النهضة من حركة تقبل بالديمقراطية إلى حزب ديمقراطي

جاء في البيان الوطني لحركة النهضة وبيانات قائماتها المحلية للانتخابات البلدية المقرّرة ليوم 6 ماي 2018 في تقديم نفسها للناخبين أنّها “حزب ديمقراطي ذو مرجعية إسلامية”، وهذه صياغة تؤشر على تطوّر نوعي يرتقي إلى المنعرج التاريخي. ذلك أنّ البيان التأسيسي لحركة الاتجاه الإسلامي ليوم 6 جوان 1981 لم يرد به مصطلح “الديمقراطية” قطعيا في أيّ موضع. وحين سئل الشيخ راشد الغنوشي حول الموضوع في الندوة الصحفية يومها أجاب بما مفاده أن حركته “شورية”، لكنها لا تعترض على ما تفرزه الانتخابات الديمقراطية بتونس، ولو أعطت الحكم لحزب شيوعي. لذلك رأينا في هذا المنعرج ما يستحقّ التوقّف عند أهمّ عناوينه وسياقاته ودلالاته وتداعياته على هذه المحطة الانتخابية ومستقبل حركة النهضة.

النهضة تسرّع التحديث وتخلق الحدث

أثار ترشيح حركة النهضة للمواطن اليهودي سيمون سلامة بإحدى قائماتها بولاية المنستير، جدالا داخليا وخارجيا. فقد جاء مفاجئا ومُحرجا لخصوم النهضة الذين تلعثموا في التعليق عليه، كما شدّ انتباه متابعين من الخارج. فهو تكريس عملي لمعنى المواطنة والتزام بمقتضى أحكام الدستور والقانون، بما يعزّز مصداقية الطابع المدني والنهج الحداثي للحركة.

ولم يكن ذلك الترشيح العنوان الوحيد على تسريع النهضة لنسق التحديث بتونس وخلقها الحدث. إذ حرصت الحركة على جعل نصف قائماتها من المستقلين، كما اعتمدت الديمقراطية المحلية في تزكية المترشحين. فضمنت بذلك قدرا مهمّا من الانفتاح على الكفاءات من غير بناتها وأبنائها، وتجنبت قدرا من التصدّعات الداخلية التي عرفتها أحزاب أخرى. والتزمت في تشكيل قائماتها بالتناصف الأفقي في رئاسة القائمات بين النساء والرجال، في حين سجلت هيئة الانتخابات مخالفات فاضحة على منافسيها، لا سيما أحزاب الجبهة الشعبية والاتحاد المدني التي أسقطت الهيئة بعض قائماتها، واضطرت قائمات أخرى لتغيير صبغتها من ائتلافية أو حزبية، إلى مستقلة، للتحيّل على شرط المناصفة الأفقية. كما رشّحت النهضة السيدة سعاد عبد الرحيم على رأس قائمة بلدية تونس، لتنافس على “مشيخة” المدينة لأول مرّة في تاريخها. ورشّحت لرئاسة قائماتها نساء متحجبات وأخريات غير متحجبات، وكانت السيدة سليمة بن سلطان، التي لقّبها البعض ب”شقراء النهضة”، رئيسة قائمة سيدي بو سعيد، مثار انتباه وجدال في شكلها وخطابها. كما وضعت الحركة أكثر من 50 شابّة وشابّ على رأس القائمات. وتلك مؤشرات مهمّة وخطوات جريئة في كسر الصورة النمطية التي يحرص خصوم النهضة على إلصاقها بها.

أمّا من جهة الخطاب والمضمون، فقد جاءت بيانات النهضة مُفعمة بمفاهيم وقيم الحداثة السياسية مثل المواطنة والحرية والمشاركة والمساواة والمدنية. كما قدّمت مقترحات حسب خصوصية كل دائرة بلدية من أجل مدينة حديثة نظيفة وجميلة، وخدمات اجتماعية وثقافية وشبابية مُتطَوِّرَة، وتنمية محلية عادلة وشاملة، وحَوْكمة تشاركية، شفافة وعصرية.

الانعطافة الاستراتيجية والنهضة الجديدة

شدّدت ندوة إطارات حركة النهضة التي انعقدت بالحمامات يومي 23 و24 ديسمبر 2017 على “إصلاح الحزب وتطويره تعزيزا للديمقراطية الداخلية وضمانا للنجاعة”. وكان لافتا في البيان الختامي للندوة تخصيص عنوانه الثاني إلى “تسريع تحقيق الانعطافة الإستراتيجية للحزب وتعميق هويته الاجتماعية وتموقعه”. وهو عنوان يحيل على مخرجات المؤتمر العاشر الذي عبّرت مختلف لوائحه المُصادق عليها بالأغلبية المريحة، على التطلّع إلى بناء حالة جديدة للحزب، بما يجعل منها انعطافة إستراتيجية، تستفيد من مكتسبات الثورة وتؤهّل الحزب بصفته حزبا مدنيا تونسيا أصيلا وحداثيا، إلى تحمّل أعباء المرحلة الجديدة. فقد انتقلت النهضة من “جماعة دينية” إلى “حزب سياسي”، ومن معارك “الدفاع عن الإسلام” و”إقامة دولة إسلامية” إلى معارك ضمان حقوق الإنسان وإقامة دولة ديمقراطية وتحقيق التنمية العادلة والشاملة، ومن المعارضة الاحتجاجية إلى المساهمة في إعادة بناء الدولة. وكان من مقتضيات هذا التحول قرار “التحرّر من الشمولية وتكريس التخصّص في العمل السياسي تحت سقف الدولة المدنية والديمقراطية، استفادة من مكاسب الثورة واهتداء بالدستور وقيمه”.

فحركة النهضة التي تحتفظ بالسبق في المراجعات والتقييم المستمرّ لمسيرتها، والاستفادة من مرونتها في التعاطي مع متطلبات المرحلة والواقع، تُثبت في كلّ مرّة حيويّتها المستمرة التي تمدّها بالطاقة المتجدّدة وتؤهّلها لتكون من أعرق الأحزاب التونسية الحالية وأهمّها. وهي كما وصفها النائب نوفل الجمالى “تخرج لمنافسيها من حيث لا ينتظرونها”. لذلك حرصت منذ فترة على التمايز مع “الإسلام السياسي” بتأكيد أنها جزء من “الإسلام الديمقراطي” وهي اليوم “حزب ديمقراطي ذو مرجعية إسلامية”، يتبنى قيم الحداثة السياسية من مواطنة وحرية ومساواة وانتخاب وغيرها، ويغتني من معاني كلمات القرآن الكريم المتجدّدة ومن قيم الإسلام الخالدة مثل العدل والرحمة والوحدة والتآخي والتضامن والإنسانية، وتعاليمه السمحة وموروثنا الثقافي العربي الإسلامي.

التخويف من فوز النهضة وتهديد الديمقراطية

لا نكشف سرّا حين نشير إلى أنّ مخرجات المؤتمر العاشر (2016) وندوة الإطارات (2017) كانت استباقا من حركة النهضة لتقييم مسارها وتجديد رؤيتها الفكرية وتطوير خطابها وسياساتها من أجل “نهضة جديدة” قادرة على منافسة جدّية في الاستحقاقات الانتخابية. وها هي تجني بعض ثمار عملها الدؤوب بأن كانت الحزب الوحيد الذي تقدّم في كل الدوائر الانتخابية البلدية وقُبلت قائماته جميعا ويبدو الطرف الأكثر جاهزية للتنافس. وبدل أن تقتفي بقية الأحزاب أثر النهضة وتطوّر نفسها من أجل توازن المشهد وتعزيز الديمقراطية، هاهي بعضها للأسف تجعل مشروعها السياسي قائما على مضادة النهضة والتهجّم عليها والتصدّي لها.
وها هي بعض الشخصيات السياسية على غرار الأستاذ أحمد نجيب الشابي في تصريحات إعلامية أخيرا، والدكتور سالم لبيض في مقاله بالعدد السابق من “الرأي العام”، وفي مفارقة عجيبة، تخوّف من احتمال فوز النهضة في البلديات. فهي “إسلام سياسي رغم أنفها” وهي متّهمة ب”الشراهة في الحكم والسلطة” كما جاء في المقال المذكور وهي في نظر آخرين “تخدم منتسبيها فقط” وهي “مشكوك في صدق مدنيتها وحداثتها” وهي “أقرب إلى العنف والإرهاب” … وكلّ يفصّل لها من الأوصاف ما يشكّك في إعلاناتها ويفسخ جهودها في تغيير الصورة النمطية حولها. وفي موقف سريالي حقا ينتهي سالم لبيض إلى تحميل النهضة العواقب الوخيمة لفوزها. فيذكر في نهاية مقاله أنّه “يخطئ الإسلاميون التونسيون عندما يتعاطون مع المشهد الانتخابي وإفرازاته المحتملة على أنّه معطى داخلي محض” ويضيف إلى هذا الاستقواء بالخارج والتهديد به المستغرب منه، أنّ “النتائج ستكون المقدمة والأداة التي ستجهض المسار الديمقراطي برمته، إذا تأكد الفوز الكاسح للإسلاميين”.
كم يذكّرني موقف التخويف من فوز النهضة في الانتخابات، بمن زعموا خلال حملة بن علي على حركة النهضة، بأنّ أخطاءها كانت السبب فيما تعرضت له من قمع غير مسبوق، وأنّ التخلّص من خصم مخيف بحجم النهضة، سيفسح المجال للديمقراطية ويطمئن الحاكم الجديد. والجميع يعرف اليوم أنّنا “أُكلنا يوم أُكل الثور الأبيض”، وأنّ قمع النهضة سهّل قمع جميع المعارضين لحكم بن علي، وليس في الاستبداد كما في الحرية استثناء. وأنّ سياسة الاستئصال كانت نتيجتها استئصال الديمقراطية دون استئصال النهضة التي عادت للنشاط بعد ثورة الحرية والكرامة وفازت في أوّل انتخابات تعددية وشفافة. لذلك تظلّ حركة النهضة عنوان الديمقراطية التونسية وصمّام أمان لها.
محمد القوماني

*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 54، تونس في 26 أفريل 2018.

https://scontent.ftun3-1.fna.fbcdn.net/v/t1.0-9/31346319_1904921769531598_2045278403612875505_n.jpg?_nc_cat=0&oh=5d7ce29f7f0d7d8d2442115ef0e5a568&oe=5B4F4517

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: