نعم لتصحيح مسار الثورة.. لا للانقلاب على الديمقراطية

في الذكرى العاشرة لاندلاع ثورة الحرية والكرامة يوم 17 ديسنمبر 2010، تنتاب عموم التونسيين، مشاعر حيرة وخوف غير مسبوقين. وتتوقّع أوساط عديدة موجة اضطرابات وفوضى، تتغذّي  من مزاج سلبي بسبب تداعيات جائحة كوفيد19 الصحية والاقتصادية، ومن حصائل مخيّبة للآمال لعشرية الثورة،  ومن مؤشرات مشهد سياسي سريالي بالغ التوتّر والاحتقان. ومع موجة الاحتجاجات التي تعمّ أرجاء واسعة من البلاد وحالة الغضب والتشاؤم، يتجدّد الحديث عن سيناريوهات انقلابية للإطاحة بالتجربة التونسية الديمقراطية قد تختلف عناوينها، لكنها تبدو متّحدة في الهدف، وتتقاطع فيها مصالح حزبية وفئوية مع أجندات إقليمية. فكيف نفهم تصاعد الاحتقان الاجتماعي وموجة الاحتجاجات في هذه الفترة؟ وما هي أبرز صيغ التعاطي معها؟ وهل من حظوظ للسيناريوهات الانقلابية منها؟

       نجحت نخبنا السياسية بعد الثورة في تجنيب بلادنا سيناريوهات الحرب والاقتتال والتدمير على غرار دول أخرى، والسير على طريق القطيعة مع الاستبداد وتعزيز الديمقراطية عبر دستور توافقي يضمن الحقوق والحريات ويوزّع السلطة عموديا وأفقيا استبعادا للحكم الفردي والتهميش، ويرسي مؤسسات دستورية للرقابة والتعديل، وهذا ليس قليلا. وفي المقابل بدت نخبنا عاجزة عن تحقيق أهداف أخرى للثورة في الكرامة والشغل والتوازن بين الجهات وإنصاف المظلومين وتحسين ظروف عيش الناس والارتقاء بالخدمات العامة في الصحة والتعليم والبنية الأساسية والبيئة وغيرها، وتحقيق الاستقرار والأمان وتحصين الوطن بالوحدة الوطنية ومنع الاختراقات الخارجية. وهذه مسائل حيوية لا يمكن تجاهل تداعياتها.

ولا بدّ أن نقرّ بعد عشر سنوات بضعف الأداء. فلم تكشف السنوات التي خلت عن مقترحات أو “أفكار” قويّة وجذّابة، في الإنقاذ والإصلاح ولا عن قيادات أو “زعماء” مميّزين، سواء في الحكم أو في المعارضة. كما لم تتح مناخات التجاذب والمناكفة فرصا لحوار هادئ دون إقصاء، للتوافق على تشخيص عميق وجامع لمشاكلنا، ولا لبلورة مشروع وطني للإصلاح. وتعمّق التباعد بين مجتمع الحكم (النخب) ومجتمع المحكومين (عامة الشعب).

       وكم من حرج يجده اليوم المسؤولون في الدولة  والسياسيون ومنخرطو الأحزاب وأنصار الثورة عامة، وهم يواجهون نقد عامّة التونسيات والتونسيين بما في ذلك أقاربهم وأصدقاءهم، لمظاهر الفشل الاقتصادي وصعوبات العيش، والتباعد بين مشاكل الناس اليومية والحقيقية ومشاغل النخب وصراعاتهم السياسية. فلم تتراجع معدّلات البطالة ولم تتحسّن أوضاع الجهات والفئات المهمّشة، وارتفعت الأسعار وضعفت القدرة الشرائية. ولم تنجح سياسات الحكومات المتعاقبة في المحافظة على توازنات المالية العمومية، ولا في خلق الثروة، ولا في وضع حدّ للنزيف الاقتصادي.

وبعد عشر سنوات عجاف للثورة، لم يعد مستساغا ولا مقنعا أن ندعو الناس إلى مزيد الصبر وتفهّم صعوبات المرحلة الانتقالية. فبعض التجارب الناجحة في الحكم على غرار ماليزيا وتركيا حقّقت قفزة نوعية في التنمية الشاملة خلال مثل هذه الفترة. كما لم يعد مقنعا تفسير إخفاقات حكم ما بعد الثورة بمخلّفات حكم الاستبداد أو بعراقيل “الدولة العميقة” و”وضع العصا في الدولاب” كما يقال. ولذلك يبدو الغضب الشعبي متفهّما في الذكرى العاشرة للثورة وتبدو الاحتجاجات مشروعة في التنمية وتحسين العيش.

       فظاهرة الاحتجاج طبيعية في أصلها، من زاوية أنّ الثورة حرّرت الناس وفتحت حرية التعبير على مصارعها أوّلا، وهي بهذا المعني إحدى تجليات الديمقراطية التي جاءت بها الثورة. وثانيا لأنّ الديمقراطية كما هو معلوم تعطي فرصة لأفضل الحلول الممكنة لكنها لا تأتي بالحلول التي ترضي الجميع. وعلى هذا الأساس لا خوف من الظاهرة الاحتجاجية ولا حجّة للمتبرّمين منها في التحريض عليها، ولا دلالة سياسية لها على أزمة الحكم، فلكلّ حكم مهما كان الماسكون بالسلطة، أنصاره ومعارضوه، والراضون به والمحتجون عليه.

       ولمّا كانت ثورة الحرية والكرامة، قد تداخل فيها الاجتماعي بالسياسي، وتوازى شعار “التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق” مع شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”، ولم تكن مجرّد انتفاضة اجتماعية كما يسوّق البعض،  فإنّه من الطبيعي أن يرتفع نسق الاحتجاجات الاجتماعية بعد التباعد المسجل بين المسارين السياسي والاجتماعي، بل صار السؤال ملحّا حول حجم التداعيات السلبية للثاني على الأوّل.

       والماسكون بالسلطة وفي مقدمتهم الحكومة، في مقدمة المعنببن بالتفاعل مع المحتجين. وليسوا مدعوّين بمقتضى تهدئة الأوضاع وخفض الاحتقان والاستمرار في مناصبهم، إلى بيع الأوهام بوعود زائفة أو استرضاء المحتجين على حساب مقتضيات إنفاذ القانون وحفظ المصلحة العامة، بسنّ عادات سيئة أو تلبية مطالب غير مشروعة، أو إثقال كاهل الدولة بما لا قبل لها به من تلبية مطالب قطاعية أو فئوية أو جهوية أو غيرها، كما حصل مع الحكومات المتعاقبة بعد الثورة. بل مدعوّون في المقام الأول إلى البرهنة على المصداقية وكسب ثقة الشعب عبر الاعتراف له بالأخطاء في المسار، ومصارحته بحقيقة قدرات الدولة، وإعطاء المثال باعتماد سياسات في التقشف والشفافية ومحاربة الفساد وسيادة القانون والتكافؤ في الفرص، وبردّ بعض أموال الأغنياء على الفقراء، من خلال  سياسات عادلة تكرس التكافل الاجتماعي، إذ  ما جاع فقير في الأغلب إلا  بسبب استغلال غنيّ لجهده أو استثرائه على حسابه.

        وهم مدعوٌون بعد ذلك إلى إنجاح حوار وطني متأكّد من أجل مراجعة خيارات  وسياسات تبيّنت حدودها وسلبياتها، وأن يباشروا ملفات الإصلاح الجوهرية في توجيه الدعم لمستحقيه  فقط، وإعادة حوكمة المؤسسات العمومية، وتحقيق نوازنات الصناديق الاجتماعية، ومراجعة كتلة الأجور، وأن يعملوا على تتحمل الدولة مجددا مسؤولياتها في قيادة قاطرة التنمية بالجهات الداخلية خاصة، وأن تفعّل الشراكة بين القطاعين العمومي والخاص، باعتماد مشاريع تنموية واقعية تفعّل قانون الاقتصاد الاجتماعي والتضامني وتستفيد من خصائص الجهات وتلبي حاجياتها في التشغيل وتحسّن مستوى عيش أهلها. وأن يكون الاقتصادي  والاجتماعي  أولوية المرحلة القادمة، حتى نستثمر النجاح السياسي اقتصاديا وندعم التوافق السياسي بالسلم الاجتماعي ونؤمّن مستقبل مطمئنا في محيط عربي وإقليمي ودولي مضطرب ومنذر بمخاطر جمّة.

       وفي مقابل الحكومة وحلفائها، يتعاطى خصومهم عموما، مع موجة الغضب والاحتجاجات، بالاستثمار في اليأس والإحباط لإسقاط منظومة الحكم وربما المسار الديمقراطي برمّته. فقد تعددت المبادرات خلال الفترة الأخيرة إلى الحوار الوطني وإلى “تصحيح مسار الثورة”، مستبطنة بالتصريح أو التلميح رفض نتائج الانتخابات وعدم القبول بديمقراطية يكون لحزب النهضة دور فاعل فيها. ومن هنا نفهم تحميلها “الفشل” وحدها، ومهاجمة كل من شاركها في الحكم أو يتحالف معها. ولئن تمسكت هذه المبادرات بديمقراطية دون حركة النهضة، فإنها تتقاطع مع أجندة إقليمية لم تعد خافية، تستهدف تجربة الديمقراطية ذاتها، التي تراها خطرا استراتيجيا على حكمها. ومن هنا تتغذى سيناريوهات الانقلابات.

       ويبدو التخوّف من هذه  السيناريوهات مُتفهّما في السياق التونسي. فمن اكتووا باستبداد وفساد حكم بن علي، ولم تترسخ الديمقراطية والعدالة في واقعهم، ولم يهنؤوا منذ 2011 ولم يتوقّف التآمر على ثورتهم، يحقّ لهم أن يشكّوا وأن يكونوا يقظين.  و”اللّي يتلكع بالشربة يولّي ينفخ على السلاطة” كما يعبّر عن ذلك المثل التونسي العاميّ. وممّا يعزّز هذا التخوّف، ما حصل ببلدان شقيقة عرفت ثورات متزامنة مع تونس على غرار مصر، وكذلك ما حصل لبلدان تصنّف داعمة لثورات الربيع العربي على غرار تركيا وقطر. وخلافا لذلك لا نسمع ولا نقرأ عن سيناريوهات انقلابية في فرنسا أو بريطانيا أو أمريكا أو غيرها من الديمقراطيات العريقة.

       لكن اللافت حين يتمّ الحديث عن سيناريو انقلابي في تونس، أنّ المروّجين لهذا الحديث لا يقولون أنّه انقلاب عسكري كما هو معروف عن الانقلابات. وهذا راجع للسمعة الحسنة التي تتمتع بها المؤسسة العسكرية ببلادنا، والتي حمت الثورة ولم تنقلب عليها، يوم “كانت السلطة ملقاة في الشارع”، كما قال الجنرال رشيد عمار ذات مرّة. ولأنّه لا مؤشرات على رغبة ولا استعداد لذلك، بل تؤكد جهات عديدة مقربة من المؤسسة العسكرية على التزامها بمقتضيات الجيش الجمهوري التي نصّ عليها الدستور. وبناء على ذلك تتجدّد أسئلة عديدة من بينها، هل يقدر طرف على تنفيذ انقلاب لا يسنده الجيش؟ ثمّ لماذا يتمّ الترويج للانقلاب على حركة النهضة، من طرف خصومها أو حتى بعض أنصارها، والأصل أن الانقلاب يحصل على رئيس الدولة والحكومة؟ ممّا يجعلنا نستنتج دون عناء أنّ للموضوع أسبابا وأبعادا أخرى، أرجحها الاستثمار في الإحباط والتخويف والتيئيس، للنيل من شعبية حركة النهضة أساسا.

       فشلت مخطّطات الإرهاب وسيناريوهات الإرباك والعنف والجريمة، واحترقت مراكب المتآمرين على بلادنا خلال السنوات التي خلت. ونرجّح أنّ سيناريو انقلابي محتمل بتونس لا حظوظ له في النجاح. فإضافة إلى خصوصيات التجربة التونسية قبل الثورة وبعدها، وحسن أداء المؤسستين الأمنية والعسكرية، ترجّح اعتبارات إقليمية ودولية، حاجة جيران تونس إلى استقرارها، وحاجة شركائها الأوروبيين والأمريكيين إلى ذلك أيضا، ومنها بصفة خاصة الاستعدادات لإعادة إعمار ليبيا بعد نجاح الحوار الوطني بين فرقائها، علاوة على المصاعب التي تمرّ بها تجارب أخرى في التآمر والإرباك، وما خلّفته من تداعيات خطيرة جدا على المنطقة والعالم بأسره.

       ومن باب الاحتياط فقط، وحتّى لا نصادر على المستقبل، نقول دون مواربة، قد تصدق التوقّعات بانفجار الوضع خلال الأسابيع القادمة، وقد تنفلت الأمور فيحصل ما يفوق المتوقّع، وسيكون الإرهاب حاضرا بالتأكيد في هذه المناخات التي طالما كانت حاضنته الأساسية، وقد تكون الأضرار بليغة في الممتلكات العامة والخاصة لا قدّر الله تعالى، لكن الأكيد أنّ المستثمرين في الإحباط والفوضى لن يبلغوا أهدافهم السياسية على الأغلب. فموازين القوى السياسية لا تتغير بمثل هذه الفرقعات. والانتخابات لا تُكسب بمثل هذه السيناريوهات. ومسار الحريات والديمقراطية المتوهّج، يأبى التوقّف بعد إطفاء النيران وانجلاء الدخان. فقد غيّرت ثورة الحرية والكرامة تونس في العمق، وصار سيناريو العودة إلى ما قبل الثورة بالغ الكلفة وصعب التحقّق. وفي كل الأحوال لا أحد يستفيد من سقوط السقف على الجميع، ولا أحد يكسب من ضياع الوطن وإدارة التوحش.

       وفي ظلّ مشهد عربي درامي الذي تُقايض فيه الحرية بالأمن ويبدو فيه انهيار البلدان ثمن التخلص من الحكّام، واستنادا إلى ثقافة سلطانية في تراثنا لا زالت تفعل فعلها إلى اليوم، تقدّم الاستقرار و”العيش” على الحرية،  يعمل البعض على ترويج حنينهم إلى وضع الاستبداد هروبا من مصاعب الانتقال الديمقراطي الشاقّة وكلفتها الباهظة،  حالهم كالذي يهرب من الرمضاء إلى النار. لكنهم ينسون أنّ الثورة عمّدت بدماء الشهداء، وأنّ غالبية التونسيين لا ينخرطون في مغامرات الطفولية السياسية، وأنّ علاقتهم التاريخية بالدولة، تأيى عليهم قبولهم بمن يحاولون خرق سفينة الوطن أو إسقاط سقف الدولة. ولا يهمّ عموم التونسيين أن ينتصر فلان أو علاّن، أو أيّ طرف يعرض نفسه ويتعالى صوته، إذا لم يكن لذلك أثر مباشر في تحسين يومياتهم وتحقيق تطلّعاتهم.

محمد القوماني

*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 186، تونس  في  17 ديسمبر 2020   

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                           

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: