حكومة المشيشي في امتحان الميزانية: إمّا الإصلاح .. وإمّا الانصراف..
منذ تزكيتها في غرة سبتمبر 2020، ب134 صوتا من بين 217 نائبا بالبرلمان التونسي، كانت حكومة هشام المشيشي غير المتحزّبة، على محكّ اختبار علاقتها بالحزام السياسي الذي منحها الثقة، والذي شكّلت الأحزاب أغلبيته الواضحة. ويبدو أنّ المصادقة على مشروعي قانون المالية التعديلي لسنة 2020 وقانون المالية لسنة 2021 ستكون امتحانا عسيرا لعلاقة الحكومة بحزامها البرلماني، في شتاء تونس الصعب والمحتقن دوما، والذي يزيده هذه السنة المزاج السلبي العام تعقيدا، على خلفية تداعيات جائحة كوفيد 19 الصحية والاقتصادية والاجتماعية، والحصائل المُخيّبة للآمال في الذكرى العاشرة لثورة الحرية والكرامة. فهل ستتحمّل الأحزاب الداعمة للحكومة، والمقصيّة منها، عبء توازنات بالغة الاختلال في المالية العمومية؟ وهل تدفع تكلفة خيارات ميزانية لم تشارك في وضعها أو إقرارها بل لم تطّلع عليها قبل عرضها على البرلمان؟ وأيّ أفق لعلاقة المشيشي بالأحزاب والكتل النيابية الداعمة لحكومته؟
أعادت الحكومة مساء الجمعة الماضي 13 نوفمبر للجنة المالية بالبرلمان مشروع قانون المالية التعديلي لسنة 2020، الذي سحبته في 28 أكتوبر المنقضي وأدخلت عليه بعض التعديلات. وفي نقاش أوّلي مساء الإثنين 16 نوفمبر 2020 سجّل أعضاء اللجنة إيجابية تفاعل مصالح المالية مع ملاحظاتهم، لكنهم رأوا أنّ التغييرات المجراة ، التي نزلت بنسبة العجز من 13,4% من الناتج المحلي الإجمالي إلى 11,4%، تُعدّ دون المطلوب ولا تغيّر في جوهر المشروع. إذ من خلال تعديلات جزئية في الحسابات موارد وإنفاقا، صار حجم ميزانية الدولة المحيّنة لسنة 2020 بمقدار 49712 م د. وبذلك يستقرّ الدّين العمومي في مبلغ 97706 م د، أي ما يعادل 88% من الناتج الوطني، مقابل 72,5 في موفى 2019. ومن المنتظر تمويل العجز المسجّل باللجوء إلى الاقتراض الداخلي أساسا، خلال الفترة المتبقية من السنة في حدود 8461 م د.
استمرّت تساؤلات أعضاء اللجنة داعين وزير الاقتصاد والمالية ودعم الاستثمار لتقديم التوضيحات اللازمة حول مدى كشف المشروع المحيّن على جميع المعطيات عن توازنات المالية العمومية. فعلى سبيل الذكر لا الحصر، لماذا غابت المعطيات في البيانات المقدّمة عن ديون الدولة تجاه بعض المؤسسات العمومية وخاصة الصناديق الاجتماعية وصندوق التأمين على المرض إضافة إلى شركات الكهرباء والماء والنقل وغيرها؟ وما هو الأثر المالي للاتفاقيات الأخيرة التي أقرتها الحكومة بخصوص إدماج عمال الحضائر وتسوية وضعياتهم، أو تنفيذ الاتفاق المبرم مع معتصمي الكامور؟ وما مدى دقة نسبة النمو المقدّرة في ضوء آخر معطيات المعهد الوطني للإحصاء؟ وهل تقدر الحكومة على تعبئة موارد القرض الداخلي في الوقت الوجيز المتبقي من السنة؟ وما موقف البنك المركزي من المبلغ المطلوب منه؟ وما رؤية الحكومة للتعاطي مع ملف من طالت بطالتهم من أصحاب الشهادات العليا طبق القانون عدد38 لسنة 2020؟ وما مدى وضوح التقرير في تحديد أهم أسباب ما آلت إليه أوضاع المالية العمومية من تدهور؟ وما هي أبرز الإصلاحات المقرّرة لإيقاف النزيف وللتدارك وتحسين الأوضاع؟ على غرار كتلة الأجور المرتفعة جدا، والحالة المتدهورة بأغلب المؤسسات العمومية وخاصة ما تبدو منها مستعصية عن الإصلاح، ومنظومة الدعم، وأوضاع الصناديق الاجتماعية، والحدّ من التهرّب الجبائي وغيرها.
ليست الأسئلة والقضايا الخلافية المطروحة حول الميزانية التكميلية لسنة 2020 سوى تمهيدا لأسئلة أعمق وخلافات أوسع حول مشروع قانون المالية لسنة 2021، الذي يُقدَّر فيه حجم ميزانية الدولة ب52617 م د. وهي ميزانية توسّعية تكاد تضاعف ثلاث مرات ميزانية سنة 2010، تفوق فيها كتلة الأجور وخدمة الدين مداخيل الميزانية المقدرة ب33009 م د. وهذا ما يستدعي تعبئة موارد اقتراض لتمويل ميزانية 2021 بمبلغ 19608 م د، منها قرض داخلي ب2900 م د والبقية اقتراض خارجي. وهو ما يراه الخبراء متعذّرا بالمعطيات المقدمة، وفي غياب رؤية متكاملة والتزام الحكومة ببرنامج للإصلاحات المتأكدة وخطة طريق مزمّنة للتنفيذ. وفي انتظار ما سيؤول إليه الحوار داخل اللجنة المالية أو بالجلسة العامة لمجلس نواب الشعب، أصدرت كتلة حزب قلب تونس بيانا عبّرت فيه عن رفضها لمشروع القانون التعديلي لسنة 2020 في صيغته المعروضة وقرارها عدم التصويت لفائدته في الجلسة العامة. ويغلب على بقية الكتل التحفّظ إلى حدّ الآن.
تبدو حكومة المشيشي في امتحان عسير حقا بمناسبة نقاش الميزانية المحدّد بآجال دستورية لا يمكن تجاوزها. فحكومة الكفاءات غير المتحزّبة، التي رفع رئيس الجمهورية دعمه لها قبل أن تنال ثقة البرلمان، والتي لم تشارك الأحزاب في تشكيلها ولا يعلن أيّ منها تبنّيها، والتي أبان كثير من أعضائها ضعفا واضحا في الكفاءة قبل حصاد المائة يوم، هذه الحكومة تبدو بلا أفق في مواجهة شتاء عاصف وفي حالة هشاشة في علاقة بمطالب الأحزاب التي منحتها الثقة. فإمّا أن تبني الحكومة غير المتحزّبة مشروعيّتها بتبنّي ملف الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى المتأكدة ـ والتي تردّدت الحكومات السياسية في إنفاذها ـ وتلتزم بها أمام البرلمان، وتنال دعم مختلف الأحزاب والكتل المؤيدة لتلك الإصلاحات، وهي أغلبية أوسع من حزام منح الثقة. وبذلك يكون للحكومة حزاما سياسيا فعليا يمنحها القوة اللازمة في مواجهة أوضاعا صعبة ومعقّدة، وتكون لصفة “الاستقلالية” دلالة إيجابية. وإمّا أن تتلكّأ حكومة المشيشي في الإصلاحات المتأكّدة أو تتهرّب من تحمّل تبعاتها، فلا يبقى من مصلحة للأحزاب في دعم الحكومة والمصادقة على مشروعها في ميزانية الدولة وتحمّل تبعات خيارات لم تُشرك فيها. وعندها سيكون لإسقاط الميزانية الذي قد يحصل لأوّل مرة ما بعده، ولا يستبعد أن يكون ذلك بداية نهاية حكومة المشيشي. فإمّا الإصلاح وإمّا الانصراف، ولا تحجب هذه الثنائية المرجَّحة احتمالات أخرى تتيحها المناورات السياسية للمشيشي، وقد تفضي إليها سياقات لا أحد من الفاعلين يمسك كافّة خيوطها.
ما أحدثه تعديل ميزانية 2020 من جدال غير مسبوق، سيكون إضافة أخرى سلبية لسنة 2020 سيئة الذكر بالنسبة للتونسيين، والتي نسأل الله تعالى حسن ختامها، لكنه يظلّ إجراء غير مهمّ كثيرا، لأنّه يتعلّق بما تمّ في الماضي . ويبقى الأهمّ مستقبلا، إقرار ميزانية لسنة 2021، واقعية ومناسبة لأوضاع بلادنا، وتأمين مواردها الخارجية خاصة، ببرنامج مرافق يكون مقنعا في تمشيه الإصلاحي وقادرا على وقف نزيف المالية العمومية الذي جعله هشام مشيشي من أولويات حكومته.
منشور بجريدة الرأي العام، العدد 182، تونس في 19 نوفمبر 2020
مقالات ذات صلة
25 جويلية: جمهورية مغدورة.. وذكرى حزينة..
2023-07-25