المؤتمر الوطني للحوار: الفرص الضائعة والمخاطر المحدقة
المؤتمر الوطني للحوار: الفرص الضائعة والمخاطر المحدقة
مجلة “الإصلاح” الالكترونية بتاريخ 19 أكتوبر 2012
يحلّ موعد 23 أكتوبر، ذكرى أول انتخابات حرة وتعددية وشفافة بعد الثورة المجيدة وهو في نفس الوقت الموعد المُفترض لانتهاء أعمال المجلس الوطني التأسيسي، حسبما التزمت به أحزاب عديدة من بينها من يشارك في الحكم، حين وقعت على وثيقة الانتقال الديمقراطي قبل الانتخابات، يحلّ هذا الموعد وسط مؤشرات أزمة سياسية وجدال حادّ وتوتّر غير مسبوق في أوساط النخبة، وتنازع حول الشرعية. وأيضا وسط أوضاع اجتماعية وأمنية متفجّرة في مناطق مختلفة من البلاد وفي قطاعات متعدّدة، وغموض وحيرة لدى أغلب المواطنين. وليس أدلّ على عناوين الأزمة السياسية التي تمرّ بها بلادنا في هذه المرحلة من مؤشرات أحداث العنف الأخيرة بتطاوين، والتي لا تخفى خلفياتها السياسية وتداعياتها الخطيرة، والإضراب العام بقطاع الإعلام إضافة إلى إضرابات الجوع غير الطبيعية التي يشنها نواب بالمجلس الوطني التأسيسي والأمين العام المساعد للاتحاد العام التونسي للشغل،. وفي هذا السياق يتنزل انعقاد المؤتمر الوطني للحوار الذي دعا إليه الاتحاد العام التونسي للشغل يوم 16 أكتوبر المنقضي وشارك فيه عدد كبير من الأحزاب والجمعيات وحضر جلسته الافتتاحية الرؤساء الثلاث وقاطعه حزبا النهضة والمؤتمر من أجل الجمهورية.
وبعيدا عن خطابات التشكيك والتهويل، أو التجاهل لحقيقة الوضع وإظهار الطمأنينة الزائفة، نرى في مبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل بالدعوة إلى هذا المؤتمر الوطني للحوار، في غياب أي دعوة من رئيس الحكومة أو رئيس الجمهورية أو رئيس المجلس التأسيسي أو أيّة جهة سياسية لمثل هذا اللقاء، نرى فيها فرصة ثمينة لتقييم مسار المرحلة الانتقالية خلال السنة المنقضية، ولتعميق النظر حول قضايا بالغة الأهمية لم تعد تحتمل التأجيل، وفي مقدمتها التساؤل عن المخاطر التي تتهدد الثورة في ظل التنازع حول الشرعية؟ والبحث خاصة في الشروط الضرورية لبناء التوافق الوطني وتصحيح ما بدا انحرافا عن مسار الثورة والالتزام بتحقيق أهدافها، ومن أجل التوصل إلى أجندا وطنية دقيقة تزيل الغموض وتبعث الطمأنينة مجدّدا وتجعل مختلف الأطراف المعنية بالانتخابات القادمة تعمل في إطار من الوضوح.
وإذ نعدّ مبادرة الاتحاد خطوة هامة لتأكيد الدور الوطني لهذه المنظمة العتيدة، التي يحاول البعض من داخلها أو من خارجها، دفعها باتجاه تموقع سياسي معارض لا ينسجم مع طبيعتها ومهامها، وإّذ نقدّر عاليا هذا الدور للاتحاد الذي ننظر إليه على أنه فاعل رئيسي في إنجاح الثورة المجيدة، وكذلك يجب أن يكون شريكا فاعلا في البناء الديمقراطي وتحقيق أهداف الثورة في الكرامة والتنمية والعدالة الاجتماعية على وجه الخصوص، فإننا مع ذلك نظل نفضّل أن تتحمل الأحزاب مسؤولياتها وأن تضطلع بالدور الرئيسي في المبادرات السياسية ولاتجعل قيادتها بيد المجتمع المدني الذي نقدّر جيدا دوره في مجال اختصاصه.
كما أن من نواقص هذا المؤتمر الدعوة للمشاركة فيه دون توضيح طبيعته ومكوّناته ومدّته وصيغ بلورة توصياته المتفق عليها، ناهيك أنه لم تسبقه أية أعمال تحضيرية ولم تضبط مسطرة موضوعية لإصباغ طابع الوطني عليه من خلال مشاركة واسعة لا تستبطن أيّ نوع من الإقصاء. وفي كل الأحوال نظل نرى في هذه المبادرة مساهمة في تحقيق التوافق خارج المجلس التأسيسي، وعملا مهما ومطلوبا لتسريع عمل المجلس الوطني التأسيسي وحسم القرارات داخله باعتباره السلطة الشرعية الأصلية. ولهذا الاعتبار كانت مقاطعة الأطراف التي رفضت الدعوة، وخاصة تلك المشاركة في الحكم، إضعافا للمبادرة دون تعطيلها، وعدم مساهمة في حلحلة الأزمة الآخذة في الاستفحال.
وعلى أساس ما تقدم نقدّر أن بيان “الترويكا” الصادر مساء السبت 13 أكتوبر الجاري والمتضمن لما رأته مقترحات حول القضايا المستعجلة في هذه المرحلة، مساهمة منها في الحوار الوطني المطلوب، قد أخطأ الهدف مرة أخرى شكلا ومضمونا. بل نعدّه سوء تقدير للـأزمة التي تمر بها بلادنا واستمرار في نفس نهج المغالبة والهيمنة والاستحواذ على المشهد الذي ساهم في خلق الأزمة. فهو استجابة مستعجلة للضغط الذي مارسته مختلف الأطراف خارج الائتلاف الحاكم من أجل توضيح الخارطة الوطنية وخاصة تحديد موعد الانتخابات القادمة، لكنه تجاهل لحقيقة الأزمة في علاقة الائتلاف ببقية الأطراف الوطنية التي لم يُحاورها فعليا، لا داخل المجلس التأسيسي ولا خارجه، وبأسلوب حكم هذا الائتلاف وأخطائه المتراكمة وسياساته غير الموفقة على أكثر من صعيد.
ونحن إذ ننبّه إلى أخطاء الائتلاف الحاكم، فإننا نشدّد بالتوازي على أن ذلك لا يجب أن تحجب عنا الدوافع الحقيقية للتجاذبات السياسية وانعكاساتها على هذا وضعنا الهشّ، الذي تزيده المؤشرات الاقتصادية الصعبة تأزّما. وخاصة تأخر مسار العدالة الانتقالية، الذي تتحمل فيه الترويكا المسؤولية الرئيسية، وعدم التوصل إلى تسويات بين الخاسرين من الثورة والمستفيدين منها، وعدم الوضوح في مسار المصارحة والمحاسبة والمصالحة، الذي يقول به جميع الفاعلين ولا يتقدم في مستوى الممارسة، وأزمة الثقة الحادة بين النخب الجديدة الممسكة بمقاليد الحكم وبين خصومهم ممن هم خارجه، من حكام الأمس أو من أصدقاء المعارضة في السابق.
والخشية كل الخشية، أن يتسلّل بقايا النظام السابق وسط هذه الألغام، فهم أهل الخبرة والمكر والمقدرة، لتنفيذ مخططاتهم. وليس التسرع بالحكم بالفشل الذريع للماسكين بالسلطة بعد الانتخابات، وتحسّر بعضهم علنا عن أيّام المخلوع، وتجرؤ بعض رموز الفساد والاستبداد على العودة إلى الإعلام وتصدّر المعارضة، سوى مؤشرات على مخاطر عودة النظام القديم، فتسقط الثورة في أيدي من لا ينفكون عن ادّعاء حمايتها.
ومن جهة أخرى نشدّد على أنّ من يدفعون المشهد باتجاه الاحتراب ويراهنون على توتير الأوضاع ويشكلون غطاء سياسيا للجريمة بأنواعها، ويبشرون ب”ثورة ثانية” يخفون وراءها أجندات لا تخدم الشعب ولا تحتكم إلى الشرعية الانتخابية، ستخيب آمالهم. لأن النخب التونسية التي أبدت تعقّلا بعد هروب الدكتاتور، ورضت بأن يسيّر البلاد رموز النظام البائد وذلك في سعي للمحافظة على الشرعية وحتى لا تنزلق البلاد إلى فوضى غير معلومة العواقب، ستبدي اليوم نفس التعقّل أو أكثر، وستتعامل مع مجريات الأحداث بما يجنبنا مرة أخرى أن نسقط في الفراغ أو الفوضى. وهذا ما يجعلنا متفائلين رغم المصاعب الجمّة والمخاطر الحقيقية التي تواجهنا.
ونحن إذ نسند الشرعية الانتخابية، ، ونعدها قاعدة ديمقراطية لا يجوز المساس بها، لأن أي تشكيك في هذه الشرعية قد يدفع بالبلاد إلى منزلقات خطيرة. إذ ليس هناك صيغة معبرة عن إرادة الشعب أكثر من الانتخابات. فإننا نكرّر مرة أخرى أن تلك الشرعية وحدها غير كافية لممارسة السلطة ، ولا تمنحها القوة السياسية المطلوبة للحكم وفرض التقيّد بالقانون. وهذا ما كشفته نحو سنة من حكم “الترويكا”، مما شجّع على الانفلات الأمني واستفحال الجريمة بأنواعها وتهديد الممتلكات الخاصة والعامة وتهديد الحريات والعجز عن التحكم في الارتفاع المشط للأسعار واستمرار الاحتجاجات الاجتماعية وعدم نشاط الاستثمار الداخلي والخارجي بالنسق المطلوب. ولذلك نادينا بعد مواجهات أحداث 09 افريل الماضي بمبادرة سياسية لخفض التشنج وبناء الشرعية. وعملنا في هذا الاتجاه ولم نجد التجاوب الكافي.
ستقول الأطراف المشاركة في الحوار بقيادة الاتحاد العام التونسي للشغل أنها انتصرت حين أجبرت الترويكا على وضع أجندا وطنية والتجاوب مع مطالبها، وستقول الأطراف التي قاطعت مؤتمر الحوار أنها انتصرت حين أضعفت اللقاء وأجبرت المشاركين على تأكيد الشرعية الانتخابية، وهكذا كما في مرات عديدة ينتصر الفرقاء من النخبة وينهزم الشعب وتضيع مصالحه وأولوياته. ولذلك نقول أنه من المهم أن نتوافق على موعد ثابت للانتخابات القادمة وعلى تذليل الصعوبات التي تحول دون ذلك، وعلى تشكيل الهيئات الانتقالية الضامنة، ولكن الأهم أن نتوافق على حسن إدارة ما تبقى من المرحلة الانتقالية، وعلى تصحيح ما يبدو انحرافا عن مسار استكمال تحقيق أهداف الثورة، وعلى شروط انتخابات حرة وتعددية ونزيهة تحصّن مسار الثورة وتؤمّن العمل بالدستور الجديد وبناء المؤسسات الشرعية التي تضمن الحكم الرشيد. ويبقى الأهم قبل كل ذلك كله أن ننصت لنبض الشعب ونستحضر أولوياته في الأمن والاستقرار والشغل والعيش الكريم والعدالة في الفرص وبين الجهات. ولذلك أساسا نرى أن التدارك مازال ممكنا وأن في الصيغة الهادئة والمتعقلة للبيان العام الصادر عن المؤتمر الوطني للحوار جسرا للتقارب بين مختلف الفرقاء حتى لا تكون دعوة مختلف الأطراف للحوار الوطني وللتوافق فرصا ضائعة مرّة أخرى.
محمد القوماني
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* منشور بمجلة “الإصلاح” الالكترونية (تونس)، العدد15 بتاريخ 19 أكتوبر 2012