من المستهدف؟ حكم الشاهد أم ديمقراطية الحكم؟
جريدة الرأي العام، العدد6، تونس في 11 ماي 2017.
على هامش موجة الاحتجاجات الاجتماعية التي تعرفها بعض جهات البلاد، وتفاعلا مع إقالة رئيس الحكومة يوسف الشاهد لبعض الوزراء، ترتفع دعوات من هنا وهناك إلى استقالة الحكومة الحالية أو إسقاطها، على غرار ما صدر عن السيد محسن مرزوق وما تضمنته رسالة الأستاذ نجيب الشابي إلى رئيس الجمهورية وما يصرح به بعض نواّب الشعب وقيادات حزبية. وتبدو الأحداث التي تمرّ بها تونس في هذه الفترة، مجرّد مسوّغات للتعبير عن مواقف سياسية مسبقة ورغبات دفينة يتمّ الإفصاح عنها بصورة متكرّرة كلما سنحت الظروف. لذلك ينظر المراقبون إلى دعوات تغيير حكومة الشاهد مهما كان مصدرها على أنّها تصفية حسابات شخصية أو حزبية أو تطلّعات لشخصيات مستعجلة، أكثر منها مقترحات لمعاجلة أوضاع لا تخفى صعوباتها. فما هي أهمّ مسوّغات هذه الدعوات؟ وما مدى جدواها ومشروعيتها في مواجهة التحدّيات؟ وأيّ أجندات تخفي هذه الدعوات وأيّ أثر لها في الواقع؟
نخصّص الحديث هنا عن السيد محسن مرزوق وقيادات أخرى في حركة مشروع تونس على سبيل الذكر لا الحصر، الذين يملؤون فضاءات إعلامية عديدة ويكثر ضجيجهم هذه المدّة، ولا ينفكّون بمناسبة وغير مناسبة، عن تكرار خطاب نراه على قدر من الوضوح واختزال أجندات متقاطعة على اختلاف مواقعها. مؤديات هذا الخطاب أنّ مشكلة تونس الكبرى تكمن في وجود حزب قوي اسمه “حركة النهضة”. وأنّ مشاركتها في الحكم هي عنوان فشل مهما كانت المؤشرات والأرقام إيجابية. وأنّها وحدها تتحمل مسؤولية إدارة البلاد بعد الثورة وعليها يقع عبء المرحلة. وهي الحاكم الفعلي مهما كانت تمثيليتها في الحكومة وفي مواقع المسؤولية والقرار في مؤسسات الدولة. وأنّ الديمقراطية الحقيقية هي كل الطرق التي تؤدي إلى إقصاء النهضة من المشاركة في الحكم، وفي ذلك المستقبل الزاهر لتونس وسعادة التونسيين. لذلك يبدو السيد مرزوق مستعجلا في إعلان نهاية حكومة السيد يوسف الشاهد والدعوة إلى تغييرها بما يسميه “حكومة كفاءات وطنية مستقلة” على غرار ما حصل سنة 2014 مع حكومة السيد المهدي جمعة. ويتعلّل في ذلك بفشل الحكومة في تطبيق محتوى وثيقة قرطاج، واهتزاز صورتها بعد الإقالات المتكررة لوزرائها، والحاجة إلى حكومة محايدة لتأمين الانتخابات المحلية مادام المعتمدون والولاة متحزبين. ومن بعد تغيير الحكومة تأتي المطالبة بمراجعة التعيينات و بقية التفاصيل المعلومة. ولا ينسى الجماعة بالطبع التأكيد على أن المشكلة الرئيسية تبقى في النظام السياسي الذي أقرّه دستور 2014 بقيادة حركة النهضة والذي يستوجب تغييرا لا مفرّ منه هو الآخر.
لعلّ أوّل المستحضرات في قيس جدوى هذه المقترحات، هو أنّ تغيير الحكومات حصل عدّة مرات، حتى عرفنا من الوزراء والرؤساء بعد الثورة عددا لم نعرفه طوال عقود بعد الاستقلال، دون تغيّر الأوضاع نحو الأفضل. بل إنّ المسارعة بالمطالبة بتغيير الحكومة مع كل “أزمة” صار نوعا من استسهال الحلول وتأجيل المعالجات الحقيقية للمشاكل. وصارت النتائج عكسية لأن كثرة التغيير أعطى الانطباع بعدم الاستقرار السياسي وأضعف فرص التفاوض مع صندوق النقد الدولي ولم يشجّع على الاستثمار الداخلي أو الخارجي، كما فوّت المراكمة وكسب الخبرة واستمرار الجهود والخطط في متابعة الملفّات وخاصة في خوض مسار الإصلاحات الكبرى بجميع تبعاتها. وبات من التعسّف توهّم معالجة مشكلاتنا المستعصية أو تحقيق نتائج باهرة في الاقتصاد خاصة والحكم بالنجاح أو الفشل على حكومات لا يتعدى معدل عمرها العام.
لكن الأخطر في دعوات التغيير التي نحن بصددها هو الاستخفاف بمقتضيات الديمقراطية التي نرسي دعائمها بصعوبة، وتداعيات ذلك على المستقبل. ففي كل مرة نجري انتخابات نقرّ بنتائجها ثم نسارع بالانقلاب عليها عمليا بمنع من تمّ انتخابهم من الحكم تحت مسوّغات لا أساس ديمقراطيّ لها، وإفساح المجال لحكم من لم تفرزهم صناديق الاقتراع ولا تعويل لهم على ذلك. بدعوى وقف الفشل أو الإنقاذ أو ضمان الحياد أو البحث عن الكفاءات أو رفض المحاصصة الحزبية وغيرها من البدع التي لم تعرفها تجارب ديمقراطية. وهنا تتمّ المغالطة بالخلط المتعمّد بين مقتضيات مرحلة انتقالية لم يكن بها دستور وسادها التنازع بعد 2011 وبين مرحلة مستقرة محكومة بآجال وآليات ينظمها دستور الثورة بعد 2014. وليست الدعوة إلى انتخابات مبكّرة رئاسية أو تشريعية لا يقرّها الدستور أو إسقاط الحكومة بغير ما يقره الدستور أيضا، سوى وجه آخر لإرباك الوضع واستهداف المسار الديمقراطي من أقليات برلمانية أو أطراف لا تمثيلية لها بالبرلمان أصلا. وليس خطاب تبخيس الأحزاب السياسية والتيئيس منها، سوى وجه آخر لتحقيق نفس الأهداف، مع أنّه لا بديل عن تعاطي السياسة داخل الأحزاب بالأساس. وقد كشفت التجربة القريبة بتونس أنّ من جاءوا إلى الحكم “مستقلين” سرعان ما انضمّوا إلى أحزاب أو كوّنوا أحزابا جديدة للعمل على العودة إلى الحكم.
لا تبدو هذه الدعوات في طريقها إلى التنفيذ، ولا ذات تأثير على مجريات الحكم، رغم ما تحدثه من تشويش على الرأي العام وإرباك للوضع وما تبعث به من رسائل سلبية إلى الخارج. فرئيس الجمهورية بثقله الاعتباري والحزبان الرئيسيان (النداء والنهضة) بثقلهما في البرلمان، وسائر المنظمات الداعمة لحكومة الوحدة الوطنية وفي مقدمتها الاتحاد العام التونسي للشغل، أطراف مهمّة مستمرة في دعم السيد يوسف الشاهد وحكومته، كما يدلّ على ذلك بوضوح خطاب رئيس الجمهورية الأخير وكذلك تصريحات المسؤولين الأوائل والبيانات الصادرة في الغرض. والانتقادات والمقترحات في هذا السياق لا تشكك في المسار. كما أنّ الجميع يستحضرون صعوبات تشكيل هذه الحكومة والصعوبات الأكثر المحتملة لأيّ تغيير لها. كما أنّ هذه الحكومة تقدمت نسبيا في تحقيق أولويات وثيقة قرطاج لاسيما في الانتصار على الإرهاب ووضع تشريعات لمكافحة الفساد وتحسين معدل النمو لمعالجة الاستحقاقات الاجتماعية وإرساء بقية المؤسسات الدستورية.
قد لا يكون حكم الشاهد المستهدف الأوّل بل ديمقراطية الحكم أصلا. لذلك نرى في تفعيل الحوار بين الأطراف السياسية والاجتماعية، والتقدّم في المقترحات التي تشتغل عليها لجان وثيقة قرطاج، والوضوح في الإصلاحات الكبرى المطلوبة، وقد أعدّ الاتحاد العام التونسي للشغل على سبيل المثال وثيقة هامة “من أجل ترجمة مضامين وثيقة قرطاج إلى التزامات وإجراءات فعلية”. وربما يكون إجراء تعديل في تركيبة الحكومة، من الخطوات التي تسهم في تحسين الأداء دونما حاجة لنقض المسار. كما أنّ دعم الوفاق والمضيّ في المصالحة الوطنية الشاملة، قد يكونان أفضل رسالة سياسية مطلوبة للحدّ من أطماع أشخاص أو جهات داخلية أو خارجية باتت تتطلّع إلى حكم تونس باستغلال ضعف الدولة وغموض المسار أحيانا. فحكم البلاد ليس نزوة أو لعبة.