هل يتغير المشهد الإعلامي بتونس ايجابيا.
منشور بجريدة الطريق الجديد في 13 مارس 2010
في ظل الجدال المحتدم خلال الفترة الأخيرة على أكثر من صعيد، حول واقع الإعلام بتونس، وبمناسبة احتفال قناة حنبعل، أول فضائية تونسية خاصة، بعيد ميلادها الخامس، والتي نحيّي القائمين عليها والعاملين بها في هذه الذكرى على ما بذلوه من أجل تثبيت موقعها داخل المشهد المرئي، أطرح وأدعوكم أن تطرحوا معي السؤال التالي: هل يتغيّر المشهد الإعلامي بتونس ايجابيا؟ كما أدعوكم أن نحاول الإجابة بموضوعية تتيح لنا قدرا من الواقعية والصوابية في تقييم المشهد الإعلامي ببلادنا والبحث في نواقصه واقتراح ما يجدّده ويطوّره بعيدا عن خطابات التمجيد والرضا أو العدمية والإدانة.
تغيّر ظاهري .. لكن مهم
ظل الإعلام عامة والمشهد السمعي والبصري خصوصا، حكرا على الدولة ببلادنا، أحادي الرأي والاتجاه، لحقبة طويلة بعد الاستقلال. فالجرائد المستقلة نظريا والتابعة للقطاع الخاص، كانت واقعيا منحازة بالكامل للسلطة التنفيذية، وتُنعت بشبه الرسمية. ولم تظهر أوّل صحيفة رأي إلا في نهاية السبعينات، والتي اختار لها مؤسسوها من المنشقين عن الحزب الحاكم اسم “الرأي“. ثم بدأت التعددية في الإعلام المكتوب تتكرّس تدريجيا مع صحف الأحزاب وبعض المنابر المستقلة الجديدة التي بدت أكثر جرأة في النقد والانفتاح على الرأي المخالف للسلطة.
أمّا وسائل الإعلام السمعية والبصرية فظلت أحادية وحكرا على الدولة إلى فترة قريبة. ولا شك أن هذا المشهد تغير بصورة واضحة ظاهريا على الأقل. بعد الترخيص لإذاعة “موزاييك” أوّلا ثم إذاعة “الزيتونة للقرآن الكريم” لاحقا. وهما المحطتان التابعتان للقطاع الخاص واللتان سجلتا حضورا لافتا منذ انبعاثهما وربما صارتا أكثر استماعا وتواصلا مع التونسيين من الإذاعة الوطنية أو بقية المحطات الرسمية. وربما تغير المشهد أكثر، بعد الترخيص لأول فضائية خاصة في فيفري 2005 وهي قناة “حنبعل“، التي فرضت مكانها في الساحة الإعلامية بسرعة، واستقطبت جمهورا واسعا وخلقت منافسة للتلفزة الوطنية التي هجرها التونسيون تقريبا بعد الثورة الإعلامية التي عمّمت الفضائيات، ووجدوا في “حنبعل” بديلا عنها في متابعة الشأن التونسي. وبذلك دخل القطاع السمعي والبصري عصر التعددية والمنافسة وأنهى التونسيون العشرية الأولى من الألفية الجديدة بمشهد إعلامي تعددي قانونا وأرقاما، مختلفا عن الحالة التي سارت عليها الأمور خلال عقود الاستقلال من القرن الماضي. وهذا أمر مهم في حدّ ذاته.
جرأة أكثر.. لكن تحرّر بطيء
لا يبدو التغيّر في المشهد الإعلامي بتونس ظاهريا فقط، بل تغيّرا فعليا في المضمون والأداء ونسبة التحرّر والجرأة والنقد وطبيعة العلاقة بالقارئ أو المستمع أو المشاهد. فمنذ عشر سنوات تقريبا عن تدخّل رئيس الدولة المعلوم أمام مديري الصحف، الذي بثّته التلفزة التونسية آنذاك، في تفاعل غير خاف مع الإضراب عن الطعام الذي كان يخوضه الصحفي توفيق بن بريك، والذي أقرّ فيه أعلى هرم السلطة، رتابة المشهد الإعلامي من خلال الصحف المتشابهة في المضمون، والتي تُغني قراءة إحداها عن قراءة البقية، إضافة إلى ضعف الجرأة على النقد وعلى طرق مختلف المواضيع، نتيجة الرقابة الذاتية المُبالغ فيها، منذ ذلك التدخل، أعتقد أن الأمور في المستوى الإعلامي سارت تدريجيا باتجاه التغيير والتطوير. وإن متابعة موضوعية على سبيل المثال للمادة الإعلامية بإذاعة “موزاييك” وقناة “حنبعل” من حيث نوعية المواضيع ومستوى الخطاب النقدي ونسبة البرامج المباشرة ومشاركة الجمهور والجرأة في التدخل والتعبير عن الرأي في المواضيع المختلفة الثقافية والرياضية والاجتماعية، وتفاعل المنشطين مع مشاركات الجمهور، إن متابعة كهذه لتؤكد بالمقارنة بما كانت عليه الأمور فيما سبق، أن تغييرا إيجابيا في المشهد الإعلامي حصل.
فنقد أداء الجامعة الوطنية لكرة القدم وتسمية الأمور بمسمياتها دون مداراة، والكشف عن إخلالات أو نواقص أو بنية تحتية مُذهلة في بعض الملاعب أو الجمعيات ومقارنة الخطاب والشعارات المرفوعة من قبل المسؤولين بواقع الحال وإحراج بعضهم في حوارات مباشرة، ومواجهة الرأي بالرأي الآخر في بعض المواضيع الخلافية، وتقييم أداء التحكيم في المقابلات ورفع ملابسات أو كشف بعض ما يدور في الكواليس عن تصرفات لاعبين أو مسيّرين للجمعيات الرياضية أو المشرفين على هذا القطاع…هذه المؤشرات في الميدان الرياضي التي نسوقها على سبيل الذكر لا الحصر، تقوم شواهد على ما نُقرّه من تطور ايجابي. ويمكن أن نضيف إليها مؤشرات عديدة في معالجة قضايا اجتماعية متنوعة لا تخلو من جرأة في كشف المستور أو التنبيه إلى حالات كارثية أو إحراج بعض المسؤولين أو مواجهة صاحب الادّعاء أو الحق بالطرف المقابل أو إعطاء الفرصة لأصحاب الرأي أو الاختصاص للمشاركة …وقد لمعت أسماء منشطين أو مشاركين في برامج تفاعل الجمهور مع جرأتهم أو صراحتهم أو إتقانهم لعملهم أو تمكنهم من ملفاتهم أو تحملهم لمسؤولياتهم، فأحبهم الناس وأقبلوا على برامجهم. وتلك مؤشرات أيضا على تطور وعي الجمهور الذي سئم الخطاب الخشبي والتدخلات المُعدّة سلفا وصار يقارن مِهنية الإعلاميين كما يقارن درجة الحرية والمصداقية ونسبة الجدّة والإبداع والقدرة على الإفادة أو الإقناع في ما يسمع أو يشاهد، ما دامت الثورة الإعلامية تتيح له مجالا واسعا لحرية الاختيار.
إن مقارنة محلّية موضوعية بما كان سائدا، لتُرجّح التطور الايجابي الحاصل في الجرأة والنقد، خاصة في المشهدين السمعي والبصري الذين أحلنا عليهما فيما تقدم، من خلال إذاعة “موزاييك” و“قناة حنبعل“، بصرف النظر عن موقفنا أو نقدنا لهاتين المحطتين في جوانب أخرى. ويمكن أن نضيف إليهما في المشهد المكتوب الإشارة إلى درجة الجرأة العالية في صحف بعض أحزاب المعارضة، على غرار “الموقف” و“الطريق الجديد” و“مواطنون“. إذا صحّ ذلك محليا، فإن المقارنة العالمية، بل حتى العربية، ببعض المحطات الإذاعية والتلفزية، لتكشف بطء نسق التحرّر في المشهد الإعلامي التونسي من حيث القوانين المنظمة للقطاع ومن حيث الأداء والمضمون أيضا.
نحو نسق أسرع ومشهد أفضل
ربما اختارت الحكومة التعويل على القطاع الخاص لتطوير المشهد الإعلامي الذي ماانفك الخطاب الرسمي في مناسبات عديدة يدعو إلى تطويره لمواكبة تقدم البلاد والاستجابة لتطلعات المواطنين. وقد تتطور المؤسسات الإعلامية العمومية لاحقا من خلال تعاطيها مع ما تقتنيه من برامج بات ينتجها القطاع الخاص، على غرار برنامج “الحق معاك” في قناة تونس7، أو من خلال منافستها للمؤسسات الخاصة. وفي كل الأحوال سيجد القطاع العمومي نفسه مضطرا لمواكبة نسق التطور والتحرّر ليحافظ على مكان له ويحقق الرسالة الموكولة إليه. وإذ نتفهّم النسق البطيء في تحرّر القطاع العمومي وإن كنا لا نبرّره، فإننا نتطلع إلى نسق أسرع من التحرّر، بمعنى رفع القيود والتوجيه والتحكم من طرف الدولة، في القطاع الخاص. فالإعلام سلطة رابعة كما يُوصف، يحتاج إلى درجة من الاستقلالية عن السلطة التنفيذية، دون أن ينفصل عنها أو يتضارب معها، كما هو مطلوب عموما في استقلال السلطات المختلفة وتوازنها في نظام ديمقراطي.
ومن هذا المنظور نُقرّ مطلب المعارضة المتكرّر بأن تحرير الإعلام يتم بإلغاء كل سلطة تقديرية يخوّلها القانون الحالي لوزير الداخلية أو لغيره في هذا المجال، والترخيص لكل الراغبين في إصدار صحف أو مجلات أو إنشاء محطات إذاعية أو تلفزية وفق كراس شروط عادل، وإخضاع وسائل الإعلام العمومية وفي مقدمتها مؤسّستي الإذاعة والتلفزة إلى مراقبة هيئة وطنية مستقلة وتعددية مشهود لها بالكفاءة والموضوعية. فوظيفة الدولة تطبيق القانون وليس توجيه الإعلام، وإن في إلغاء وزارة الإعلام خطوة أولى في الإقرار بأن الإعلام حرّ أو لا يكون. وقد صارت إجراءات إصدار وسيلة إعلام ورقية أو بعث مؤسسة إذاعية أو تلفزية تتم عبر الإنترنيت وبأسرع وقت ممكن في بعض الدول. وتلك من علامات تحّرر النظام السياسي. وكم يبدو المشهد الإعلامي الحالي بحاجة إلى انتعاشة وإلى إدخال حيوية عليه بالترخيص لصحف جديدة أو محطات إذاعية أو تلفزية، خاصة بعد أن بيّنت التجربة كما أسلفنا نجاعة العملية وايجابيتها دون مخاطر تُذكر.
هذا من جهة القوانين المنظمة على سبيل المثال. أما من جهة المضمون فإن توسيع هامش الحرية كما هو الحال في المجال الرياضي الذي ألمحنا إلى بعض مؤشراته فيما سلف، ليشمل مجالات أخرى بنفس القدر، بما في ذلك القضايا السياسية الداخلية والخارجية، سيشكل نقطة تحوّل بارزة في تحرير الإعلام. وإن الجمهور الذي يتابع الملفات الرياضية وبعض الملفات الاجتماعية ويتفاعل معها بدرجة من التلقائية والجرأة والثقة، يحتاج لتوازنه ولكسب ثقته بالإعلام الوطني في سائر القضايا، إلى تعميم هامش الحرية ومستوى الأداء في مختلف الملفات والمجالات. ومن مؤشرات تحرّر الإعلام وثقة الجمهور به، أن يتعرّف المواطنون على وجوه المعارضة والمسؤولين عن الجمعيات المستقلة وأصحاب الفكر ممن لا يُجارون السلطة أو لا يوافقونها الرأي أو التقدير للمسائل، وأن ينصتوا إلى آرائهم، كما هو الحال في المجال الرياضي على الأقل. فلم يعد مقبولا في ظل التعددية السياسية المقرّرة في الدستور، أن تظل بيانات أحزاب المعارضة والجمعيات المستقلة محجوبة عن التونسيين وممنوعة من التداول العمومي باستثناء ما يلاقي منها هوى في السلطة أحيانا. ولم يعد لائقا أن يفاجأ التونسيون مرات ببلاغات أو مقالات مقروءة أو مسموعة ترد على بيانات أو مقالات أخرى لا يتداولها الإعلام الداخلي أصلا . ولا مبرّر لاستمرار منابر الحوار ـ على قلتها ـ في عزف لحن واحد وتكرار آراء الحكومة وتثمينها من قبل الموالين لها، دون أدنى مشاركة للرأي الآخر. وقد يكون في رفع العراقيل أمام توزيع صحف المعارضة، وتسهيل عقد مؤتمر توحيدي لنقابة الصحافيين، رسالة ايجابية قوية وعاجلة في تأكيد الإرادة الرسمية في تسريع نسق تحرير الإعلام.
إن تونس التي تتوفر على جميع شروط البنية التحتية للانتقال الديمقراطي(دولة قوية، عدم وجود صراع اثني أو طائفي، نمو اقتصادي، نخب مثقفة ومنفتحة، أسرة نواتية تحررية، اقتصاد ليبرالي، طبقة وسطى واسعة، نسبة تمدن عالية…) تحتاج إلى مشهد إعلامي أفضل. وتلك بوّابة لا غنى عنها في مسار الإصلاح المتجدّد الذي نتطلع إليه. فالموجود، بكل المقاييس، مهما كان ايجابيا، يظل دون المنشود.