كُفّوا عن ملاحقة النهضة..تبدأ مرحلة جديدة..
ظلّت حركة النهضة محلّ ملاحقة أمنية وقضائية معلومة، منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي إلى انتصار ثورة الحرية والكرامة مطلع سنة 2011. وكانت ملاحقتها أبرز عناوين استبداد الحكم. لكن يوجد صنف آخر من الملاحقة غير الأمنية والقضائية، لم يحظ بالاهتمام اللازم، رغم خطورته. وقد دوّنت تقارير حقوقية وسياسية ومنشورات أدبية بعض فصول الملاحقة الأمنية والقضائية التي طالت المنتسبين ، وحتى أهاليهم والمتعاطفين معهم والمشتبه بهم أحيانا. وكانت الشهادات العلنية بهيئة الحقيقة والكرامة لبعض ضحايا الاستبداد في ملف حركة النهضة، مدوّية وصادمة لمن تابعها. ونعتقد أنّ نوعا آخر من الملاحقة التي وُجدت قبل الثورة واستمرت بعدها، والتي نسمّيها الملاحقة الفكرية والسياسية، لا تقلّ خطورة في تهديد الديمقراطية، وتظلّ في الحدّ الأدنى إحدى المؤشّرات الرئيسية على ضعف الديمقراطية في بلادنا، قناعة فكرية وممارسة واقعية. وهذا ما نروم تسليط الضوء عليه، لاعتقادنا أنّه ما لم يتمّ الكفّ عن تلك الملاحقة ، يصعب أن نطمئنّ على استمرار المسار الديمقراطي، والانتقال إلى مرحلة جديدة.
نكون متفائلين كثيرا حين نقول أنّ الثورة نقلتنا إلى الديمقراطية. والحال أنّنا نعيش مرحلة ما بعد الاستبداد، ونسير بثبات وصعوبة في آن، على طريق تثبيت ديمقراطية ناجزة ومستقرة. فقد تمّ في تونس ضمان الحقوق والحريات في الدستور. وتمّ تفعيل حرية التنظّم الحزبي والجمعياتي. ويكاد يحصل إجماع على أنّ مطلب الحرية أبرز ما تحقق من أهداف الثورة. وعلى أهميّة كلّ ما تحقّق على صعيد الانتقال الديمقراطي سياسيا، فإنّ المكاسب تظلّ هشة، لأسباب داخلية اقتصادية واجتماعية أساسا، ولأوضاع دولية و إقليمية أيضا، لكن الذي نودّ التوقّف عنده هنا، هي حظوظ التعايش بين الفرقاء والقناعة بالتنافس الديمقراطي والتداول على الحكم عبر الانتخابات الحرة والتعددية والشفافة دون سواها.
إذ لا تزال تتعالى من حين لآخر أصوات تحذّر من “تسلّل النهضويين إلى مفاصل الدولة”، و”التغلغل في الإدارة”، من خلال التعيينات، وكأنهم “غزاة” أو مواطنون من الدرجة الثانية؟ أو كأنّ أصحاب هذه الأصوات أولى بالمواقع في الدولة منهم؟ كما تتعالى أصوات أخرى منادية بإقصاء النهضة من المشهد السياسي تحت عناوين متعدّدة، تختلف في المداخل وتتّفق في الغاية. فالنهضة في خطاب بعض قيادات الأحزاب أو الشخصيات المستقلة، ملف أمني وليست منافسا سياسيا، والسجون والمنافي هي الأماكن التي تليق بقياداتها وأنصارها.
فماذا يعني الإصرار على اتهام النهضة بالضلوع في العنف والإرهاب قبل الثورة وبعدها؟ وبالاغتيالات السياسية أثناء قيادتها للحكم؟ ونفي الطابع المدني عن تنظيمها السياسي بعد ثماني سنوات من العمل القانوني؟ هل من مؤدّى سياسي لهذه الاتّهامات الخطيرة غير شطب النهضة من المشهد السياسي بحظر نشاطها ومتابعة قيادتها وأنصارها؟ بصرف النظر عن واقعية هذا الاحتمال. وما الجديد في هذه الاتهامات التي روّج لها بن علي طوال حكمه لتبرير قمعه الوحشي لحركة النهضة والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في حق منخرطيها والمتّهمين بدعمها؟ فأوّل الحرب كلام كما يقال.
لا جدال في أنّ القمع زمن الاستبداد قد طال المعارضة من العائلات الفكرية والسياسية المختلفة، لكن ما حصل مع النهضة زمن حكم بن علي كان استثنائيا كمّا ونوعا. في مخافر الأمن أثناء التحقيق وفي السجون سنوات العقوبة، ومن خلال المراقبة الإدارية غير القانونية بعد السجن، وحتى في الخارج بالنسبة للمهجّرين. وأهم ما يعنينا في سياق موضوعنا هي الملاحقة الأمنية والقضائية التي كانت تستند إلى ملاحقة فكرية، بدعوى الاشتباه بالانتماء أو التعاطف، خاصة بعدما تمّ تفكيك التنظيم واعتقال كل عناصره أو فرارهم، وبعد أن تمّ نقل الحركة وقيادتها رسميا إلى الخارج. فكم من الضحايا تمّ حشرهم في ملف النهضة من المدنيين والعسكريين ممّن لا انخراط لهم، فسجنوا، أو عذّبوا وتمّ إطلاق سراحهم، أو طردوا من العمل، أو حرموا من ترقياتهم، أو تمّ التضييق عليهم في عيشهم.
وأخطر ما في هذه الملاحقة الفكرية، التي بلغت التفتيش في الأفكار، هو انخراط أشباه مثقفين وسياسيين وإعلاميين فيها. وقد اشتهر المدعو أنس الشابي على سبيل الذكر لا الحصر، في هذا المجال. فكان يحرّض على أشخاص بعينهم ويفتّش في أفكارهم ويراقب معرض الكتاب والمكتبات العمومية والخاصة ل”تجفيف المنابع”. بل صارت تهمة “خوانجي” أخطر من تجارة المخدرات وغيرها من أصناف الجريمة. واتخذ البعض من “القوادة”، وهي كيدية أو كاذبة في كثير من الأحيان، مصدر تزلّف للحاكم وتمعّش.
ما الفرق بين الملاحقة الفكرية للنهضويين قبل الثورة وبعدها؟ ألم يتورّط البعض في الكيل بمكيالين في الدفاع عن ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان؟ ألم يكن يفتل زبانية بن علي سياطهم من صمت بعض النخب وتواطئهم؟ ألم يكن قمع حركة النهضة وادّعاء استئصالها مدخلا لقمع مختلف المعارضين للنظام من تنظيمات وشخصيات مستقلة واستئصال الديمقراطية في النهاية؟ ألم يفشل الرهان عن السكوت على قمع حركة النهضة لطمأنة الحاكم الجديد بالتخلص من منافس خطير، حتى يسمح لبقية المنافسين بالمشاركة؟ ألم يُؤكل الجميع يوم أُكل الثور الأبيض؟ لماذا ننسى دروس الماضي ونجرّب المجرّب ونكرّر الأخطاء الفاضحة؟
كتب الدكتور حمادي بن جاب الله، خلال الفترة الأخيرة، وتحدّث في وسائل إعلام متعدّدة، داعيا إلى تكوين جبهة اجتماعية وتقدمية لمواجهة حركة النهضة، وهذا في حدّ ذاته قد يبدو مبرّرا في سياق الصراع الفكري والسياسي. لكن أن يقول الدكتور بأنّه “يمكن القضاء على الإسلام السياسي في ستة أشهر”، بتغيير النظام الانتخابي، وبعض الإجراءات السياسية، فهذا تحريض غير مقبول على النهضة. وكيف للسيد بن جاب الله برصيد علمه وخبرته، أن يروّج لإنهاء حركة تبلغ من العمر نصف قرن، وصنعتها سياقات معقّدة، في ستة أشهر، بغير الإقصاء؟
لا نرى مهمّا تعداد الأمثلة، وقد اضطررنا لذكر إسمين من “المثقفين المستقلّين” حتّى لا يكون وصفنا عاما ومجرّدا. والذي يهمّنا إبرازه فيما نعنيه بالملاحقة الفكرية والسياسية، هو التتبّع الإعلامي المبالغ فيه لتصريحات قادة حزب النهضة وأنصاره، بما لا نجد له نظيرا مع بقية الأحزاب والشخصيات، و”التصيّد” و”الدسّ عليهم” من خلال “فيديوهات مفبركة” وتصريحات مخرجة من سياقها، أو ما يحرص عليه البعض، قبل الثورة وبعدها، من دعوة النهضويين إلى التخلي عن قناعاتهم وآرائهم، والتماهي معهم أو مع “النمط” حتى يتمّ “الاعتراف بهم”. والأخطر من هذا كلّه معاملة النهضويين على أنّهم استثناء أو “كرّايا” لا “ملاّكة”، وليسوا مواطنين متساوين مع نظرائهم في هذه الدولة المدنية.
توقّفت الملاحقة الأمنية والقضائية لأنصار حزب النهضة مؤقتا، في نظر بعض من صعب عليهم قبول ما جادت به الثورة من حرية الفكر والتعبير والتنظّم، وهم يعملون كلّ جهدهم لفرض ملاحقة فكرية وسياسية للنهضويين، للتحيّل في إقصائهم مجدّدا. وإن قيل أنّ عجلة التاريخ لا تسير إلى الوراء، وأنّ سنن الاجتماع البشري لا تخضع للأهواء، فإنّ الاطمئنان على مستقبل الديمقراطية في ربوعنا، والانتقال إلى مرحلة جديدة، يظلاّن متوقّفين على حرصنا على أن يتمّ الكفّ عن أيّة ملاحقة للنهضويين أو لغيرهم، . وشتّان بين الملاحقة والإقصاء على قاعدة التنافي، وبين الصراع والتعايش على قاعدة حق الاختلاف والتنافس.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد97 ، تونس في 28 فيفري 2019.