خطر تقويض الدولة من الداخل يبلغ مداه: معركة فاصلة..

       كثيرا ما ردّد الرئيس قيس سعيد قبل التدابير الانقلابية ليوم 25 جويلية  وبعدها، أنّ من أهمّ الأخطار التي تهدّد بلادنا خطر تقويض الدولة من الداخل. وها نحن بعد نحو عامين ونصف من رئاسة سعيد للدولة وخاصة بعد سبعة أشهر من حكمه الفردي المطلق، يبلغ خطر انهيار الدولة مداه، ليصبح عنوان بعض التقارير الدولية حول مستقبل تونس، وشبحا  يخيّم على البلاد، يستأثر اهتمام المتابعين في الداخل والخارج. وبعد إعلان رئيس سلطة الأمر الواقع من مقرّ وزارة الداخلية في ساعة متأخرة من مساء السبت الماضي 05 فيفري، حلّ المجلس الأعلى للقضاء والتهديد المباشر للقضاة، هل لا زلنا نحتاج إلى مزيد المؤشرات على أنّ قيس سعيد، الذي يتربّع على أعلى هرم الدولة، تأكّد للأسف، أنّه من يعمل على تقويضها من الداخل. وأنّ مخططه بلغ مداه ويوشك أن يصيب هدفه، إذا لم يقع وضع حدّ لاستهدافه لمؤسسات الجمهورية ومكاسبها. وأنّ سفينة الوطن يتمّ خرقها وسنغرق جميعا إذا لم نأخذ على أيدي من يخرقونها.

       في الوقت الذي تتأكّد فيه الأولويات الاقتصادية والاجتماعية لتونس وشعبها، يستمرّ قيس سعيد في فرض أجندة سياسية شخصية، دون أية استفادة من أخطاء تجربة العشرية الماضية التي يحاول تأسيس مشروعيته على تبخيسها والتحريض عليها. فقد انصرف الاهتمام بعد الثورة إلى الحرية والانتقال السياسي على حساب الكرامة والانتقال الاقتصادي والاجتماعي. والحال أنّه لا نجاح لأحدهما دون الآخر. وتعمّق التباعد بين مجتمع الحكم (الأقلية من النخب) ومجتمع المحكومين (الأغلبية من عامة الشعب). ولم تعد مشاكل النخب فقط في تجاذباتها واستقطاباتها وانقساماتها وأمراضها الأيديولوجية والشخصانية، بل صارت أيضا وهو الأخطر في قطيعتها جميعا مع أغلبية عموم الشعب، خاصة من المهمّشين وغير المنتظمين في هياكل الدولة ولا المجتمع، ممّا فسح المجال لصعود الشعبوية. وها أنّ الأخطاء تتكرّر، إذ سرعان ما وقعت الشعبوية في أولوية السياسي على الاقتصادي، وانقلبت في زمن وجيز إلى خطر على مسار الانتقال الديمقراطي، وعلى النهوض الاقتصادي وتحقيق توازن المالية العمومية ومواجهة التحديات الاجتماعية في محاربة الفقر والبطالة والتهميش وعدم التوازن بين الجهات والفئات.

       فقد كشف التقرير السنوي  للمنتدى الاقتصادي العالمي، الصادر في جانفي 2022، حول المخاطر العالية المتوقعة، أنّ تونس من بين خمس دول من 124 دولة، ستواجه خلال السنتين المقبلتين مخاطر انهيار الدولة والتتداين والبطالة وتواصل الركود الاقتصادي وانتشار النشاط الاقتصادي غير القانوني. واعتبر التقرير أنّ خطر انهيار الدولة يأتي على رأس تلك المخاطر. وصنّف تقرير مجموعة الأزمات الدولية مؤخرا، تونس من بين 10 دول مهدّدة بصراعات كبرى أو حالات طوارئ إنسانية أو أزمات أخرى في عام 2022. وعرض التقرير تطوّر الأوضاع بتونس نحو الأسوأ بعد 25 جويلية 2021. وأكّدت تقارير مختصة على غرار تقارير صندوق الأزمات والبنك الدولي ومنتدى دافوس، نفس المؤشرات والاستنتاجات، حول المصاعب الحقيقية الكبرى التي يواجهها الاقتصاد التونسي. ولم يعد خافيا خطر إعلان إفلاس الدولة التونسية، في ظلّ ارتفاع المديونية وعجز الميزانية والمحاصرة المالية الخارجية، بما يفاقم اختلال توازنات المالية العمومية ويضع تونس في خطر الفوضى الاجتماعية والعنف.

       وإزاء هذا الوضع الاقتصادي والاجتماعي الكارثي يتأكد أنّ زمن قيس سعيد غير زمن تونس، وأولوياته غير أولويات عموم التونسيين. ولنا الدلبل في حصائل نحو 7 أشهر من حكمه وما كشفت عنه من عجز على إدارة شؤون البلاد وارتفاع منسوب التشاؤم وعدم ثقة الداخل والخارج في المستقبل، ومزيد معاناة الناس بارتفاع مشطّ للأسعار أو التأخر في دفع الرواتب أو عدم الوفاء ببعض الوعود لجهات أو فئات، أو صعوبة الحصول على بعض الموادّ الأساسية للأشخاص أو الشركات. كما لنا دليل إضافي في توسّع الرافضين للحكم الفردي بين النخب، خاصة في الأحزاب والمنظمات والجمعيات، بما يؤشّر على الأفق المسدود للانقلاب على الديمقراطية. فالحكم الفردي مفسدة مطلقة، وإن تلحّف بلباس المنقذ الذي يصم خصومه بالخطر الداهم.

       وإنّ ممّا يزيد في تعقيدات أزمتنا السياسية، ذات العمق الاقتصادي والاجتماعي في جوهرها، ما يمكن أن نصفه بالعجز الرئاسي الثلاثي والحكومة القيسية المُكبَّلة، الفاقدة للشرعية و الضعيفة الأثر. وقد أبانت حصائل أشهر  ما بعد 25 من تفرّد سعيد بالحكم ومسكه بجميع السلطات، وما أتاحته له من إمكانيات للقرار والفعل السريع، أنه يختزل عجزا ثلاثيا بنيويا لا يؤهله للمساهمة في تجاوز الأزمة المعقدة والمتراكمة  التي أراد تحمّل المسؤولية الشخصية في الخروج منها. فقيس سعيد عاجز عن الاستماع أوّلا. وعاجز ثانيا عن محاورة غيره من المخالفين خاصة. وهو عاجز ثالثا عن إدارة البلاد بأسلوبه الفردي، وباتجاه “مشروعه” الذي لا يكاد يتضح إلاّ لنفسه لا غير. ولم تسهم حكومة القصبة التي عينها على مقاسه على تلافي النواقص في قرطاج، بسبب طبيعة علاقة الوصاية والتبعية، مما جعلها مكبّلة في نظر الجميع بصرف النظر عن كفاءة أعضائها، ولم تقدّم أية إضافة منذ تشكيلها، ولا نجد لها أثرا في إدارة البلاد في هذه المرحلة الصعبة جدّا، خاصة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي. وهذا مما يزيد الطين بلّة كما في المثل.

       وبعد الخطاب القيسي الأخير نهاية الأسبوع المنقضيي، وما أرسله من إهانة وزارة الداخلية في عقر دارها بإلغاء فوري لبلاغها حول حظر التجمعات والمظاهرات، و”تشليك” اللجنة العلمية بتشجيع أعلى هرم السلطة على التظاهر في فترة بلوغ عدوى الفيروس ذروتها، وإعلان إنهاء المجلس الأعلى للقضاء شفاهيا من لحظة الخطاب، قبل إصدار المرسوم، وتهديد القضاة من مقر الداخلية، واعتبار قفص الاتهام أنسب لهم من أرائك إصدار الأحكام، بعد كل هذا تبلغ الأزمة السياسية مداها، وتدخل البلاد معركة فاصلة. إذ لا زالت الصواريخ القيسية على منصاتها كما تمّ ترديد ذلك. فبعد حلّ الحكومة وتعليق اختصاصات البرلمان وإلغاء الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين، وتجميد عمل هيئة مكافحة الفساد وإعلان حلّ المجلس الأعلى للقضاء، قد تشمل الصواريخ لاحقا  هيئة الانتخابات وربما جميع الهيئات المستقلة، وحتى القيادات العسكرية بعد أن طالت عددا هاما من الإطارات الأمنية العليا، وتمتد إلى كافة الذين لا تمشون في ركاب الانقلاب والحكم الفردي المطلق.

       لم يبق لأنصار الانقلاب، مهما كانت التعبيرات عن ذلك، ما يوارون به سوٱتهم. وقد عمّق الموقف من حلّ المجلس الأعلى للقضاء الفرز السياسي والحقوقي. وسيدفع بعض “الأوطاد” و”القومجيين” ومن حالفهم الكلفة السياسية لغدرهم بالديمقراطية. ولم يبق للمتعلّلين بالاختلافات وتحديد المسؤوليات عن ماضي العشرية من مبرّرات، للتمنّع عن توحيد الموقف والممارسة في الحاضر للتصدي للانقلاب. فالزمن السياسي لا يتسع لأيّ تأخّر. وقد دقّت ساعة الحقيقة والعمل.

       لم تتأخّر المواقف المشرّفة للأسرة القضائية، وفي مقدمتها المجلس الأعلى للقضاء، عن إعلان رفضها القاطع للقرار القيسي، وتمسّكها باستقلال السلطة القضائية كما ينص عليها دستور 2014. وجاءت مواقف عشرات الجمعيات والأحزاب للتضامن وتعزيز صمودهم. كما لم تتأخر المواقف الخارجية للهيئات الدولية والدول السبع الكبرى والاتحاد الأوروبي عن التعبير عن “قلقها البالغ” والدعوة إلى عدم حلّ المجلس واحترام مقوّمات النظام الديمقراطي. وستكون للتحرّكات الميدانية آثارها المُزلزلة في معركة فاصلة. فإمّا التراجع عن استهداف السلطة القضائية لتبقى درعا للمجتمع وحكما في أزمة سياسية حادة، وإمّا انهيار العدالة وبسط الحكم الفردي المطلق والقادم أخطر. والكرة في ملعبنا معشر الديمقراطيين والوطنيين، دون تصنيف، لتتجمّع الأماني في “باقة واحدة”، ولتتجمع الأيادي في “قبضة واحدة”. واليوم قبل غد.

محمد القوماني

*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 243، تونس  في  10 فيفري 2022

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: