انقلابيّون على غرار حزبي الشعب والتيار: لن يفلتوا من العقاب السياسي
قد تتمدّد الحالة الانقلابية وقد تقصر أكثر ممّا كان متوقّعا. ولكن الأكيد أنّ قوسي الحكم القيسي المطلق سيُغلقان وستستأنف تونس مسارها الديمقراطي بمرحلة انتقالية جديدة تُتوَّج بانتخابات رئاسية وتشريعية شفّافة، تعود فيها الكلمة للشعب صاحب السيادة الأصلية، ليمنح الشرعيات السياسية الجديدة، لمن يحوزون على الأغلبية. وبعد الفرز السياسي لمرحلة ما بعد 25 جويلية 2021، والذي تأكّد مؤخرا من خلال المواقف المعلنة من جلسة البرلمان المنقلَب عليه يوم 27 جانفي 2022 المنصرم، أرى من المهمّ التنبيه إلى ضرورة عدم إفلات من غدروا بالديمقراطية من العقاب السياسي، في أيّة انتخابات محتملة. إذ لهذا السبب أساسا جُعلت الانتخابات دورية في الأنظمة الديمقراطية. ففي حين تبتّ المحاكم في الجرائم، يعاقب الناخبون عن الأخطاء السياسية بأصواتهم.نظمة الديمقراطية.اا
فمن حرّضوا على الانقلاب وشاركوا فيه وجاهروا بدعم قرارات 25 جويلية اللادستورية، لتصفية خصم سياسي عجزوا على هزمه بالانتخابات، على غرار حزبي حركة الشعب والتيار الديمقراطي وبعض “الأوطاد” و”القومجيين” الآخرين، ولا أعني العروبيين الذين أشاركهم بعض قناعاتهم، كلّ أولئك قد وقعوا في الخطيئة وتلبّسوا بعار يُفترض أن يستحوا بعده عن التحدّث باسم الديمقراطية وحكم الدستور والقانون، فضلا على أن ينصّبوا أنفسهم مجدّدا حرّاسا للمعبد، ليمنحوا صكوك الغفران لمن يحقّ لهم المشاركة في الحوار الوطني على مقاسهم. ومن لم يعتبروا من التاريخ، ولا يزال يدفعهم العمى الأيديولوجي والسياسي إلى العزّة بالإثم، ليس أنسب لهم من صفعات الناخبين. فبعد تجارب مرّة في الغدر بالشعب والتنكّر للمبادئ، أضحى التشديد على عدم الإفلات من العقاب السياسي، أوكد من أيّ وقت مضى.
ففي عصر الأنترنيت والحمد لله، ليس أيسر على من أراد التأكّد، من العودة إلى أرشيف بيانات الأحزاب والتصريحات الشخصية والحوارات المكتوبة والمسموعة والمرئية، التي تعجّ بها المواقع المختلفة، ليعرف من حرّضوا في البرلمان أو في منابر الإعلام أو في المناسبات السياسية العديدة، على الانقلاب على نتائج الانتخابات. تارة بالتوجّه دون جدوى إلى القوى الصلبة العسكرية أو الأمنية لإقحامها في حسم الصراعات السياسية. وتارة أخرى بتحريض رئيس الجمهورية على التفعيل المتعسّف لصلاحياته الدستورية.
ولأنّ الكتابة شهادة على الواقع وتوثيق للذاكرة، أستسمحكم في الإحالة على مقالي الأسبوعي بدورية جريدة “الرأي العام” السابق مباشرة للإجراءات الانقلابية في 25 جويلية، والمنشور بالعدد 214، في 15 جويلية 2021 تحت عنوان: “الحكم بالتعطيل..العربدة والتحيّل على الديمقراطية”. وقد ذكرت فيه أنّه “في الأيام الأخيرة اشتدّ حنق النائب منجي الرحوي، وحيد الكرسي، فصار سلوكه عُصابيا في الجلسة العامة، ودعا من داخل البرلمان إلى التمرّد على الحكومة واحتلال مراكز السيادة من معتمديات وغيرها، في مخالفة فاضحة للقوانين. وتوعّد النائب هيكل المكي من حركة الشعب في تدوينة له النهضويين في إشارة غير خافية، بأشدّ مما حصل للإخوان المسلمين بمصر قائلا لهم بصريح العبارة “ستدفعون أثمانا تكون مقابلها محنتكم في مصر أحسن أمنياتكم”. أما أمين عام حركة الشعب زهير المغزاوي، فكانت آخر مداخلاته في الجلسة العامة لمجلس نواب الشعب وعيدا للحزام الحاكم “بما لا يتوقعونه أصلا”. وتستحضرون جيّدا تصريحات الثنائي محمد وسامية عبو في نفس السياق.
لست من المولعين بالفرقعات الإعلامية ولا بتصفية الحسابات الشخصية أو السياسية، وإنّما اضطررت لبعض الشواهد حتى لا يكون كلامي عاما، وحتى أشحذ ذاكرتكم بأمثلة لاستحضار ما سبق الانقلاب. فلم يكن مستغربا ممّن عجزوا على سحب الثقة من الغنوشي، أن يصفّقوا فجر 26 جويلية لمنعه من دخول البرلمان المغلق بآليات عسكرية وأمنية وجنود وأعوان. وقد تأكد بعد 6 أشهر من “التدابير الاستثنائية” ليوم 25 جويلية، أنّ انقلابا سافرا مكتمل الأركان، تمّ تنفيذه على مراحل، وقد كشفت وثيقة مسرّبة بعض تفاصيله منذ شهر ماي. ولم يتأخّر المختصّون في القانون الدستوري وأهل العلم عامة، فضلا عن كل صاحب فهم سليم، عن التنبيه إلى الاستعمال المتعسّف للفصل 80 من الدستور، الذي ينصّ صراحة على الإبقاء على البرلمان “في حالة انعقاد دائم”. ولكن تمّ خلاف ذلك، ب”تعليق اختصاصاته”، ولم يجرأ الرئيس سعيد على حلّه إلى اليوم، استجابة لطلب شعبوي في الغرض، بتعلّة عدم سماح الدستور بذلك، ولكن في الحقيقة حتى لا يضطرّ إلى الدعوة إلى انتخابات مبكرة جديدة، قبل أن يستعدّ لها وفق برنامجه السياسي الخاص. وقد جاء الأمر الرئاسي 117 في 22 سبتمبر 2021 ليعلّق العمل بالدستور فعليا، ويفسح المجال لحكم فردي مطلق، عبر تجميع السلطات في يدي “الرئيس الوحيد”، ومراسيم يصدرها، عدّها أعلى من الدستور وجعلها لا تقبل الطعن.
لم يتأخر رئيس مجلس نواب الشعب راشد الغنوشي، عن وصف ما حصل بالانقلاب منذ ساعاته الأولى، وظلّ متمسّكا بصفته وغير معترف بتعليق اختصاصات البرلمان، ويصدر بيانات من حين لآخر، رغم الخضوع لحالة الأمر الواقع المفروضة بالقوة القاهرة. وحين دعا في 27 جانفي المنصرم زملاءه النواب إلى جلسة افتراضية غير نظامية للاحتفاء بالذكرى الثامنة للمصادقة على دستور 2014، الذي صار عنوان الشرعية والمعركة السياسية، استجاب له 90 نائبا أو يزيد، وتعذّرت على البعض المشاركة، لأسباب مختلفة. وعادت الأقلية التي لم تمنحه ثقتها رئيسا للمجلس، وفشلت في سحب الثقة منه، وصفّقت للانقلاب عليه يوم 25 جويلية، وبرّر بعضهم تعطيل الدستور بالأمر الرئاسي 117، عادت لتُدين عقد الجلسة وتهاجم رئيس المجلس وتحاول إعادة الاستقطاب السابق للانقلاب.
وكان بيان حركة الشعب مساء الجلسة فضيحة غير مسبوقة. إذ أدان عقد الغنوشي “جلسة لمجلس النواب المعلقة أعماله” واعتبر ذلك “محاولة فاشلة وتحدّ لإرادة الشعب التونسي وتعمّد ارتكاب جرائم يعاقب عليها القانون، أقلها الدعوة للفوضى والتمرّد”. وحرّض على التتبع القضائي للمعنيين. وأشار إلى أنّ تباطؤ قيس سعيد “أعطى الفرصة لهؤلاء لمحاولة العودة للمشهد السياسي”. في استعادة واضحة ودعوة يائسة إلى استئصال حزب حركة النهضة وحلفائه من المشهد السياسي. ولا تنفك قيادات من حركة الشعب، منذ 25 جويلية، عن التحريض على حركة النهضة، عبر وسائل الإعلام التونسية والدولية، التي فُتحت لهم على مصارعها، بعد أن صاروا تقريبا، مع قيادات من حزب التيار الشعبي المنشق عليهم سابقا، الأبواق القليلة المدافعة عن الانقلاب. وكيف لا وهم “القومجيون” المدافعون دوما وفي كل البلدان عن الأنظمة الانقلابية وحكم العسكر والبراميل المتفجّرة على رؤوس الشعب.
ربّما تبحث حركة الشعب عن سلّم، لتنزل من ارتفاع شاهق وقفت عليه دفاعا عن انقلاب، حرّضت عليه ونسجت بعض خيوطه. وقد بدأت تعدّل خطابها وتشحنه بجرعة غير خافية من النقد لقيس سعيد، بعد أن خيّب آمالها في شراكة يصدق عليها المثل الشعبي “اللّي يحسب وحدو يفضلّو”. وقد ضعفت صلة بعض قيادات حركة الشعب بقرطاج وربما انقطعت نهائيا، بعد مغادرة رئيسة الديوان الرئاسي نادية عكاشة. وقد عدّل قبلهم حزب التيار الديمقراطي وآخرون من أصحاب “نصف الموقف من الانقلاب” مواقفهم وخطاباتهم، قفزا من المركب الموشك على الغرق، أو يأسا من “غنائم” لن تأتي، لم يخف الرئيس سعيد التلميح إليها مرارا.
لكن مهما نجحت المواقف التكتيكية في التخفيف المؤقّت من ضغط “خطيئة النهج الانقلابي” على أصحابها، فإنّ فراسة الناخبين لن تخطئهم مستقبلا. ولن يفلت من العقاب السياسي عاجلا أو آجلا، سواء الأطراف السياسية ممّن غدروا بالديمقراطية، أو الأشخاص “الثورجيّون” الذين زايدوا بعد 2011 على قوى الثورة الحقيقيين، وتصدّروا بعض المنابر، لكن لم نجد لهم ركزا بعد انقلاب 25، وصمتوا حتى لم نسمع لهم همسا ولو في التدوينات أو الجلسات. وإنّه مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى قولهم: “إذا لم تستح فأصنع ما شئت”.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 242، تونس في 03 فيفري 2022
مقالات ذات صلة
25 جويلية: جمهورية مغدورة.. وذكرى حزينة..
2023-07-25