المصالحة المتأكدة والأجندات المتضاربة


جريدة الرأي العام، العدد5، تونس في  04  ماي 2017.

تبدو الحاجة إلى مصالحة وطنية شاملة في تونس موضوع اتفاق واسع، لكن يظلّ الخلاف الأكبر حول صيغ تلك المصالحة. ومع مباشرة لجنة التشريع العام بمجلس نواب الشعب المناقشة مجددا لمشروع قانون المصالحة الاقتصادية المعروض على المجلس  من قبل رئيس الجمهورية منذ جويلية 2015، يتجدّد اهتمام النخب والرأي العام  بموضوع المصالحة وتتباين المواقف. وفي زحمة المناكفات وسوق المزايدات تتضارب الأجندات وتختلط المفاهيم وتتداخل المعطيات، فيغيب الوضوح وتلتبس الرؤية. ولا يستغني أيّ متابع موضوعي أو باحث عن الحقيقة عن استحضار مجوعة من المحدّدات والمعطيات في هذا السياق، لتبيّن الموقف الأصوب في موضوع المصالحة الشاملة عامة والاقتصادية خصوصا.

كان الصراع قويّا بصور معلنة وأخرى مخفية، حول تحديد وجهة الثورة التونسية، بين مساري التغيير الجذري وتصفية المنظومة القديمة للحكم بأشخاصها وممارساتها (المحاكمات والعزل والتأسيس…)، والانتقال الديمقراطي وما يفرضه من معجم مخصوص وتسريع للإصلاح وتسوية سياسية بين القديم والجديد (الحوار والتوافق والمصالحة…). وقد حسم الأمر بوضوح لصالح المسار الثاني. وبالعودة إلى تجارب سابقة لنا في الانتقال الديمقراطي، شرقا وغربا، نتبيّن أن المصالحة ممرّ لا غنى عنه في هذا المسار. وأن تلك المصالحة تشمل المسؤولين السابقين في الحكم والمنتفعين منه، مهما كان حجم  التهم الموجهة إليهم. وأن تلك المصالحة سياسية في المقام الأول وتسوية لا تلتزم ضرورة بمقتضيات القانون والعدل، وإنما تقوم أساسا على التراضي والرغبة في التجاوز وعدم العودة لما كان.

اختار المجلس الوطني الـتأسيسي بتونس صيغة العدالة الانتقالية التي نصّ عليها الفصل 24 من القانون الأساسي عدد6 لسنة 2011 المتعلق بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية. وتمت المصادقة لاحقا على القانون الأساسي عدد53 لسنة 2013 الخاص بالعدالة الانتقالية، والذي نصّ الفصل 16 منه على إحداث هيئة مستقلة تسمّى “هيئة الحقيقة والكرامة” للإشراف على هذا المسار. وتمّ ضبط أعمالها ومدّتها. ونصّت الأحكام الانتقالية لدستور 2014 على “التزام الدولة بتطبيق منظومة العدالة الانتقالية في جميع مجالاتها والمدة الزمنية المحدّدة بالتشريع المتعلق بها”. ولا نبالغ إذا قلنا بأنّ هذا المسار يكتنفه غموض كبير قبل سنة من خمس سنوات، قابلة للتجديد بسنة فقط ، منحها القانون لهيئة الحقيقة والكرامة. وأنّ ما أثقلت به الهيئة من ملفات فترة زمنية طويلة جدّا تمتدّ من 1955 إلى 2013، وما ساد أداءها من مشاكل في التسيير وغموض في الرؤية وتوتّرات مع المحيط، عناصر تبعث على القلق بشأن هذا المسار للعدالة الانتقالية. ولا شيء يمنع منطقيا وقانونيا من محاولة التدارك أو التسريع في الفصل في بعض الملفات، كأن يتمّ تعديل القانون عدد 53 بما يحيل الملفات ذات الصبغة الاقتصادية والمالية على آلية أخرى مثل التي تم اقتراحها في المشروع الرئاسي. فقد سبق أن تم تعديل جزئي في هذا القانون عدد 53 سنة 2014. كما لم تر لجنة البندقية التي تمت استشارها في ملاءمة مشروع قانون المصالحة للدستور، أيّ مانع دستوري أو قانوني تونسي في اعتماد أكثر من مسار لتحقيق العدالة الانتقالية. في حين اعترضت على فصول من القانون أهمّها المتعلقة بتركيبة لجنة التحكيم والمصالحة وخضوعها للسلطة التنفيذية.

وممّا يعزّز به المدافعون عن قانون للمصالحة الاقتصادية موقفهم أيضا هو حاجة البلاد في هذه المرحلة إلى المردود المالي لهذا القانون، سواء من رجال الأعمال المتّهمين بالفساد أو من إجراءات العفو عن مخالفات الصرف. ومهما تكن المبالغ فهي مفيدة، إضافة إلى الرسالة السياسية وهي الأهمّ في “تهيئة مناخ ملائم يشجع على الاستثمار وينهض بالاقتصاد الوطني ويعزز الثقة بمؤسسات الدولة…وطيّ صفحة الماضي تحقيقا للمصالحة باعتبارها الغاية السامية للعدالة الانتقالية”. كما تشمل المصالحة قضايا “الموظفين العموميين وأشباههم من أجل أفعال تتعلق بالفساد المالي وبالاعتداء على المال العام باستثناء تلك المتعلقة بالرشوة وبالاستيلاء على الأموال العمومية”. فالعملية تظل سياسية في جوهرها، مما يستوجب النظر إليها أساسا من هذه الزاوية وليس فقط من زاوية مقتضيات القانون والعدل. فإذا استمرّ مناخ الخوف والانكماش وسوء ثقة الأطراف ببعضها، يكون من الصعب أن يتشجّع الاستثمار الداخلي فضلا عن الخارجي ليستعيد الاقتصاد التونسي عافيته.

لكن المعترضين على مشروع القانون، يستحضرون مخاطر تبييض الفساد ومعاقبة من امتنعوا عن التورط في ذلك زمن الاستبداد، وإن بطريقة غير مباشرة، وتكريس منطق الإفلات من العقاب بما يشجع على استمرار الفساد. فضلا على أنّ إجراءات المصالحة المقترحة لا تضمن التأكّد من الأموال المنهوبة ولا تردّ حق الدولة والشعب ولا تعتمد المساءلة والمحاسبة ولا تنصّ على نشر تقارير مفصّلة عن المصالحة بما يفيد الشفافية والمصارحة والاعتذار وحفظ الذاكرة وغيرها من مقاييس العدالة الانتقالية. فضلا على أنّ اللجنة المقترحة للمصالحة تمارس دورا قضائيا غير مباشر وتبطل أحكام القضاء دون أن يضمن المشروع استقلالية هذه اللجنة وحيادها ومصداقيتها. وتفاعلا مع هذه الاعتراضات القوية والتي  انخرط فيها طيف واسع من السياسيين وناشطي المجتمع المدني وكتل نيابية وازنة، بما منع تمرير القانون في صيغته الحالية وأدّى إلى تجميده، فإنّ رئاسة الجمهورية تبدي مرونة كبيرة في التعاطي الايجابي مع مختلف الاقتراحات لتعديل مشروع القانون، بل تسرّبت مقترحات مهمّة من دوائر الرئاسة في هذا الاتجاه خاصّة في التنصيص على المساءلة والمحاسبة والاعتذار وتعديل تركيبة لجنة المصالحة وضمان استقلاليتها وشفافية عملها.

وفي الوقت الذي تهدّد بعض الأطراف بتصعيد الاحتجاجات من أجل إسقاط مشروع القانون وسحبه نهائيا، وتستفيد من حالة الاحتقان الاجتماعي والمزاج السلبي العام، ومن التصريحات المستفزّة للمدافعين عن نظام المخلوع، لتعزيز رصيدها السياسي الشعبي، فإنّ أطرافا أخرى، لا سيما من الأغلبية الحاكمة، تقرّ بحق الأقلية في المعارضة والاحتجاج، دون منع الأغلبية من إجراء التعديلات المناسبة على مشروع القانون بما يضمن دستوريته ويمنعه من أن يكون تكريسا للفساد أو إفلاتا من العقاب، ويضفي على لجنة التحكيم ما يلزم لحيادها ومصداقية ما تبرمه من صلح،  ويلائمه مع بقية مسارات العدالة الانتقالية والمصالحة الشاملة، لتتم المصادقة عليه في البرلمان بما يقتضيه نظامه الداخلي وما تستوجبه الآليات الديمقراطية في الحكم. وبما يعزّز خيار التوافق والاستقرار السياسي.

بعيدا عن منطق التآمر والشيطنة، نحسب أن مشروع قانون المصالحة الاقتصادية والمالية، مثله مثل بقية مشاريع القوانين التي تعرض على البرلمان، يظلّ تقديرا للمصلحة ووجهة نظر في معالجة مشكلات في الواقع، لا يخلو من اختلاف وتجاذب. لكن المهمّ أن يستحضر الجميع ما أكدناه في المقدمة من حاجة البلاد لمصالحة شاملة متأكدة والمصالحة الاقتصادية جزء منها. وأن لا تتحوّل التقديرات المختلفة للمصلحة الوطنية إلى أجندات شخصية أو حزبية أو فئوية أو ربما خارجية، لإرباك الساحة الوطنية وتعطيل مسار نجاح التجربة التونسية في الانتقال الديمقراطي.

L’image contient peut-être : 2 personnes, personnes souriantes, texte

 

مشاركة
    Avatar for محمد قوماني
    1 Comments
    Avatar for محمد قوماني
    مريم 2017-06-16
    | |
    أشكركم الشكر الجزيل علي هذا المقال الشيق استفدت منه كثيرا خصوصا انا طالبة دكتوراه ولدي جزء منها عنوانه حتمية المصالحة في المادة الصرفية وهذا المقال وضح لي العديد.من الأفكار حول المصالحة الاقتصادية.ولي ولكم التوفيق بعون الله.
    %d مدونون معجبون بهذه: