لغز “المستقلين”.. هل يشوّش على نتائج بلديات 2018؟
خلافا لكلّ التوقّعات المتشائمة والمؤشّرات السلبيّة، جاءت الأخبارالوطنية للأسبوع الماضي سارّة. فقد انتهت أزمة التعليم الثانوي بقرار شجاع من الاتحاد العام التونسي للشغل، وزال شبح السنة الدراسية البيضاء وتنفّس التلاميذ والأولياء الصّعداء. وصادق مجلس نواب الشعب على مجلة الحكم المحلي بتوافق بين الكتل البرلمانية ودون تسجيل أيّ اعتراض، بما أرسى خطوة ثابتة على طريق تكريس الباب السابع من الدستور المتعلّق بالحكم المحلي، وأعطى الحملة الانتخابية للبلديات دفعا إيجابيا في منتصف مشوارها. وأنهت لجنة خبراء وثيقة قرطاج 2 التوافق على جملة الاجراءات المقترحة، لا سيما الاقتصادية والاجتماعية منها، لتكون أرضية عمل الحكومة في الفترة القادمة وخريطة طريق لتحسين الأوضاع في أفق استحقاق الانتخابي لأواخر سنة 2019. فهل يكون إنجاز الانتخابات البلدية يوم 6 ماي 2018 وما سيليها من تغييرات مرتقبة في الحكومة وفي مسؤوليات أخرى في الدولة وتركيز مجالس محلية منتخبة، عناوين أمل لوقف الانحدار الذي تعرفه البلاد على مستويات عديدة وتغيير المعادلات ووضع تونس على طريق التعافي؟ لكن قبل ذلك أيّ لغز في عنوان “المستقلين” في هذه البلديات؟ وهل يشوّش على نتائجها؟
برامج المتنافسين ولغز المستقلين
تنتهي غدا الحملة الانتخابية التي حرص المترشحون خلالها، عبر الوسائل المختلفة التي يتيحها القانون، على الترويج لبرامجهم ولقائماتهم. بدت المقترحات متشابهة في المهام التقليدية للبلدية، وكان الخلط في مهام أخرى واضحا في بعض التدخلات بوسائل الإعلام. وقد يعود ذلك إلى تأخّر إقرار مجلة الحكم المحلي، أو لعدم الوعي بالمهمة أصلا. ولا يخطئ المتابع ضعف بعض المترشحين، بمن فيهم رؤساء قائمات، وهذا جانب من ضعف التأطير السياسي، بسبب مصادرة الحياة السياسية قبل الثورة، أو بسبب تبخيس النشاط الحزبي وشيطنة الأحزاب بعد الثورة، والحال أنّها الإطار الأنسب للعمل السياسي الذي لا غنى عنه.
بدا لافتا حضور القائمات المستقلة في أغلب الدوائر، وقارب عددها على المستوى الوطني عدد القائمات الحزبية. كما حرصت الأحزاب على ضمّ مستقلين إلى قائماتها وتجاوز عددهم النصف في قائمات حزب النهضة. وكان واضحا أثناء تشكيل القائمات انسحاب بعض المستقلين من قائمة حزبية والتحاقهم بآخرى، أومن قائمة حزبية إلى مستقلّة أو العكس. بل سعت بعض الأطراف إلى تغذية هذه الانسحابات أو الاستفادة منها، والاتصال بشخصيات مستقلة على قائمة حزب ما لإغرائها بمرتبة أفضل وربما رئاسة القائمة تحت لافتة أخرى. وإذا كان بعض المترشحون من المستقلين بهذا الحال، وباتوا أشبه بلاعبي كرة القدم من المحترفين، فهل يبقى من معنى ومصداقية بعد ذلك للحديث عن تنافس حول اختيارات وبرامج مختلفة وربما أنماط اجتماعية متعارضة؟
ويبقى أهمّ ما يستحق التوقّف في القائمات “المستقلة” هو غموضها. فقد صرّحت أطراف حزبية عديدة أنها شكّلت قائمات مستقلة، أو تدعمها، دون أن تعيّنها، بما يتيح لها التلاعب بالنتائج وادّعاء فوز بعضها أنّه فوز لها. وقد غيّرت بعض القائمات الحزبية صفتها للتحيّل على القانون في اشتراط المناصفة الأفقية في رئاسة القائمات. وشكّل بعض الغاضبين على أحزابهم قائمات مستقلة متمرّدة. وربّما اختارت بعض الأطراف المالية أو السياسية التخفّي وراء صفة “المستقلين” أمام ما يحصل من تبخيس للأحزاب أو تيئيس أوتنفير منها. وإزاء هذه التعقيدات والالتباسات يحقّ التساؤل قبل إعلان النتائج عن تداعيات هذا الغموض على مغالطة الناخبين للحصول على أصواتهم لجهات سياسية حزبية معينة باسم الاستقلالية، والأهم من ذلك مغالطة الرأي العام الداخلي والخارجي في التعاطي مع نتائج القائمات المستقلة.
فلا يُستبعد تلبيس البعض بجمع أصوات القائمات المستقلة وطنيا لمقارنتها بنتائج حزب معيّن، والحال أنّ كلّ قائمة مستقلة لها هويتها الخاصة في الدائرة المترشة فيها، ولا رابط لها ببقية القائمات المستقلة في نفس الدائرة أو وطنيا، على عكس القائمات الحزبية. فلا تصحّ موازنة أكثر من 700 قائمة مستقلة بقائمات حزب معيّن، الذي لا تتجاوز قائماته عدد 350 وهي حالة النهضة فقط أو النداء، في حين شاركت بقية الأحزاب بأقل من 70 قائمة. إذ لا تستقيم موازنة القائمات المستقلة مجتمعة وطنيا إلا بنتائج الأحزاب مجتمعة أيضا. لهذه الاعتبارات وغيرها نرى في لغز “المستقلين” عنوانا قد يشوّش على نتائج الانتخابات في هذه البلديات.
دماء جديدة تُضخّ في شرايين الدولة وأمل يتجدّد
تُوصف البلديات بديمقراطية القُرب، ويضطلع فيها الأشخاص، سيما في الدوائر الصغيرة، بدور حاسم في الترشّحات والنتائج والأداء في حالة الفوز. ومن الأكيد أنّ نباهة الناخبين ستستحضر سياقات تشكيل القائمات ولن تغيب عنها معطيات الصراعات والتنقلات، ناهيك أنّ بلادنا تخوض انتخابات حرة وتعدّدية للمرة الرابعة، وصارت لها تجربة لا بأس بها بعد انتخابات التأسيسي في 2011 وتشريعية ورئاسية 2014. كما أنّ نباهة الناخبين ستلتقط رسالة التسريبات عن شبكات الفساد والتجسّس ببلادنا، والتي بلغت فيها الرشاوى لبعض المسؤولين عشرات بل مئات ملايين الدينارات ومنازل فارهة بأحياء مرفّهة من العاصمة، وربما ما خفي أعظم، لتكون فراسة الناخبين هذه المرة أوّل الدفاعات في محاربة الفاسدين وحسن اختيار أصحاب الأيادي النظيفة، وأهل الثقة والأمانة لمواجهة الإغراءات منقطعة النظير.
ويبقى الأكيد أنّ يوم 6 ماي 2018 سيختار الناخبات والناخبون مستشارين بلديين قريبين منهم، تعهّدوا بالحوكمة التشاركية والشفافة، وخدمة الناس دون مقابل، وقدّموا برامج من أجل مُدن أنظف وأجمل، وخدمات اجتماعية وإدارية ورياضية وثقافية أفضل، وتنمية محلية شاملة وعادلة. فالمجالس البلدية المنتخبة، ستعزّز الديمقراطية ببلادنا، وتضخّ في شرايين الدولة دماء جديدة، من النساء والشباب خاصة، كما لم يحصل من قبل. وبذلك تكون البلديات فاتحة حكم محلي غير مسبوق. وإذا تزامن ذلك مع تغيير حكومي، يعقبه تغيير في مسؤوليات أخرى في مفاصل الدولة، من أجل تنفيذ برنامج الإصلاحات المتّفق عليها في وثيقة قرطاج 2، وإذا التزمت مختلف الأطراف التي وضعت تلك الإصلاحات بدعمها وإسنادها، فإنّ كل تلك التغييرات ستكون عناوين أمل في وقف الانحدار وتغيير المعادلات ووضع البلاد على طريق التعافي، في أفق الاستحقاق الانتخابي التشريعي والرئاسي نهاية 2019، ليكون المنعرج نحو غد أفضل.
نسبة مشاركة مقنعة
كم تبدو الحاجة أكيدة فيما تبقى من وقت يفصلنا عن التصويت إلى صرف الاهتمام والجهد لإنجاح البلديات بتحفيز الهمم للحدّ من العزوف وتعبئة الناخبين والناخبات لممارسة مواطنتهم. فالاستثمار في الديمقراطية، سيكون في وضع مأزقيّ داخليا وخارجيا، إذا كانت نسبة المشاركة في الانتخابات ضعيفة، وتبيّن أن مطلب الديمقراطية نخبوي جدّا ولا يعني أغلب التونسيين. وإذا كان الإقبال مقنعا، فإنّ تونس تقطع خطوة أخرى هامة في إرساء دعائم حكم محلي يبدأ بهذه البلديات، ولا يعدم فوائد ونجاعة في تقاسم الأعباء والمسؤوليات في كسب مختلف التحديات.
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 55، تونس في 03 ماي 2018.