حديث الشروق: إلى أين تسير العلاقة بين الحكومة والمعارضة بعد زوبعة 23 أكتوبر؟

 

أجرى الحديث خالد الحداد

الجمعة 02 نوفمبر 2012


إلى أين تسير العلاقة بين الحكومة والمعارضة بعد زوبعة 23 أكتوبر؟

 

الحمد لله أن مرّت ما وصفتها بزوبعة 23 أكتوبر بسلام ودون أضرار تُذكر، لكن من الخطأ في نظري ربط الخلاف حول الشرعية بيوم 23 أكتوبر أساسا، إذ الأمر يتصل بما يلي هذا التاريخ ممّا تبقى من المرحلة الانتقالية، وعليه فإن تداعيات الخلاف ستستمر خلال المدّة القادمة. ولئن كنت ممّن لا يرون وجاهة  ولا سندا قويّا في الطعن القانوني في الشرعية، وأحذّر من التداعيات السلبية لخطابات التشكيك في المؤسسات القائمة وعلى رأسها المجلس الوطني التأسيسي، فإني أشدّد على شرعية الأسئلة التي تمّ  طرحها بهذه المناسبة، وعلى الأخطاء التي يجب تصحيحها، وعلى الالتزامات التي يجب قطعها وضمان الوفاء بها.  فقد مثل 23  أكتوبر فرصة ثمينة  لتقييم مسار المرحلة الانتقالية  خلال السنة الانتخابية المنقضية، ولتعميق النظر حول قضايا بالغة الأهمية لم تعد تحتمل التأجيل، وفي مقدمتها البحث في الشروط الضرورية لبناء التوافق الوطني وتصحيح ما بدا انحرافا عن مسار الثورة والالتزام بتحقيق أهدافها، ومن أجل التوصل إلى أجندا وطنية دقيقة تزيل الغموض وتبعث الطمأنينة مجدّدا وتجعل مختلف الأطراف المعنية بالانتخابات القادمة تعمل في إطار من الوضوح.

وعل هذا الأساس أتمنى أن يعي الفريق الحاكم الدروس وأن يحرص على تصحيح علاقته بمختلف الفاعلين، وما زلت أنظر إلى منبر الحوار الوطني الذي يرعاه الاتحاد العام التونسي للشغل وفي الصيغة الهادئة والمتعقلة  للبيان العام الصادر عن الجلسة الأولى للمؤتمر الوطني للحوار يوم 16 أكتوبر الماضي جسرا للتقارب بين مختلف الفرقاء حتى لا تكون دعوة مختلف الأطراف للحوار الوطني وللتوافق فرصا ضائعة مرّة أخرى. فالتدارك مازال ممكنا لخفض التشنّج  وتصحيح العلاقة  وتحقيق التوافق بين مكوّنات الائتلاف الحاكم وبين من هم خارجه ممّن يُصنّفون أنفسهم في المعارضة أو غيرهم.

إلى ماذا يعود التوتر المتواصل في البلاد وخاصة بين السلطة والمعارضة ؟

يعود هذا التوتر في أسبابه المباشرة إلى أخطاء الائتلاف الحاكم التي لا تخفى في رؤية المرحلة وكيفيّة إدارتها. وأهم تلك الأخطاء التردّد بين منطق استكمال أهداف الثورة ومنطق وراثة الحكم عن النظام السابق، وكأن الثورة انتهت بإنجاز الانتخابات. وكذلك إطلاق وعود أثناء الحملة الانتخابية أو بعدها، لا تُتيح المرحلة إنجازها، بما يخلق انتظارات غير واقعية لدى المواطنين وخلطا في الأولويات. هذا إضافة إلى الرسائل السلبية للترويكا منذ الانتخابات، وخاصة رسالة الهيمنة. فالحكومة مهما كانت شرعيّتها، لا يمكن أن تستأثر بتحديد معالم المرحلة الانتقالية، ولا تستطيع الادّعاء أنها المسؤولة الوحيدة على تأمين  تحقيق أهداف الثورة، ولا يمكنها الحكم بمنطق الأغلبية في مرحلة تأسيسية. ولذلك نعدّ تعبير “الصفر فاصل” تعبيرا خاطئا ومُضلّلا.

ونحن إذ نسند الشرعية الانتخابية، ولا نرى صيغة معبرة عن إرادة الشعب أكثر منها، ونعدها قاعدة ديمقراطية لا يجوز المساس بها، ونعتبر أي تشكيك في هذه الشرعية قد يدفع بالبلاد إلى منزلقات خطيرة، فإننا نكرّر مرة أخرى أن تلك الشرعية وحدها غير كافية لممارسة السلطة، ولا تمنحها القوة السياسية المطلوبة للحكم وفرض التقيّد بالقانون.  وهذا ما كشفته نحو سنة من حكم “الترويكا”، مما شجّع على الانفلات الأمني واستفحال الجريمة بأنواعها وتهديد الممتلكات الخاصة والعامة وتهديد الحريات والعجز عن التحكم في الارتفاع المشط للأسعار واستمرار الاحتجاجات الاجتماعية وعدم نشاط الاستثمار الداخلي والخارجي بالنسق المطلوب.

كما أنّنا نحمّل الأطراف السياسية التي اختارت المعارضة مبكّرا وصنعت حاجزا بينها وبين الحكومة، جانبا من المسؤولية في توتير الوضع. فمن كان شريكا في الثورة، عليه أن يدافع عن حظوظه في المشاركة السياسية ويواصل إسهامه في إنجاح المرحلة وتحقيق  أهداف الثورة. ولذلك فإن  الوضع الإستقطابي (سلطة/معارضة) بالحدّة التي نلمسها لا يناسب المرحلة التأسيسية. وحق المعارضة لا يحجب واجب الإقرار بشرعية السلطة وتوخّي الصيغ الديمقراطية المشروعة في الصراع السياسي.

ولكننا إذ نشدّد على أخطاء الائتلاف الحاكم أساسا، فإننا نؤكد أن  تلك الأخطاء مهما عظمت، لا يجب أن تحجب عنا الأسباب الحقيقية للتوتر وللتجاذبات السياسية وانعكاساتها السلبية على وضعنا الهشّ، الذي تزيده المؤشرات الاقتصادية الصعبة تأزّما.  وأخصّ  من تلك الأسباب، تأخّر مسار العدالة الانتقالية، الذي تتحمل فيه الترويكا المسؤولية الرئيسية، وعدم التوصل إلى تسويات بين الخاسرين من الثورة والمستفيدين منها، وعدم الوضوح في مسار المصارحة والمحاسبة والإنصاف والمصالحة، الذي يقول به جميع الفاعلين ولا يتقدم في مستوى الممارسة، إضافة إلى أزمة الثقة الحادة بين النخب الجديدة الممسكة بمقاليد الحكم وبين خصومهم ممن هم خارجه، من حكام الأمس أو من أصدقاء المعارضة في السابق.

كما أشير من جهة أخرى إلى دوافع أيديولوجية راديكالية غير خافية، تقف وراء دفع المشهد باتجاه الاحتراب والمراهنة على توتير الأوضاع والتبشبر ب”ثورة ثانية”،  بما صار يشكّل في كثير من الأحيان  غطاء سياسيا للخروج عن القانون وللجريمة بأنواعها، وإخفاء لأجندات لا تخدم الشعب ولا تحتكم إلى الشرعية الانتخابية.
هل تسير تونس على الخطّ الصحيح للمسار الانتقالي نحو الديمقراطية؟


       أبدى التونسيون من مختلف المواقع والأجيال أقدارا لافتة من الوعي واليقظة والمسؤولية خلال الأيام الحاسمة من الثورة المجيدة وما تلاها من ظروف صعبة بعد انتصارها، وانخرطوا تدريجيا في وهجها وفي مسار إنجاحها. ونظر الجميع بالداخل والخارج إلى انعقاد المجلس الوطني التأسيسي وانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة، والانتقال السّلس للحكم، على أنها عناوين بارزة ومُشجعة على بداية مرحلة ما بعد الاستبداد والفساد وخطوات على طريق الانتقال الديمقراطي الذي تمثل تونس أفضل حالاته العربية.

كان المأمول  بعد تلك الخطوات الهامة، بناء الشرعية السياسية وخلق حالة من الاستقرار وبداية حل المشاكل حسب الأولويات في إطار من الشراكة الواسعة والتعاون على رفع التحديات وإنجاح المسار الانتقالي. لكن بعد عام من الانتخاب تبدو الأمور غير مطمئنة لعموم التونسيين. وليست مظاهر  الاستقطاب الإيديولوجي والتجاذب السياسي الحادّين بين الأطراف السياسية والتوتر الاجتماعي والانفلات الإعلامي، سوى عناوين لتأزّم الأوضاع واستمرار  حالة الهشاشة. فالاختلاف رحمة وهو إيجابي وهو أيضا عنوان التعددية، لكن الفرق كبير بين الاختلاف والتنافس وبين التجاذب والاستقطاب والعداوة التي بات يعكسها العنف اللفظي والمادي في الفترة الأخيرة.

لقد جاء تقدّم حركة النهضة لبقية الأحزاب في أول انتخابات حرة وتعددية وشفافة بعد الثورة،  وصعودهم إلى الحكم تبعا لتلك النتائج، وسط مخاوف قطاعات واسعة من النخب المخالفة لهم وفي سياق أزمة ثقة حادة ومُخلفات عقود من الصراع والمواجهات الدامية أحيانا. لذلك نقول أن مرحلة ما بعد الاستبداد التي دشّنناها بعد الثورة، لا تعني تأسيس عصر الديمقراطية. فكسب رهان الديمقراطية الناجزة ما زال يواجه تحديات جمّة على أكثر من صعيد. والانتقال الديمقراطي ما زال إذن في إطار الممكن الذهني وليس في الواقع المُتحقق.

إن الانتخابات التي دشّنّا بها مرحلة الانتقال الديمقراطي، تشكّل مبدئيا ضمانة أساسية لتكريس سلطة الشعب وجعله المرجع لأيّة شرعية سياسية والحكم في تقييم الأفكار والمقترحات والبدائل. فطالما استمرت تلك الانتخابات ، حرة وتعددية وشفافة، ظل التداول على الحكم مضمونا وظل المتنافسون على الحكم يستحضرون كلمة الناخبين ويعملون تحت مراقبتهم ويجتهدون في التفاعل مع مطالبهم وتطلعاتهم. وبذلك تكون الديمقراطية بوّابة لولوج بقية القضايا الاجتماعية والاقتصادية وغيرها ومعالجتها. والخطر كل الخطر في مرحلة ما بعد الاستبداد، أن يتنكر بعض الفاعلين لنتائج الانتخابات، فيعمدون إلى محاولة إبعاد من هم في السلطة بطرق غير مشروعة، مهما حُبكت سيناريوهاتها. كما الخطر كل الخطر في أن ينقلب الحاكمون الجدد على الديمقراطية التي جاءت بهم إلى الحكم، على غرار تجارب عربية مرّة في هذا السياق. وبذلك تكون الثورات قد غيّرت الحاكمين ولم تغيّر الحكم.

 

 

لكن  هل تكفي الانتخابات وحدها لتأسيس الديمقراطية؟

إن تعزيزا للديمقراطية الناشئة في ربوعنا، وتأمينا لإنجاح المسار الانتقالي، يتطلبان إضافة إلى تثبيت مكسب الانتخابات، تضافر جهود جميع الأطراف من أجل تكريس مسارات يتم التوافق عليها، نكتفي بإثارة واحد من أهمها، وهو أولوية تفعيل المواطنة بما يضعنا على طريق الحداثة السياسية والحكم الرشيد الذي يعد من شروط المناعة والبقاء والنجاح في مواجهة التحديات المستقبلية لعالمنا المليء بالتقلبات. فإذا ضاعت هذه الأولوية وتبدّدت الجهود في المُغالبة وإدارة الملفات الظرفية، نخشى أن يستمر منطق حكم الغلبة على حساب ذهنية المواطنة ودولة المؤسسات، فنخسر رهانات الحاضر والمستقبل. وإذا كان من المشروع والمهم أن تنشغل السلطة والأحزاب السياسية بالاستحقاقات العاجلة، فمن باب أولى أن يُعيروا الاهتمام اللازم للمستقبل المنظور والبعيد للأجيال.
إن أيّ تعبئة للمواطنين في رفع  مختلف التحديات وفي تحقيق أيّ إصلاح لن تتيسر إلاّ بتسهيل دخول المواطن معترك الحياة العامة والارتقاء به إلى مستوى المواطنة بما تحمله من شعور بالانتماء ومساواة في الحقوق والواجبات والتعبير عن رأيه والمشاركة الفاعلة في صياغة القرار ونقاشه.

شهدت الحياة السياسية بروز عدة جبهات وتحالفات هل نحن إزاء مشهد سياسي جديد؟ وما هي حظوظ الأحزاب الصغرى؟
تُعد ّعملية تحوّل عدد من الأحزاب إلى كتل سياسية إمّا في صيغة أحزاب جديدة مندمجة أو جبهات، أمرا ايجابيا في هذه المرحلة، لأن العملية الأولى لتكوين الأحزاب بعد الثورة تأثرت بردّ الفعل على حالة المنع السابقة، فتكونت الأحزاب بسرعة وفي وضع كانت فيه الأطراف المختلفة لا تعرف بعضها جيدا ولم تكتشف صعوبات العمل الحزبي. لكن تجربة انتخابات 23 أكتوبر وحكم “الترويكا” بينا الحاجة إلى أحزاب قوية أو كتل سياسية فاعلة حتى تقدر على التأثير في المشهد السياسي وتكون لها حظوظ في الاستحقاقات الانتخابية ولا تكون مجرد تعددية شكلية. كما أن هذا الكم الكبير من الأحزاب لا يبدو مقنعا ولا يلقى استحسان المواطنين. وعلى هذا الأساس نقدّر أن حالات الاندماج التي تحصل خلال الفترة الأخيرة بتشكيل أحزاب جديدة أو جبهات سياسية، ستعيد تشكيل الخارطة الحزبية والكتل النيابية والمشهد السياسي عموما.
وقد كنا في حزب الإصلاح والتنمية من أول الداعين إلى إعادة تشكيل المشهد الحزبي بعد الانتخابات. ونحن لا نرى أنفسنا في عمليات الاندماج أو الجبهات الحاصلة حتى الآن لأننا لا نشاركها المنطلقات والتوجهات العامة، و نوشك بالتوازي معها أن نعلن مع أطراف أخرى متكونة من مجموعات وشخصيات سياسية، تكوين حزب جديد نريده أن يكون وازنا وفاعلا، يتوفر في انطلاقه على كتلة نيابية ويكون له وجود حزبي في مختلف الولايات بوجوه ذات مصداقية وله قيادة سياسية مناضلة وكفأة ونخبة من الإطارات والخبراء وتمثيل شبابي ونسائي قويّ     واعتقد أن الأحزاب والشخصيات الأخرى التي ما زالت خارج هذه التشكيلات ستكون إما مجبرة على الانضمام إلى إحداها بحسب التقارب في التوجهات، أو سيكون محكوما عليها بالهامشية ما لم تظهر أفكار أخرى قوية تحتاج إلى تشكيلات حزبية خارج الموجود. وأعتقد أن التشكيلات الحالية أيضا ستلتقي في تحالفات انتخابية خلال الأشهر القادمة بعد ان تتوضح الروزنامة الوطنية ومع اقتراب الموعد الانتخابي.

ويبقى أملي كبير في أن التونسيين الذين أبدوا تعقّلا بعد هروب الدكتاتور، ورضوا بأن يسيّر البلاد رموز من النظام البائد وذلك في سعي للمحافظة على الشرعية وحتى لا تنزلق البلاد إلى فوضى غير معلومة العواقب، سيبدون في المستقبل نفس التعقّل أو أكثر، وسيتعاملون مع مجريات الأحداث بما يجنّبنا مرة أخرى أن نسقط في الفراغ أو الفوضى لا قدّر الله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*أجرى الحديث خالد الحداد وتم نشره بجريدة الشروق يوم الجمعة 02 نوفمبر 2012 (تونس)

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: