8 أشهر “والدنيا حابسة”.. وبعد؟
أينما حللتُ خلال الفترة الأخيرة يستوقفني مواطنون ممّن أعرفهم أو لا أعرفهم ليبدؤوا حديثهم معي بصيغ مختلفة بعض الشيء بسؤال متكرّر “الدنيا حابسة سي محمد.. وين ماشين؟..”وين بيها”؟.. “ما عادش فيها”.. “إلى متى”؟.. “ثماشي حلّ”؟..”قريبشي تتحرّك الأمور”؟.. والمؤدّي الجامع لهذه الصيغ الشعبية المختلفة أنّ الأزمة المركّبة والمتراكمة طالت واستفحلت خلال الأشهر الأخيرة. فدواليب الاقتصاد صارت معطّلة في كافة الميادين. والمعاناة تعمّمت والضجر يتنامى والمستقبل لا يبشّر بخير. ولا يخفى على أيّ متابع ما تؤشّر عليه خطابات عموم التونسيين من احتقان مؤذن بانفجار غير المأمون العواقب. إذ الكلفة الاجتماعية للأزمة لم تعد تُحتمل. وفي مفارقة صادمة مع هذا السياق المكاني والزماني والشعوري، جاء الخطاب القيسي مساء الأحد 20 مارس 2022، وقد نام أغلب التونسيين والتونسيات ليلتها، بعد أن يئسوا من خطاب لرئيس الدولة بمناسبة الذكرى 66 للاستقلال، انتظروه وبشّر به بعضهم. وتأكّد الجميع، مرة أخرى بعد سماع الخطاب، بما في ذلك مؤيّدون لقرارات 25 جويلية، أنّ واقع قيس سعيد غير واقعهم وزمانه غير زمانهم وأولوياته غير أولوياتهم ودنياه غير دنياهم.
بدا الرئيس قيس سعيد مساء الأحد في غاية الحيوية والنشاط والانتشاء، وهو يلقي كلمته في مجلس الوزراء، التي بُثّت على موقع رئاسة الجمهورية للعموم، بعد تسجيلها في ساعة لا يعلمونها. وبعد منتصف الليل مباشرة بثّت التلفزة الوطنية كلمة ثانية لرئيس الجمهورية بمناسبة عيد الاستقلال. وصباح الإثنين 21 مارس نشر موقع رئاسة الجمهورية صورا “تاريخية”، لقيس سعيد وهو يختم، مراسيم رئاسية تتعلق بالصلح الجزائي وتوظيف عائداته، والشركات الأهلية، ومقاومة المضاربة غير المشروعة، كانت الموضوع الرئيسي لحديثه في الكلمتين المشار إليهما سابقا. وقد اختار سعيد رمزية أن يتمّ التوقيع على نفس الطاولة التي ختم عليها بورقيبة وثيقة “الجلاء الزراعي” في 12 ماي 1964، إحالة بدوره على ذكرى توقيع الباي على معاهدة باردو في 1881 على نفس الطاولة.
قدّم الرئيس سعيد سرديته لتاريخ تونس المعاصر. فلم يتوقّف أصلا عند اعتداءات الاستعمار الفرنسي وجرائمه في حقّ تونس وشعبها. وإن حاول إصلاح “خطيئته” الشهيرة في توصيف الاحتلال بالحماية أمام الرئيس الفرنسي ماكرون. ولم يهتمّ كثيرا بكفاح الشعب التونسي من أجل الحرية والكرامة الوطنية ولم يستحضر أسماء لشهداء أو جرحى أو قادة للكفاح الوطني. واعتبر قرارات 25 جويلية 2021 وما تلاها خطوات تاريخية على طريق تحقيق “الاستقلال الحقيقي” والتام، وليس مجرّد توقبع “بروتوكول الاستقلال” في 20 مارس 1956. ومرّ سريعا وسطحيا على مكاسب دولة الاستقلال على مدى أكثر من نصف قرن، وكان التركيز على النواقص غالبا. اكتفى بتأكيد لحظة “الانفجار الثوري الشاهق” يوم 17 ديسمبر 2010، ولم يعترف لعشرية الثورة بأيّ إنجاز، وهي التي أوصلته إلى سدّة الرئاسة في 2019. بل عدّ 14 جانفي 2011 وما تلاه التفافا على الثورة. ليستأنف قيس سعيد مسار تصحيح الثورة يوم 25 جويلية. ويعتبر المراسيم الثلاثة ليوم 20 مارس 2022 أهمّ إنجاز تاريخي غير مسبوق. كما اعتبر “الاستشارة الوطنية الالكترونية” التي شارك فيها “نصف مليون” نجاحا باهرا وأوّل خطوة على طريق الحوار الوطني وبناء تونس الجديدة.
لم يكترث الرئيس قيس سعيد بأوضاع تونس الصعبة بعد 8 أشهر من قراراته الانقلابية ليوم 25 جويلية وما تلاها. فالاعتداءات على الحقوق والحريات وعودة تونس إلى عناوين المنظمات الحقوقية المهتمة بانتهاكات حقوق الإنسان لم تبلغ مسامعه. والحصار المالي الدولي وتراجع التصنيف السيادي لتونس للمراتب الأخيرة المنذرة بإعلان إفلاس الدولة، ومصاعب توريد الحبوب والأدوية ومشاكل الشركات والمؤسسات في توفير المواد الأولية المستوردة، وإغلاق بعض المؤسسات لأبوابها وتسريح العاملين بها، وندرة بعض المواد الأساسية بالفضاءات التجارية، والغلاء المشط للأسعار والزيادات المستمرة في أسعار المحروقات وغيرها من مؤشرات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الحادة بعد جائحة كوفيد 19 والحرب الروسية على أوكرانيا، عناوين لا تستقطب اهتمامات الرئيس سعيد. وهو السعيد بمراسيمه الثلاثة التي ستسترد “أموال تونس الطائلة” المنهوبة، وتحمي “ثرواتها الزاخرة” من المحتكرين وتحقق “الرفاه والعيش الكريم” للشباب خاصة وللأجيال القادمة عامة، من خلال “الشركات الأهلية” غير المسبوقة.
لا يهمّ قيس السعيد بمراسيمه التي “ستغير وجه تونس والعالم أيضا”، أن لا تتعدّى المشاركة في الاستشارة الفاشلة بعد حوالي 3 أشهر، نصف المليون من بين حوالي 10 ملايين معنيين بها. وأن يقلّ عدد المشاركين في “استشارته” عن عدد الذين صوّتوا في يومة واحد لمنافسه نبيل القروي في الدور الثاني من الرئاسية، وعن عدد الذين صوتوا أيضا لحركة النهضة الحزب الفائز بالمركز الأول في التشريعية. ولا يهتم اللإعلام الموالي لما بعد 25 جويلية بهذه المقارنات أو دلالات نسبة المشاركة. ولا يعبأ قيس السعيد برؤيته لمستقبل تونس، بمن صفّقوا وزمّروا لقرارات 25 جويلية ولا يزالون يعلنون مساندتها، أن يستغلّ الحالة الاستثنائية لتمرير مشروعه السياسي الشخصي ويصدر مراسيمه الرئاسية التي لا علاقة لها بمواجهة “خطر داهم” مهما كان، ويمضي في أجندته غير عابئ بمنتقديه. ولا يهتمّ الإعلام الموالي أيضا بثغرات المراسيم الرئاسية الثلاثة وما تضمنته من مخالفات للدستور والقانون وازدراء بالأحزاب ونزعات تقسيم للتونسيين وخلق أوهام لدى عموم المواطنين. وتلك مسائل سيتولاها المختصون ونعود إليها لاحقا في قراءة المضامين التفصيلية للمراسيم الرئاسية.
نعم “البلاد حابسة” منذ 8 أشهر ولا يجب أن يستمرّ ذلك بأيّة حال. فلا مؤشرات على أيّ تحسّن في الأوضاع المعيشية لعموم الناس. وتتمدّد الأزمة والمعاناة لتشمل أصحاب الأعمال من التجار والصناعية والحرفيين وأصحاب الشركات الصغرى وأوسع الطبقة الوسطى. ومع الأعباء الإضافية على المالية العمومية بسبب الزيادات العالمية في أسعار المحروقات وبعض المواد الأساسية وتكاليف تأمين نقل البضائع، تتزايد المخاطر على تونس التي لن تجني حلولا عاجلة على الأقل من المراسيم الرئاسية الثلاثة، التي لا تخلو من أوهام “نوايا حسنة” غير قابلة للصّرف، وسيحتاج تنزيلها بصرف النظر عن جدواها، إلى تغيير قوانين أخرى. وستجد عراقيل في الواقع بادر أهل المعرفة والخبرة باستعراض بعضها.
تحتاج بلادنا أكثر من أيّ وقت مضى إلى وقفة حازمة من الجميع دون استثناء. فالأولوية في الإنقاذ اقتصادية واجتماعية قبل بلوغ المحظور. وأبواب الحوار لازالت مفتوحة قبل خطوط اللاعودة. ورغم كارثية الأوضاع لا زال بعض الخبراء يرون إمكانيات للتدارك. فلنسارع بتوقيع إعلان مبادئ لحوار وطني تشاركي، يستأنف المسار الديمقراطي ويصحّحه أيضا. ولتكن البداية بتشكيل حكومة للإنقاذ من الكفاءات الاقتصادية أساسا وما يستوجبه إنجاح البرامج العاجل والآجل المتفق عليه من إصلاحات هيكلية وإجراءات تحظى بأوسع دعم. ولنطلق الحوار بعد ذلك دون محظورات، حول الإصلاحات السياسية والقانونية العاجلة المستوجبة أيضا، قبل الذهاب إلى انتخابات رئاسية وتشريعية سابقة لأوانها. وليكن التوافق على تعديلات في تسيير البرلمان وأجندته من أجل استئناف أشغاله بتزكية حكومة الإنقاذ. والمصادقة لاحقا على مخرجات الحوار الوطني وإضفاء الشرعية الدستورية على الانتقال السياسي الآمن وإعادة الأمانة للشعب صاحب السيادة لتجديد شرعية الحكم. وما ذلك علينا بعزيز معشر الديمقراطيين. و”على قدر أهل العزم تأتي العزائم”.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 249، تونس في 24 مارس 2022.
مقالات ذات صلة
25 جويلية: جمهورية مغدورة.. وذكرى حزينة..
2023-07-25