الدوام تحت عدسات الكاميرا، في رسم انطباعات سيئة عنه. كما عمل رئيس الجمهورية نفسه على ترذيل البرلمان وتعطيل قراراته وتحريض أنصاره عليه. ولذلك كان استحسان قرارات 25 جويلية ضد البرلمان خصوصا. ولم تكن ردود أفعال عموم النواب في مستوى التحدّي الذي باغتهم وفُرض عليهم. فهم منقسمون ومتخاصمون قبل 25 وبعده.

أمّا الأسرة القضائية، على ما تشقّها من صراعات مختلفة، فتبدو أكثر تضامنا مهنيا على الأقل، كما تؤشر على ذلك إضرابات القضاة وبياناتهم قبل 25 وبعده. وقد ساهم المرسوم الرئاسي عدد11 لسنة 2022  في توحيد موقف الهيئات القضائية على رفضه والتمسك بالمجلس الأعلى للقضاء المنتخب. فبعد مواقف أعضاء المجلس نفسه وجمعيتي القضاة والقضاة الشبان، لم تتأخر نقابة القضاة التي لا تخفى خلافاتها مع جمعية القضاة، في بيانها الصادر يوم الإثنين 14 فيفري عن رفض المرسوم عدد 11  الذي  رأت فيه تكريسا لتبعية السلطة القضائية للسلطة التنفيذية من خلال آلية التعيين والإعفاء. وشدّدت على ضرورة اعتماد آلية الانتخاب فيما يتعلق بأعضاء المجلس الأعلى للقضاء. ويتجه القضاة إلى مزيد التنسيق والتضامن بينهم في مواجهة الوضع الجديد.

إذ لا يعترض القضاة على حاجة المرفق القضائي للإصلاح، بل ذلك مطلب هيئاتهم المهنية، لكنهم يرون ذلك بصيغة تشاركية ووفق أحكام الدستور وفي سياق عادي وليس استثنائيا. وحتى من لديهم انتقادات لأداء أعضاء المجلس الأعلى للقضاء المنتخب، انزعجوا كثيرا من مرسوم إحداث المجلس الأعلى المؤقت للقضاء. فقد عدّل المرسوم تركيبة المجلس المنصوص عليها بالفصل 112من الدستور وبالقانون الأساسي المنظم للمجلس. وهذا خرق  جديد جسيم للدستور وعمل تشريعي غير مقبول انتقده عمداء كليات الحقوق وكبار أساتذة القانون بتونس وفرنسا أيضا. كما صار المجلس مقتصرا على القضاة خلافا لما ينص عليه الدستور وما تقتضيه  المصلحة ويفرضه التوازن في المرفق القضائي من إشراك لغير القضاة. وقد اعتبر الرئيس يوسف بوزاخر أنّ حلّ المجلس الذي يرأسه ليس من اختصاصات رئيس الجمهورية وليس له آلية قانونية لفعل ذلك. وفي التركيبة المؤقتة نزوع واضح للتعيين يعطي لرئيس الجمهورية تعيين 9 من القضاة المتقاعدين في القضاء العدلي والمالي والإداري إضافة إلى التعيينات الأخرى غير المباشرة بالصفة. بما ينزع الشرعية الانتخابية عن الأعضاء ويسحب من القضاة حقهم في اختيار من يمثلونهم. كما منع المرسوم 11 حق الإضراب عن القضاة ومنع كل عمل جماعي  يدخل الإضراب عن العمل بالمحاكم في مخالفة للفصل 36 من الدستور وفي تهديد واضح للهيئات المهنية بالمرفق القضائي. هذا إضافة إلى ما أعطاه المرسوم من صلاحيات لرئيس الجمهورية في الاعتراض على قرارات المجلس وسحب ملفات الأبحاث من التفقدية وحق الفيتو على الحركة القضائية والتسميات بالوظائف السامية وحق طلب إعفاء القضاة أو تعهده بذلك.

إنّ هذا الخرق الجسيم والواسع للدستور من قبل رئيس الجمهورية الذي لا ينفك عن ترديد التزامه بأحكام الدستور والقانون، وبسط يده  على القضاء كليا، من شأنه أن يوحّد القضاة دفاعا عن سلطتهم، ومن شأنه أن يجلب لهم التضامن والتأييد من مختلف القوى الحية في المجتمع، من أحزاب سياسية ومنظمات وطنية وجمعيات بالمجتمع المدني. وهذا ما عكسته البيانات والمواقف المعلنة خلال الفترة الأخيرة. وما هتفت به حناجر من حضروا الوقفة الاحتجاجية بشارع محمد الخامس يوم الأحد 13 فيفري 2022 بدعوة من “مواطنون ضدّ الانقلاب” وحركة النهضة، وخطب به المتحدّثون بالمناسبة. كما عبّرت بيانات سفرات الدول السبع الكبرى والاتحاد الأوروبي وهيئات حقوقية وتصريحات سياسية خارجية عن الانزعاج من حل المجلس الأعلى للقضاء.

العدل أساس العمران كما قال الحكماء من قبل. والقضاء المستقل والعادل ضمان أساسي للحقوق والحريات الفردية والجماعية وركن من أركان النظام الديمقراطي، وشرط لمناخ سليم للاستثمار والأعمال. لذلك لا تقتصر معركة استقلال القضاء على القضاة لوحدهم، بل تمتدّ لتشمل جميع شركاء الوطن في الداخل، وحتى شركاء الدولة التونسية من الخارج كما تنص على ذلك بنود من عديد الاتفاقيات والمعاهدات. ولكلّ ما تقدّم نعدُّ معركة المجلس الأعلى للقضاء، معركة فاصلة في خطة قيس سعيد لتركيز دكتاتورية ناشئة، أو استئناف تونس لمسارها الديمقراطي الذي يظلّ دوما بحاجة إلى التصحيح.

محمد القوماني

*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 244، تونس  في  17 فيفري 2022

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: