تونس تغرق.. سنأتي جميعا صاغرين

تُوشك الإجراءات الاستثنائية ليوم 25 جويلية 2021 أن تغلق شهرها الثامن، ومع مرور الزمن تزداد الأزمة المركّبة والمتراكمة بتونس تعقيدا ويبدو الحل بعيدا.  نجح قيس سعيد خلال الأشهر الثمانية في جعل الاستثناء أصلا، بالانقلاب على الدستور والاستحواذ على مختلف السلط التنفيذية والتشريعية والقضائية، وإحكام قبضة الحكم الفردي المطلق، مدعوما من القوى الصلبة في الدولة. ويتمدّد الانقلاب للسيطرة على الإدارة والإعلام والمجتمع المدني، واستهداف مكاسب الحقوق والحريات، ليرتدّ المشهد السياسي سريعا إلى ما قبل ثورة 17/14. ومع ذلك تظلّ المفارقة في فشل قيس سعيد في الإقناع بمشروعه السياسي الشخصي، الذي لم يكشف عنه بوضوح خلال حملته الانتخابية ويحاول استغلال الظروف الاستثنائية لتمريره بالقوة القهرية. إذ تتسع دائرة الرفض لمشروع سعيد في “البناء القاعدي” ومستلزماته، وينفضّ الناس من حوله مع مرور الأشهر، حتى بات عدد المعلنيين عن تأييدهم الكامل للرئيس محدودا جدّا، وصار الحديث عن الفشل المحتوم للاستشارة الإلكترونية التي تنتهي مدتها يوم 20 مارس الجاري، عنوان فشل مشروع سعيد وروزنامته. ولكن في المقابل يصحّ أيضا بعد حوالي 8 أشهر، الحديث عن فشل المعارضة بجميع مكوّناتها في “إسقاط الانقلاب”، بل فشلها في جمع صفوفها واتحاد كلمتها على الحدّ الأدنى الوطني للخروج من الأزمة واستئناف المسار الديمقراطي المعطّل وإنقاذ الوضع الاقتصادي المهدّد بالانهيار والمنذر بإفلاس الدولة، والوضع الاجتماعي المحتقن والمنذر بالانفجار ومخاطر الفوضى والعنف. وفي ظلّ الفشل المزدوج وتوازن الضعف بين الحكم والمعارضة وطنيا، وفي إطار الرهانات الدولية والإقليمية على استقرار تونس، تزداد المؤشرات على أنّ الاهتمام الخارجي بتونس يتضاعف وتجري الترتيبات حثيثة لمعالجة الوضع بالسيناريوهات المختلفة التي تستوجب التغيير. وليست عروض صندوق النقد الدولي والبنك العالمي في الإصلاحات الإقتصادية والاجتماعية التي توصف في الغالب بالموجعة، التي تجد الدعم الديبلوماسي، وتّختبر فيها مختلف الأطراف، سوى عناوين حلول لمستقبل تونسي، مهما اختلفت الخطابات حوله، سيأتيه الجميع على الأرجح صاغرين.

تستمرّ أسعار النفط في الارتفاع في الأسواق العالمية، وقد تبلغ أرقاما قياسية حسب بعض تقديرات أكبر بيوت الخبرة في المجال، في ظل استمرار الحرب الروسية على أوكرانيا أساسا، علاوة على تعثر المفاوضات مع إيران حول الملف النووي.  فمع تجاوز سعر  النفط عتبة 120 دولارا في النصف الأول من هذا الشهر، لا يستبعد أن يبلغ 150 دولارا نهاية الشهر أو خلال الأسابيع القليلة القادمة. فضلا عن احتملات بلوغه 200 دولار نهاية العام حسب بعض التوقعات. وفي حالة تضاعف سعر النفط  بالحد الأدنى، المقدر ب75 دولار فقط في ميزانية الدولة التونسية لسنة 2022، تزداد أعباء الميزانية حسب الخبراء بنحو 3،5 مليار دولار أي بما يعادل 10 آلاف مليون دينار تونسي، التي تنضاف إلى عجز أصلي بنحو 20.000 م.د أخرى. علاوة على أثر الحرب في أزمة الحبوب وأسعارها وأزمة السياحة والتداعيات الأخرى للأسواق العالمية التقليدية على السوق التونسية.

لا تخفى على عموم التونسيين، فضلا عن الخبراء، تداعيات الأزمة الاقتصادية على العجز الحادّ في المالية العمومية الذي ينعكس في عناوين لا فتتة، على غرار تراجع التصنيف السيادي لتونس واشتراط الدفع المسبق على الدولة أو الشركات في السلع المستوردة، وتقلّص بعض المواد في السوق الداخلية،  أو تأخر صرف الأجور، أو ارتفاع مشط لبعض الأسعار، أو خوف المواطنين من نفاذ بعض المواد الحيوية، أو ظاهرة الطوابير على المخابز وأقسام مخصوصة بالمساحات الكبرى، أو ارتفاع نسبة البطالة بتوقّف الانتدابات بالقطاع العمومي والخاص وربما تسريح بعض العاملين. وفي مفارقة صارخة مع هذه المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية تبدو أولويات الرئيس قيس سعيد سياسية بحتة تتعلّق بتغيير النظام السياسي والانتخابي و”تطهير” البلاد وملاحقة المعارضين وإنجاح “الاستشارة الإلكترونية”، والوعود المتكررة والممجوجة بمراسيم في “الصلح الجزائي”  و”استرداد الأموال المنهوبة” وبعث “الشركات الأهلية”. كما تبدو اهتمامات المعارضة أيضا، ذات أولويات سياسية أساسا، في رفض توجهات الرئيس سعيد نحو الحكم الفردي المطلق والعمل على استئناف المسار الديمقراطي.

كشف التقرير السنوي  للمنتدى الاقتصادي العالمي، الصادر في جانفي 2022، حول المخاطر العالية المتوقعة، أنّ تونس من بين خمس دول من 124 دولة، ستواجه خلال السنتين المقبلتين مخاطر انهيار الدولة والتداين والبطالة وتواصل الركود الاقتصادي وانتشار النشاط الاقتصادي غير القانوني. واعتبر التقرير أنّ خطر انهيار الدولة يأتي على رأس تلك المخاطر. وصنّف تقرير مجموعة الأزمات الدولية مؤخرا، تونس من بين 10 دول مهدّدة بصراعات كبرى أو حالات طوارئ إنسانية أو أزمات أخرى في عام 2022. وعرض التقرير تطوّر الأوضاع بتونس نحو الأسوأ بعد 25 جويلية 2021. وأكّدت تقارير مختصة على غرار تقارير صندوق الأزمات والبنك الدولي ومنتدى دافوس، نفس المؤشرات والاستنتاجات، حول المصاعب الحقيقية الكبرى التي يواجهها الاقتصاد التونسي.

تشتدّ الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ويضيق الخناق على سلطة الانقلاب، التي تعزز مع الأيام شعورا بعجزها على تسيير شؤون البلاد ويتغير المزاج الشعبي نحوها سلبيا، أمام الحصائل المفزعة بعد نحو 8 أشهر من التسيير الفردي. لكن مع الأسف يتأكد في الجهة المقابلة، أنّ القوى الرافضة للاستبداد، لا تُحسن ترتيب المخاطر وتقديم الأهمّ على المهمّ، ولا تستثمر التقاءها الموضوعي في الأهداف والميدان، لتعجّل بالصيغ التنظيمية  والمضمونية الكفيلة بتشكيل الجبهة الديمقراطية التي توحّد الجهود وترسم البدائل لإنقاذ الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية أولا ومنع انهيار البلاد، واستئناف المسار الديمقراطي المعطّل وتصحيحه ثانيا. بما يستفيد من أخطاء العشرية الأخيرة ويعيد الكلمة للشعب صاحب السيادة، في انتخابات رئاسية وتشريعية مبكرة، تؤسس لشرعيات جديدة وتضع البلاد على طريق التعافي التدريجي وتأمين التجربة الديمقراطية الفتيّة. وقد جاءت مؤخرا ردود الأفعال الضعيفة على إيقاف العميد الأسبق للمحامين الأستاذ عبد الرزاق الكيلاني، ثم تركيز المجلس المؤقت للقضاء العدلي، لتعزز مؤشّرات الانقسام المهني والسياسي والأيديولوجي بين النخب المُنظَمة، والتي تعيش في مجملها حالة انفصام نكد مع غالبية المجتمع غير المنظَّم، الذي لم يبعث إلى حدّ الآن بأيّة رسائل  على استعداده للانخراط  في المعارك السياسية على أهميتها، والتي يضلّ الحاسم في مصيرها.

لقد أُسقطت عشرية الثورة بين أيدي النخب في الأحزاب والمنظمات والجمعيات ومختلف مواقع القرار والتأثبر، على اختلافاتها ودرجة مسؤولياتها فيما حصل. وتسلّلت الشعبوية  من بين مناكفاتها الأيديولوجية والسياسية حتى صرنا بين دكتاتورية ناشئة وفاشية زاحفة، نهرب من الرمضاء إلى النار. وربما تتبدّد فرص التدارك ويضيع الحلم الوطني. وحين تغرق سفينة تونس، وأظنّها مع الأسف توشك على ذلك، ستُفرض الحلول القاسية على الجميع، وستُمرّر إملاءات الخارج باسم صندوق النقد الدولي أو غيره من التسميات، وتتهاوى شعارات “السيادة الوطنية” و”الدولة الاجتماعية” وغيرها من الصياغات البرّاقة  وسنأتي جميعا، ولا أستثني أحدا صاغرين. ” والّي ما تعمل في الوسع يتعمل في الضيق”. ولن ينفع بعد ذلك تلاوم أو تبادل للاتهامات وتحميل المسؤوليات فيما كسبت أيدينا جميعا. و”لله الأمر من قبل ومن بعد”.

محمد القوماني

*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 247، تونس  في  10  مارس 2022

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: