في نقد حركة النهضة ونقدها الذاتي ..

نشرتُ في العدد الماضي من أسبوعية “الرأي العام” مقالا حول الملاحقة الفكرية والسياسية غير المقبولة للنهضة، قبل الثورة وبعدها، لاقى اهتماما وتفاعلا. وقد لامني بعض الأصدقاء، في العلن أو عبر الاتّصال الخاص، على إغفال الاعتراف بأخطاء النهضة نفسها، ومسؤوليتها في بعض النقد الموجّه لها، وأزمة ثقة بعض التونسيين بها. وهذا ما نوجّه له اهتمامنا في هذا المقال. فحركة النهضة التي يمرّ هذا العام نصف قرن عن نشأة نواتها الأولى، ارتكبت بلا شك أخطاء عديدة في مسيرتها، مختلفة الآثار والتداعيات عليها، وعلى تاريخ تونس المعاصر. والحكمة العملية تفيد أنّ الذين لا يخطئون، هم فقط الذين لا يفعلون شيئا.

 لا يتّسع هذا المجال لسرد أخطاء النهضة، وليس ذلك مبتغانا، وما نرومه فقط، هو  تتبّع مدى استعداد النهضة للنقد الذاتي، ومدى استفادتها من نقد الآخرين لها، والاعتراف بالأخطاء وتحمّل المسؤولية، قصد التجاوز ومن أجل بناء الثقة مع المخالفين.

أدبيات النقد الذاتي ومراجعات الإسلاميين

       تُصنّف بعض الأدبيّات السياسية خاصّة والفكرية عامّة، ضمن ما يصطلح عليه ب”النقد الذاتي” كما ارتبط أكثر بأوساط اليساريين أساسا، وب”المراجعات” في أوساط الإسلاميين أساسا. وهو صنف من الكتابات التي تأتي في صيغة بيانات مطوّلة في الغالب، أو حوارات مدوّية لكبار القادة، أو وثائق تعكس حوارات معمّقة بالسجون، أو مؤلفات نقدية عميقة تشمل المنطلقات الفكرية والمفاهيم الكبرى ومناهج التغيير المعتمدة من التنظيمات السرية أو الأحزاب التاريخية أو الجماعات الدينية. وعادة ما تكشف هذه الكتابات اعترافات بالأخطاء أو اعتذارات للخصوم أو إقرارا بالمأزق والدعوة إلى حلول مختلفة. وتقود المراجعات في الغالب إلى انشقاقات كبرى داخل التنظيمات أو التيارات، أو نشأة كيانات جديدة عادة ما تكون تجاوزا للسابق وتطلّعا إلى مستقبل مختلف، و قد تفضي في حالات إلى تصحيح المسار وتطوير التجربة نفسها.

وتبدو المكتبة التونسية فقيرة في مجال النقد الذاتي للأحزاب والسياسيين عموما. والمؤلفات النادرة في هذا المجال لا تحظى بالاهتمام اللازم، ولا تبرز آثارها العملية في الممارسة. وتدفع أجواء المناكفات الأيديولوجية والسجالات السياسية إلى تجاهل المحاولات النقدية الذاتية والقفز عليها. وفي مثال دالّ نذكر النقد الذي باشره “الإسلاميون التقدميون”، للجماعة الإسلامية التي انشقوا عليها نهاية سبعينات القرن الماضي، وتعزّز بمحاولات نقدية عديدة للاتجاه الإسلامي بتونس خاصة ولأدبيات الإخوان المسلمين عامة، في سياق انسحابات متتالية من التنظيم، ومرحلة نقدية عرفها الفكر العربي المعاصر عموما. وكان لهذا النقد  أثره الواضح في تطوير الجماعة الأمّ وفي مستقبل الاتجاه الإسلامي ومسار حركة النهضة لاحقا.  وقد أقرّت وثائق عديدة في النقد الذاتي أنتجتها حركة النهضة في المهجر بعد محنة التسعينات، ونشرت بعضها في بياناتها وإصداراتها، الأثر الإيجابي لذلك النقد. ثمّ جاء المؤِتمر العاشر في أفريل 2016 ليخصّص لائحة للتقييم، أقرّت بأخطاء هامّة قبل الثورة وبعدها، وأثنت على النقد الداخلي والخارجي في تطوير خطاب حركة النهضة وسياساتها.

نهضة جديدة بعد المؤتمر العاشر

       تطوّرت حركة النهضة من جماعة دينية سرية في النشأة، إلى حركة سياسية احتجاجية محظورة، إلى حزب ديمقراطي مشارك في الحكم. عرفت منعرجات مفصلية، فاضطرت لإعلان نفسها والتقدّم بمطلب تأشيرة حزب قانوني في 6 جوان  1981 باسم الاتجاه الإسلامي. وغيّرت اسمها إلى حركة النهضة نهاية الثمانينات، دفعا لشبهة احتكار الصفة الإسلامية والاستناد إلى الدين في مرجعيتها، تفاعلا مع مستجدات الساحة وخضوعا لفصل في قانون أحزاب وضع على قياسها. وفي كلّ المحطات الحاسمة، التي كان يمكن فيها القطع مع الماضي والبداية من جديد، اختارت حركة النهضة نهج المراكمة التاريخية والتقييم  والإصلاح والتطوير من الداخل.  فكان المؤتمر العاشر محطة فارقة ونقلة نوعية.

كانت الحركة حريصة على عقد مؤتمراتها في مواعيدها في مرحلة السرية فضلا عن العلنية، وكانت بعض المؤتمرات العادية أو الاستثنائية محطات للمراجعة والإصلاح. وهذا ما عبر عنه رئيس الحركة راشد الغنوشي في افتتاح المؤتمر العاشر بقوله “إنّنا جادون في النهضة في الاستفادة من أخطائنا قبل الثورة وبعدها. نعترف بها ونصلحها دون مكابرة.” وأضاف في موضع آخر “فالنقد الذاتي شرط في عالم الحداثة، و كما كرّسنا هذا في تاريخنا سنرسّخه في مؤتمرنا العاشر”. وكان مضمون اللائحة التقييمية واستخلاصاتها واضحين في التوجهات الجديدة التي عكستها مختلف اللوائح التي تم نشرها لاحقا.

فمن أهمّ مخرجات المؤتمر العاشر تجديد الرؤية الفكرية لتكون أكثر انفتاحا وواقعية وانسجاما مع دستور الجمهورية الثانية، والتخلّي الذاتي عن نزعة الشمولية وتخصّص الحزب في السياسة، والمفاصلة مع الإسلام السياسي،  والتأكيد على الإسلام الديمقراطي، وتبني العمل داخل الدولة بدل معاداتها أو مخاصمتها، والسعي إلى فكّ الاشتباك الفكري مع الخصوم السياسيين والبحث عن أوسع توافق ممكن معهم، والانفتاح على مختلف الأجيال والكفاءات والشرائح الاجتماعية والتموقع في الوسط الاجتماعي العريض، وتجاوز الاستقطاب الأيديولوجي عل قاعدة الهوية، واعتماد التنافس على خدمة الناس واختلاف البرامج. وتلك ملامح “النهضة الجديدة” التي صارت  تقدّم نفسها للناخبين  بأنّها “حزب ديمقراطي ذو مرجعية إسلامية”.

       وبهذه المراجعات والتوجهات الجديدة شدّد البيان الختامي على أنّ “حزب حركة النهضة قد تجاوز عمليا كل المبررات التي تجعل البعض يعتبره جزءا مما يسمّى “الإسلام السياسي” وأن هذه التسمية الشائعة لا تعبّر عن حقيقة هويته الراهنة ولا تعكس مضمون المشروع المستقبلي الذي يحمله”.

في فضل نقد النهضة ونقدها الذاتي

لم تكن حركة النهضة لتبلغ هذا المستوى من التطوّر الملحوظ لولا  استفادتها من النقد المشروع الذي استهدفها في مختلف مراحلها، من داخل الساحة الإسلامية ومن خارجها.  وكان مؤتمرها السادس بالمهجر سنة 1995 محطة فارقة في النقد الذاتي. فقد  أقرّ تقييما معمّقا لمسار الحركة ووقف خاصة على أخطائها في المواجهات غير المحسوبة مع الحكم. و تمّ نشر ذلك التقييم لاحقا في كتاب أبيض بعنوان”البيان الشامل”. وكان ذلك البيان إيذانا بنقلة نوعية في المعجم السياسي والخطاب والعلاقات والسياسات.

ومع أهمية كل ما تحقّق على صعيد المراجعات المستمرة، ظلّت بعض الأسئلة بلا أجوبة مقنعة وظلّت بعض الشبهات ملتصقة بالنهضة. ونحسب أنّ أجواء المناكفات والملاحقة الفكرية والسياسية، التي لم تتوقف، لن تتح فرصة نقد ذاتي بحجم أخطاء النهضة في المعارضة أو في الحكم، والاعتراف وتحمّل المسؤولية. وما يصدق على النهضة يشمل غيرها من العائلات السياسية لاسيما من الدستوريين واليساريين والقوميين. وتلك إحدى معوّقات بناء الثقة.

ختاما

تبدو كثير من الانتقادات التي تستهدف حركة النهضة اليوم بلا مصداقية، لجهلها بما حصل فيها من نقد ذاتي وجهد تجديديّ، أو تجاهل ذلك. فبعضهم يتعمّد تقييم نهضة ما بعد الثورة، بمقولات وأخطاء الجماعة الإسلامية أو الاتجاه الإسلامي أو النهضة قبل المراجعات. وبعضهم يصرّ على سحب أخطاء الإسلام السياسي في العالم عليها. وتتحمل حركة النهضة بعض المسؤولية في ذلك. فالتطوّرات المسجّلة في مسيرتها، لن تكسب عمقها ومصداقيتها، إلاّ من خلال كتابات نظرية تؤصلها وتواكبها وتوثّقها، تعتمد منهجا تاريخيا تفهّميا لما حصل من أخطاء، ورؤية تجديدية أصيلة وعميقة في الإصلاح والتطوير.  فليس عيبا من أخطؤوا، ولكنّ العيب أن نبني على الأخطاء أمجادا.

محمد القوماني

*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 98، تونس في 07  مارس 2019.

https://scontent.ftun12-1.fna.fbcdn.net/v/t1.0-9/54257112_493512701179879_8047091545154781184_n.jpg?_nc_cat=111&_nc_ht=scontent.ftun12-1.fna&oh=7527a9aa9cb64baf005f0b8f04457c2d&oe=5D17EDD0
مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: