مراجعات تونسية في السياسة والديمقراطية
25 يونيو 2023
موقع العربي الجديد
أثارت استقالة القيادي في حركة النهضة، أحد أبرز أعلام تيار اليسار الإسلامي في تونس منذ الثمانينيات، محمد القوماني من الحركة، والتي أعلنها في 8 يونيو/ حزيران الجاري، جدلا داخل الحركة وفي صفوف أنصار جبهة الخلاص الوطني، بعد أن عبّر في 5 إبريل/ نيسان الماضي عن اختلافه مع قيادة الحزب بشأن تقدير الوضع العام في البلاد ومقتضيات التعاطي معه، ودعا قيادة جبهة الخلاص آنذاك إلى عقد مسامرة فكرية بمناسبة مضي سنة على تأسيسها، تتناول فيها وجهة نظر القوماني لمسار التصدّي للانقلاب، من حيث المنجزات والتعثرات، بحضور رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، الذي قدّم بدوره وجهة نظر مقابلة.
كانت هذه الندوة دافعا للسلطة لاعتقال الغنّوشي والقوماني وقيادات سياسية أخرى، بسبب ما اعتبرته تحريضا على العنف في تصريحات رئيس “النهضة”، حين حذّر من مغبّة الإقصاء السياسي، وقال إن إقصاء الإسلاميين أو اليساريين أو غيرهم من الأطراف السياسية والفكرية مشروع لحرب أهلية. ثم جرى الإفراج عن محمد القوماني الذي لم يفرج عن كل ما لديه من أفكار وتوجهات نقدية للمشهد السياسي المعارض في تونس، وفي مقدمته حركة النهضة، وتسرّب منها النزر القليل خلال إشهاره الاستقالة أخيرا، فكان إعلان “النهضة” عن تأجيل مؤتمرها الحادي العشر الحدث القادح لإطلاق شرارتها، والتي يعتبرها بعضهم مثل جذوة يمكن الاستنارة بها في درب التغيير والتجديد في تونس.
وبسبب ما تعرّض له الرجل من سب وتجريح من دوائر شعبوية داخل المعارضة، في تناقض كلي مع أدبيات الاختلاف والنقد ومواجهة الفكرة بالفكرة، عدتُ إلى تصريحاته للتبين والتدقيق، فوجدته ثابتا في دفاعه عن الديمقراطية وحق التونسيين في العيش في إطار دولة حقوق وحرّيات تحفظ مواطنتهم وكرامتهم الاقتصادية والاجتماعية، كما لم يتردّد في الذود عن المعتقلين السياسيين الذين يتعرّضون لتآمر السلطة. وفي الوقت نفسه، أوضح التباينات الحاصلة لديه مع خيارات حركة النهضة وجبهة الخلاص في التصعيد المتواصل مع السلطة (الانقلابية) التي فرضت أمرا واقعا كرّس انتصارها السياسي، رغم هشاشة الوضع الاقتصادي والاجتماعي المنذر بأخطاره على الجميع، ما يستوجب، حسب رأيه، وقفة تقييم ومراجعة في أشكال التنظم ومضمون الخطاب السياسي المعارض، الذي يجب ألا يطغى عليه معجم الحرب، وأن يفتح باستمرار منافذ للحوار من أجل الخلاص، وأهم آليات الخلاص الذهاب إلى الانتخابات، من دون الوقوع في فخّ استعداء الدولة كيانا يأوي إليه الكل الذي ينتهي بتهميش أصحابه وتضييق دائرة قدراتهم على الفعل والتأثير، لتتدحرج مطالبهم وفق ذلك إلى مجرّد البحث عن الاعتراف القانوني لكياناتهم المعزولة.
البدايات كانت لها مقدّمات من أخطاء سياسية، تتحمّلها حركة النهضة وكل الطبقة السياسية والمنظمّات التي كان لها جميعا تأثير في دوائر الحكم
نعم، الرئيس قيس سعيّد هو البادئ، والبادئ أظلم، ولكن هذه البدايات كانت لها مقدّمات من أخطاء سياسية طوال العشرية الماضية، تتحمّلها حركة النهضة وكل الطبقة السياسية والمنظمّات التي كان لها جميعا تأثير في دوائر الحكم والقرار من خلال الدفع أو الجذب، كل حسب موقعه وتقديره.
هذه الأخطاء وعدم الاستثمار في الديمقراطية والرهان عليها بوحدة وطنية متعالية على الصراعات الأيديولوجية المرضية والمواجهات السياسية الصفرية، جعلت من كل المكاسب المتحققة في سنوات على مستوى الفصل في السلطات واستحداث المؤسّسات الرقابية والتعديلية والتشريعات الهامة، من قبيل قوانين مكافحة العنصرية، التعذيب، العنف ضد المرأة، قانون الاقتصاد التضامني والاجتماعي وتداول السلطة السلمي وغيرها من مكتسبات ثمينةٍ، تتحطّم على صخرة الشعبوية التي راهنت على ما لم يُنجز من مطالب وملفّات، هي الأقرب إلى ملامسة للواقع المواطني اليومي، وعلى إخفاقات النخب في بناء وعي ديمقراطي جذري وأفقي. إذ لا يمكن مطالبة هذه النخب، أو جزء منها، لأن بعضها في علاقته بالديمقراطية لم يكن سوى موضع الدود من الثمر، بالعودة إلى الديمقراطية من دون معرفة أسباب انتكاستها كجرف هار وسيلانها كنهر بلا قاع، رغم كل ملامحها التي كانت تبدو عليها وجعلتها محطّا للأنظار.
وبقطع النظر عن وجهة نظري في هذه الأسباب التي يطول فيها الحديث والتفصيل، بقدر طول حالة الدهشة التي أصابت المعارضة بعد انقلاب 25 يوليو (2021)، فانعكست على مواقفها المتنوّعة والمتضاربة، وعطّلت لديها آليات التقييم والمراجعة والتخطيط، فاستحال الحوار السياسي الهادئ والعاقل، وتأخرت بعض المبادرات الهادفة إلى التجميع، لتوأد في مهدها ويُعتقل أصحابها.
هل يكفي الدفاع عن القيمة من أجل نبل محمولاتها ودلالاتها النظرية، أم أن الوضعية هنا مختلفة، وتفترض الكثير من الجهد النقدي؟
الأسئلة الأهم من كيفية إسقاط الانقلاب هي كيف تستردّ الطبقة السياسية ثقة الشعب، وكيف يمكن بناء ديمقراطية صلبة في مؤسّساتها، مرنة في دينامياتها الفكرية والاقتصادية، يعمل في ظلها الجميع. ومن المؤكّد أن في الوسع العمل على أكثر من واجهة، ولكن بتوفر الشجاعة الكافية لمواجهة الذات قبل الآخرين، والتسلح بالإجابات الضرورية والكفيلة بضمان تحقيق أقدار من المصالحة السياسية الشعبية، ومن ثم إعادة البناء الديمقراطي على أرضيةٍ مواطنيةٍ واسعة.
ولكن لسائل مثلي أن يسأل: لماذا يدافع بعضهم عن عودة الديمقراطية في تونس بهذه السرعة، وخصوصا منهم أنصار حزب النهضة والتيارات الفكرية القادمة من خارج أطر وأنساق إكليروس “الحداثة الشكلانية”، ويقدّمون في سبيلها الغالي والنفيس، في حين أن تجربتهم القريبة معها برهنت على رفض جزء كبير من النخب التعايش الديمقراطي والقبول بالآخر، إلى درجة إنكار نتائج الصناديق الانتخابية، والبحث عن مسوّغات لتفتيت السلطة، بعيدا عن نجاعة فصل السلطات المحمود وتفكيك المؤسّسات من داخلها أحيانا، قطعا لطريق الحكم أمام الفائز “ديمقراطيا”؟
وبعد تفتيتهم السلطة وتكريس قوانين انتخابية تعسّر إلى حد المنع تصدّر حزب واحد الحكم، في لحظة خاصة، ثم التراجعات “التكتيكية” لخصومهم، ادّعوا أنها ديمقراطية فاسدة، وتهدّد وحدة الدولة وتماسكها، ولا بد من “تصحيح مسارها” بما يفيد اغتيالها، لأن زرعها لم يكن من جنس بذارها.
هل يكفي الدفاع عن القيمة من أجل نبل محمولاتها ودلالاتها النظرية، أم أن الوضعية هنا مختلفة، وتفترض الكثير من الجهد النقدي والبذل الفكري والسياسي لتأسيسٍ جديدٍ ومغاير، الهدف منه دولة المؤسّسات والمواطنة عوض دولة الفرد أو دولة الديمقراطية السائلة.