هل آذن ليل أزمة تونس بالبلج؟
لا يهمّ كثيرا أن تكون نادية عكاشة مديرة ديوان الرئيس قيس سعيد قد استقالت أم أُقيلت من منصبها. فالأمران سيّان. إذ ليست الاستقالة سوى طلب إقالة. وقد جاء الأمر الرئاسي بالرائد الرسمي لاحقا ليؤكد ما سبق أنن أعلنته نادية على صفحتها. والنتيجة واحدة، وهي حصول تصدّع غير هيّن في بيت قرطاج. ولئن تعدّدت الروايات في شرح الأسباب، وفي انتظار مزيد الوقت للترجيح بينها، فإنّ مخطوط نصّ الاستقالة وصيغة إعلان نادية عنها فيهما ما يكفي لتأكيد أنّ الفراق تمّ بسبب خلافات حادّة سرّعت إنهاء مشوار سنتين، بدا لافتا بين الشخصيّتين، وازداد جاذبية بعد التدابير الانقلابية المعلنة مساء 25 جويلية 2021. فهل تكون مغادرة عكاشة لقرطاج “عادية”، على غرار كثيرين ممن سبقوها من المستشارين الذين لم تدم خططتهم طويلا، أو أولئك “الشركاء” الذين سرعان ما غيّروا مواقفهم من مسار ما بعد 25 وصاروا معارضين لها؟ أم قد تكون مغادرة عكاشة “منعرجا” لوضع قد يزداد سوءا ودراماتيكية ليسبق انفراج الأزمة المركبة والمتراكمة. فما أكثر السياقات في هذه المرحلة استدعاءللقصيدة المنفرجة لأبي الفضل المتوفى سنة 513 هجريا والتي مطلعها إِشتَدَّي أزمَةُ تَنفَرِجي * قَد آذَنَ لَيلُكِ بِالبَلَجِ.وهل أذن ليل أزمة تونس بالبلج؟
يبدو واضحا من “مخطوط الاستقالة” أنّ النصّ القصير بخطّ اليد صيغ على عجل، ولا يخلو من انفعال، كأغلب النصوص المتشابهة بالإدارات ومكاتب المسؤولين في بلادنا. والأصل أنّ من يفكّر في المغادرة، يُعدّ لقراره ويعمّق الأسباب ويعلن قراره الذاتي بإنهاء دوره، لا أن يقدّم مطلبا لرئيسه في الغرض على نحو ما فعلت نادية عكاشة. لكن أيضا حين نعلم أهمية مركز إدارة ديوان رئيس الجمهورية، وقوة العلاقة بين الرئيس سعيد ومديرة ديوانه عكاشة مدّة سنتين، والتي يعكسها الحضور الدائم لمديرة الديوان في جميع اجتماعات الرئيس ولقاءاته بالشخصيات التونسية والأجنبية، وتنقلاته داخل البلاد وخارجها، بما في ذلك ثكنات الجيش والأمن، والزيارات الرسمية لبعض الدول، نرى في الفراق مهما كانت أسبابه لحظة فارقة تحسم وضعا تراكميا.
تعدّدت سرديّات الفراق، التي تظلّ مجرّد احتمالات قبل أن تفصح المعنية بالأمر عن التفاصيل، أو يتمّ الكشف عن معطيات مؤكدة. ويبقى صراع الأجنحة حول النفوذ في قرطاج والتأثير في القرار الرئاسي وخاصة التعيينات، من أهمّ الأسباب التي تفسّر القرار. فالصراع يدور حول النفوذ وليس حول خيارات أو سياسات متناقضة. وإن ذكرت تدوينة عكاشة وجود “اختلافات جوهرية في وجهات النظر” المتعلقة بالمصلحة الفضلى، التي تحيل على المصلحة العليا للوطن. فجميع من حول الرئيس سعيد يدعمون نهجه في الحكم الانفرادي المطلق وإجراءاته الانقلابية على هذا الصعيد. وتعدّ مديرة ديوانه من أهمّ مهندسي 25 جويلية. وينسب إليها المراقبون والخصوم خاصة كثيرا من الوثائق والاتصالات والتنسيق في الداخل والخارج لتنفيذ قرارات 25 وإنجاحها لا حقا. وتوجد اتهامات سياسية وتحميل مسؤولية وحتى قضايا عدلية مثارة ضدّ السيدة عكاشة ومن يكشف عنه البحث في هذا الاتجاه.
وإذا وضعنا مغادرة عكاشة في ظرفيتها الضيقة، المتّسمة بتكثيف الضغوط الداخلية والخارجية على المسار الانقلابي الذي لا يخفى ارتباكه وكثرة أخطائه، نُطلّ على زاوية أخرى من أزمتنا. وقد تكون المغادرة التي جاءت بعد مكالمة الرئيس الفرنسي ماكرون باسم الاتحاد الأوروبي مع الرئيس سعيد، ذات دلالة خاصة في هذا السياق. فلم يعد القفز من سفينة الانقلاب المهدّدة بالغرق المؤكد خافيا على المتابعين. وبات التفكير في المساءلة والتتبع القضائي على ما يحصل حاضرا في أوساط المسؤولين المعنيين بالقرار في جميع المستويات.
فبعد ستة أشهر من التدابير الانقلابية تزداد الأوضاع سوءا على جميع الأصعدة. إذ تتعدّد المؤشرات على تفاقم الأزمة الاقتصادية ومخاطر إفلاس الدولة وسط عزلة خارجية غير مسبوقة وحصار مالي من الجهات المانحة وعجز عن الإقناع بإصلاحات متأكّدة، وسط انقسام سياسي حادّ وتعطّل للمؤسسات الديمقراطية وعدم ثقة بالمستقبل. كما تؤشر الأوضاع الاجتماعية على احتمالات الانفجار بسبب غلاء الأسعار المشط وصعوبات التتزوّد للأفراد والشركات والمصانع والتأخّر في صرف الأجور وارتفاع نسبة البطالة وإعادة أعداد كبيرة من المهاجرين بطرق غير قانونية. وينفضّ المساندون لقرارات 25 جويلية تدريجيا وتتغير موازين القوى في صفوف النخب لصالح المعارضة. وتتكثّف المخاوف والضغوطات بسبب الاتجاه إلى الحكم الفردي المطلق الذي يقلق الداخل والخارج وانتهاكات حقوق الإنسان التي تلقى تنديدا واسعا خاصة بعد القمع البوليسي لتظاهرة 14 جانفي 2022 إحياء للذكرى 11 للثورة، والاستعمال المفرط للقوة والعنف بما تسبب في إصابات عديدة كان أخطرها ارتقاء الشهيد رضا بوزيان رحمه الله تعالى متأثّرا بما حصل له أثناء التظاهرة. بما أعاد اسم تونس إلى سجلات الانتهاكات لدى المنظمات الحقوقية والمفوّضية السامية لحقوق الإنسان وجعلها موضوع حديث الأمين العام للأمم المتحدة لأول مرة في تاريخها. وقد بات سيناريو الانزلاق للعنف والفوضى أكثر احتمالا في ظلّ صراع حادّ عن الحكم، وفي مرحلة حسّاسة وتدخّلات إقليمية غير مطمئنة.
وليس من المفيد للديمقراطيين في صراعهم مع الانقلاب تركيز الاهتمام وتبادل الأخبار حول ما يحصل من أخطاء السلطة أو مصاعبها أو تطاحنها الداخلي، بل الأفيد منه صرف النظر والعمل إلى القيام بالواجب في التصدّي للانقلاب وتحسين الأداء وإقامة الحجّة وفتح آفاق للتجاوز نحو الأفضل. فلا نشغل أنفسنا بسبّ الخصوم أو التلاوم بقدر ما نشغلها بالتدبّر فيما حصل ويحصل واستخلاص الدروس واجتراح الحلول وشحذ العزائم لمواصلة المسار الديمقراطي وتصحيحه أيضا.
ففي حين تشتدّ الأزمة بالبلاد، ويضيق الخناق على سلطة الانقلاب، حريّ بالقوى الرافضة للاستبداد، أن تُحسن ترتيب المخاطر وتقدّم الأهمّ على المهمّ، وأن تستثمر الالتقاء الموضوعي في الأهداف والميدان، لتعجّل بالصيغ التنظيمية والمضمونية الكفيلة بتشكيل الجبهة الديمقراطية التي توحّد الجهود وترسم البدائل لإنقاذ الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية أولا ومنع انهيار البلاد، واستئناف المسار الديمقراطي المعطّل وتصحيحه ثانيا. بما يستفيد من أخطاء العشرية الأخيرة ويعيد الكلمة للشعب صاحب السيادة، في انتخابات رئاسية وتشريعية مبكرة، تؤسس لشرعيات جديدة وتضع البلاد على طريق التعافي التدريجي وتأمين التجربة الديمقراطية الفتيّة. وقدآذن ليل أزمة تونس بالبلج.
فقد تكون شدّة الأزمة من علامات الفرج القريب كما أسلفنا في في بيت الشعر الشهير.وكما تؤكد ذلك معاني عديدة في القرآن الكريم على نحو قوله تعالى: “سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا” (الطلاق/7)، وقوله: “وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ” (الشورى/2) ومن يمتلئ بقناعة القيام بالواجب نحو أهله وبلده، لا يتوقّف كثيرا عند ساعة النصر التي يراها دوما قريبة، ولا يبني أوهاما لنفسه أو للآخرين حول تدقيق لحظتها.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 241، تونس في 27جانفي 2022
مقالات ذات صلة
25 جويلية: جمهورية مغدورة.. وذكرى حزينة..
2023-07-25