لحساب التاريخ.. إنصافا للغنوشي..

ستظلّ وقفة الثمانيني راشد الغنوشي أمام أبواب البرلمان التونسي المقفلة، قبالة مدرّعة عسكرية، وهو يخاطب ضباط الجيش بمقتضات الدستور ولزوم حياد المؤسسات الصلبة، وحقه في دخول مجلس نواب الشعب الذي يترأسه، ستظل لحظات فارقة عالقة بذاكرة الأجيال. فتلك الصورة التي طافت العالم فجر 26 جويلية 2021، كانت أكبر رسالة في فضح الوجه الانقلابي للقرارات الرئاسية الاستثنائية المعلنة استنادا إلى تأويل شاذ للفصل 80 من الدستور. وهذا ما تناولته مقالات عديدة. لكن ما أروم التوقّف عنده في تلك الصورة التاريخية، وهو الأهم عندي، أختزله في سؤال: هل كانت أقفال البرلمان المحروسة بالجيش والأمن، في وجه راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة، عنوان استمرار رفض الدولة لفئة من أبنائها، بعد عشر سنوات من ثورة الحرية والكرامة التي خلناها قد أنهت الإقصاء والاستئصال والازدراء المستند إلى الأيديولوجيا أو غيرها. وبعد دستور 2014 الذي أسس للمواطنة والمساواة وأمّن الحقوق والواجبات؟

ظهر الشيخ الغنوشي الخارج لتوّه من المستشفى العسكري بعد تلقيه علاج من مرض كورونا لأكثر من أسبوع، متماسكا ومتوثبا وفي غاية التركيز الذهني. لم يتردّد أو يتلعثم وهو  يصرّح لوسائل الإعلام أمام المقرّ المركزي لحركة النهضة، بأنّ الإجراءات الرئاسية الاستثنائية المعلنة مساء 25 جويلية تعدّ خرقا جسيما للدستور وهي انقلاب على شرعية المؤسسات. ودعا الرئيس قيس سعيد إلى التراجع عنها. وعبر عن رفضها واتجاهه إلى دعوة الشعب إلى التصدي لها، دفاعا عن الديمقراطية التي تعدّ من أهم مكاسب الثورة. وبدا الغنوشي صارما إلى حدّ بعيد، حين ذكر أنّ عمر الثمانين يجعله غير خائف من الرئيس قيس سعيد أو غيره. فمن يفكر في إيذائه في بدنه في هذا العمر، فإنما “يقربه إلى الجنة” كما جاء على لسانه.

لم تكن الصورة عن الانقلاب لترتسم لولا مسارعة الغنوشي في الساعات الأولى إلى الذهاب إلى مكتبه بالبرلمان، ليتم منعه من الدخول ونائبته الأولى سميرة الشواشي وبعض النواب الآخرين، بالقوة العسكرية. وبعد أن تجمّع بعض أنصار النهضة والرافضين للانقلاب، أمام مبنى البرلمان، مطالبين بفتحه، وحصل اعتداءات متكررة عليهم بالعنف لفظيا وماديا من أنصار الرئيس قيس سعيد الداعمين للقرارات الرئاسية، وبعد تزايد عدد المحتجين بتقدّم الساعات، لم يتردّد الغنوشي أيضا في دعوة المعتصمين إلى الانسحاب ودعوة القادمين من مختلف الولايات إلى ىالعودة على أدراجهم لمنازلهم. فقد بلغت الرسالة الثانية للداخل والخارج، بأنّ الإجراءات يوجد من يرحب بها ويدعمها، ويوجد من يرفضها ويتصدى لها. وأنّ الحكمة في خفض منسوب التشنّج ومنع أيّ احتمال للعنف باستبعاد الاحتكاك بين الفريقين أو التصادم مع قوات الأمن والجيش. وبذلك فوّت الغنوشي على المتربصين بالتجربة وبالنهضة سيناريوهات كانوا يدفعون إليها بحيل متعدّدة.

هكذا ظهرت رمزية الغنوشي في الساعات والمواقف الحاسمة، فتم تكثيف الرسائل في ترشّحه للبرلمان ورئاسته له، ووقوفه بنديّة وشجاعة في وجه تغوّل السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية ومخالفة أحكام الدستور. كما ألقى الغنوشي بثقله في التصدي للانقلاب، أمام الغياب اللافت لرئيس الحكومة هشام مشيشي، مستندا إلى حكمته وتجربته الطويلة في إدارة الأزمات، ومستفيدا من صفته رئيسا للبرلمان ومن رصيد علاقاته القوية والممتدة في الداخل والخارج زعيما لحركة النهضة.

يحاول البعض النيل من مكانة الغنوشي واستغلال الإجراءات الاستثنائية والغضبة الشعبية على الطبقة السياسية وعلى حركة النهضة بالخصوص، لتحميله مسؤولية الوضعية المأزقية والدفع بالأزمة السياسية في الدولة إلى الداخل الحزبي النهضوي، للمطالبة بخروج الغنوشي من المشهد السياسي كليا ومن الباب الصغير. وتلك أماني بعض الداعمين للقرارات الرئاسية ومحاولة الدفع بها إلى استهداف النهضة بدل حلّ مشاكل البلاد المركبة والمتراكمة والمتشابكة.

 وفي مقارنة خاطفة لا يمكن القفز عليها بين ما حصل في 7 نوفمبر 1987 وبين ما حصل في 25 جويلية 2021، نتبيّن بوضوح أن بن علي القادم للحكم آنذاك قد حرص على استبعاد قيادات حزبية في فترته الأولى، على غرار أحمد المستيري وأحمد بن صالح وحتى محمدة حرمل، رحمهم الله جميعا. وما أشبه اليوم بالأمس. كما نتبيّن أيضا فارق السياق الوطني والإقليمي والدولي في محاولة استهداف النهضة. فقد صنعت قيادة النهضة برئاسة الغنوشي علاقات وبنت مصداقية في الانتصار للديمقراطية وتحمّل المسؤولية، لا يخفى على المتابعين التقاط أثرها الواضح في كبح جموح الاستئصاليين ممن لم يُشفوا من الأحقاد الأيديولوجية والعمى السياسي، وخابت مساعيهم في توجيه القرارات الرئاسية ضد النهضة، أو تغذية “أطروحة ديمقراطية دون نهضة” أو جرّ الرئيس قيس سعيد إلى خط اللاّعودة في الاستئصال الذي تورط فيه بن علي ضد النهضة ولم يلبث أن صار استئصالا للحريات والديمقراطية، ليطحن الاستبداد كافة المخالفين. و”أُكل الجميع يوم أُكل الثور الأبيض”.

كان الترخيص لحزب النهضة بعد الثورة ومشاركته المتقدمة في الحكم بناء على الشرعية الانتخابية التي حظي بها، عنوانا بارزا لمصداقية الانتقال الديمقراطي. بل كان رُشد النهضة وتعاطيها الإيجابي مع مقتضيات الانتقال واعتمادها الترفّق بالتجربة وانخراطها في سياسة التوافق والمصالحة الوطنية والإدماج، محلّ استحسان قوى داخلية وخارجية داعمة للثورة التونسية، ومصدر إثراء وإلهام إيجابي لبعض التجارب الأخرى في المنطقة. فمشاركة “الإسلاميين” وإدماجهم في المشهد السياسي عنوان بارز لتصالح دولة الاستقلال مع قيم ثورة الحرية والكرامة. وانتقال “الإسلاميين” من دائرة المتصادمين مع الدولة التي كانت كلفتها باهظة في جميع البلدان، إل دائرة العاملين داخل الدولة والمساهمين في حكمها والعاملين على إصلاحها، مكسب لتونس ولبلدان شقيقة عديدة، وتوجه صائب كان الغنوشي أحد عناوينه. وليس من الحكمة ولا العدالة أن تُصدّ أبواب الدولة أمامه في آخر مشواره.  

رُمت أن أجدّف ضدّ التيار في هذا المقال لحساب التاريخ وليس لحساب السياسة. ففي الوقت الذي توجّه سهام من كل حدب وصوب ضدّ الغنوشي، رمت أن ألفت الانتباه إلى حقائق قد تغيب حتى عن بعض النهضويين، في لحظات توتّر وزلزال سياسي. لكن محاسن الغنوشي ومكاسبه لحركته وللبلاد التي ذكرنا بعضها، لا تحجب حجم أخطائه العديدة التي تظل هامة وبحجم مسؤوليته في الحزب والدولة. وقد تكون من فضائل الزلزال الأخير منح النهضة وقيادتها وعلى رأسهم الغنوشي، فرصة مراجعات عميقة وتجديد جذري لحركتهم، كان مطلوبا قبل 25 جويلية وصار أوكد وأسرع بعده.

محمد القوماني

*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 216 تونس  في  05أوت 2021

**ننشر المقال كما أرسل للجريدة التي أدخلت عليه بعض التعديلات. 

   

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: