من الخلافة الراشدة إلى الجمهورية الديمقراطية

 

من الخلافة الراشدة إلى الجمهورية الديمقراطية

 

مجلة الإصلاح الالكترونية العدد 6 بتاريخ 15 جوان 2012.

 

كانت قضية الخلافة أو الإمامة بتعبير أغلب القدماء، أو قضية الحكم أو السلطة أو السياسة بتعبير المحدثين، أولى موضوعات الخلاف بين المسلمين وأخطرها. وظلّت محلّ نزاع بينهم منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حتّى زمننا الحاضر.

ففي تاريخنا القديم لم يقف الخلاف حول مسألة “الإمامة” عند حدود الجدال النظري الحادّ والحجاج العقلي والنقلي، بل جرّد المسلمون سيوفهم لحلّه. إذ يذكر الشهرستاني أنّ “أعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة. إذ ما سلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينيّة مثلما سلّ على الإمامة في كلّ زمان.”[1]

وفي تاريخنا المعاصر، لا نبالغ إذا قلنا أنّ كتاب “الإسلام وأصول الحكم” للشيخ علي عبد الرازق، فجّر أكبر المعارك الفكرية في ساحتنا. ومازال الموضوع يثير جدالا واسعا ويشكل محور صراع محتدم، خاصّة مع تنامي حركات الإسلام السياسي وصعود بعضها إلى الحكم بعد ثورات الربيع العربي.

فالإمامة (السياسة/الحكم) هي الموضوع الذي يجمع بين النظر والعمل وبين العقيدة والشريعة وبين توحيد الإله ونظام المدينة (المجتمع) بين أصول الدين والفقه، وفيه تنقل القضايا العقائدية من المستوى النظري الفردي في مسائل “الأسماء والصفات” إلى المستوى العملي الجماعي في قضية الخروج على الإمام الجائر. وفي هذا المستوى يتمّ تأويل العقائد حسب مقتضيات الواقع وصراع المصالح كما تعبّر المجموعات عن تطلعاتها السياسية بمقالات دينية. فقد جعل الشيعة الإمامة أصلا من أصول الدين. وضمّن المعتزلة مواقفهم من الإمامة في الأصل الخامس من أصول الدين الخمسة لديهم وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. واختلفوا فيه مع المرجئة والشيعة وأهل الحديث.[2]

ومن ناحية ثانية  فإنّ الموقف من الإمامة (الحكم) زاوية تكشف عن نظرة كل فرد أو فرقة أو جماعة للإنسان وللأمّة أي الجماعة الإنسانية. ففيه يظهر الخلاف بين من قالوا بعصمة الفرد (الشيعة عموما) وقصور الأمّة وحاجتها إلى الإمام الوصيّ، وبين من قالوا (أغلب الفرق) بعصمة “الأمّة” أي الجماعة، وبالتالي الثقة بمن تختاره الأغلبية.

ومن ناحية ثالثة يعتبر الموقف من الإمامة (الحكم) اختبارا عمليا للمبادئ النظرية وللعقائد ولمدى جدواها في معالجة قضايا الواقع واستجابتها لمصالح الناس وطموحاتهم.

فالنظرية السياسية تتوّج المشروع النظري للمفكر أو للفيلسوف. وربما لهذا السبب كان مبحث الإمامة في آخر مقالات المتكلّمين في تراثنا.

اجتماع السقيفة

توفّي الرسول عليه الصلاة والسلام، وقبل ترتيب أمور دفنه، سارع جماعة من أصحابه إلى الاجتماع للّنظر في أمر خلافته فيما يعرف باجتماع السقيفة. وربّما كان الصحابة من المهاجرين والأنصار، محقّين في اعتبار تعيين الخليفة أهمّ من دفن الرسول. إذ أنّ ضمان استمرار دين محمّد صلى الله عليه وسلّم وثيق الصلة بتعيين خليفة له. وكان أبو بكر أوّل خليفة لرسول الله. ولا شك أنّ الخلافة هنا سياسية وليست دينية. فالنبيّ الخاتم الذي كان يقود الأمة الناشئة لا يُخلف في نبوّته بل في قيادته، وهذا ما يعطي الخلافة طابعها السياسي رغم قرار الخليفة الأول بمقاتلة “من فرّق بين الصلاة والزكاة” واعتبارهم “مرتدّين”.

وإذا كان أبو بكر مؤسس دولة الخلافة، فإنّ حكمه الذي لم يدم سوى سنتين ونيف جعل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب  هو من يرسي دعائم نظام الخلافة ويعطيه تشكّله الأوّل. مستفيدا من طول فترة خلافته ومن الخبرات الجديدة التي اكتسبها العرب بتوسّع الفتوحات أيضا.

فنظام الخلافة يعني نظام الحكم الذي بدأه المسلمون واستمرّوا عليه بتسميات مختلفة وإضافات متعدّدة وحالات صعود أو هبوط لمدّة أربعة عشر قرنا تقريبا. وهو النظام الذي نجده مدوّنا فكرا وممارسة بين كتب مقالات المتكلّمين وكتب الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية وكتب التاريخ. وقد أصبغ المسلمون صفة “الخلافة الراشدة” على حكم الخلفاء الأربعة الأوائل، استحسانا لحكمهم الذي كان في جوهره، قريبا من قيم الإسلام، رغم بعض الاختلافات في التفاصيل.

الإمامة في التراث العربي الإسلامي القديم

تتوزّع مقالات الفرق الإسلامية حول الإمامة أو الخلافة بحسب الاستعمال، بين كتب أصول الدين وكتب السياسة الشرعية أو الأحكام السلطانية. وتدور تلك المقالات في مجملها حول تعريف الإمامة وحكمها وموقعها في العلوم الإسلامية وصفات الإمام وطريقة تعيينه. وهل تكون الإمامة بالنص أو بالاختيار؟ وما هي شروط عقدها؟ وما هي أهم واجبات الإمام وحقوقه على الأمّة ومختلف الولايات التي يعقدها لمساعديه وكيف يمارسونها؟ وهذا المبحث الأخير اختصّ به الماوردي في كتابه”الأحكام السلطانية”.

وبالعودة إلى المصادر والمراجع ذات الصلة بهذا المبحث وعناوينه المختلفة المشار إليها سابقا يهمّنا التوقف عند أربعة استنتاجات:

  • – سلطة مُشخصنةمستندة إلى أصل ديني :

يقول الماوردي في مقدمة “الأحكام السلطانية”: “إنّ الله جلت قدرته ندب للأمّة  زعيما خلف به النبوّة، وحاط به الملّة، وفوّض إليه السياسة، ليصدر التدبير عن دين مشروع وتجتمع الكلمة عن رأي متبوع، فكانت الإمامة أصلا عليه استقرّت قواعد الملّــــة، وانتظمــــت به مصالح الأمــــة حتى استثبتت بها الأمور العامّة، وصدرت عنها الولايات الخاصة، فلزم تقديم حكمها عن كل حكم سلطانــــي، ووجب ذكر ما اختصّ بنظرها على كل نظر ديني، لترتيب أحكام الولايات علـــى نســـق متناسب الأقســـام متشاكــل الأحكــــــام”.[3]

وبالرجوع إلى تعريفات الإمامة عند الإيجي وابن خلدون والماوردي وغيرهم، وبالتأمل في صفات الإمام من عدل، وشجاعة، وزهد، وعصمة و”خلود” أو”رجعة” (لدى الشيعة) وتقدّم في الفضل. نتبيّن أنّ الجدال السياسي يدور حول الإمام “الشّخص” دون التعرّض لباقي جوانب المسألة السياسية مثل ما نسمّيه اليوم المؤسسات الدستورية ووسائل الرقابة الشعبية. وتعقد المقارنة بين الإمامة العظمى (الخلافة) والإمامة الصغرى (إمامة الصلاة) من أجل إضفاء الطابع الديني على السياسة طلبا للطاعة. تماما كما تؤكد التعريفات على جمع السلطتين الدينية والسياسية في شخص الإمام.

2     – تبرير لوقائع تاريخية وليس تنظيرا سياسيا :

يسهل على كل متأمّل في مباحث حكم الإمامة وفي وجوبها عقلا أمشرعا؟ أم عقلا وشرعا؟  أن يستنتج الميل الغالب إلى تبرير الإمامة شرعا عن طريق الإجماع المزعوم من خلال الوقائع التاريخية. ويدور الجدال حول عدد من تُعقد بهم الإمامة شرعا (واحد أو اثنين كما في السقيفة أو خمسة كما فعل الخليفة الثاني أو جماعة من أهل الحلّ والعقد…) استنادا إلى وقائع تاريخية أيضا. إضافة إلى اشتراط صفات الزهد والشجاعة والخروج وطلب الإمامة… والقول بإمامة المفضول مع وجود الأفضل للتوفيق بين الولاء لعليّ بن أبي طالب وأفضليّته دون الطعن في شرعية خلافة أبي بكر وعمر وعثمان من قبله…وغيرها من الآراء التي بذل السلف فيها جهودا كبيرة، بدت أقرب إلى تبرير وقائع معيّنة وإضفاء الشرعية على أحداث محدّدة،  أكثر ممّا هي محاولات للتنظير السياسي، على غرار بعض المحاولات القليلة مثل قول الأصمّ[4] والفوطي[5]  من المعتزلة والنجدات[6] من الخوارج بعدم وجوب الإمامة.

فقد قال أبو بكر الأصمّ (توفي سنة 201 هجريا) “لو تكافّ الناس عن التظالم لاستغنوا عن الإمام”[7]. وقال هشام الفـوطي (ت 218 هجريا) “لا تنعقد الإمامة في أيام الفتنة واختلاف الناس وإنّما يجوز عقدها في حالة الاتفاق والسلامة” [8]  فالأصمّ يرسم صورة مثالية لمجتمع بلا سلطة يكون فيه كلّ فرد سيّدا على نفسه. والفـوطي يرى السلطة مشروطة بالاستقرار واجتماع كلمة الناس على الحق.

3- مصالح دنيوية أكثر ممّا هي مسائل دينية:

رغم ما يبدو في تعريف الإمامة من جمع بين الديني والسياسي في شخص الإمام  فهي “رياسة عامّة في أمور الدين والدنيا” كما يقول الإيجي[9] وابن خلدون[10]، ورغم التأكيد على وجوب الإمامة لدى جميع الفرق الإسلامية مع اختلاف في وجوبها على الله (الشيعة) أو على الناس (المعتزلة وأهل السنّة)، ورغم ما ذهب إليه القدامى من أن الإمامة أصل من أصول الدين (الشيعة) أو فرع من أصل (المعتزلة) أو باب من أبواب الفقه (أهل السنة)، رغم كل ذلك فإنّ التوقّف عند تحديد مهامّ الإمام والغرض من الإمامة يجعلها أقرب إلى المصالح الدنيوية منها إلى المسائل الدينية. يقول القاضي عبد الجبار المعتزلي: “إنّ الإمام مدفوع فيما يتّصل بأمر السياسة إلى أمرين : أحدهما أمر الدين والآخر أمر الدنيا. وفي كلّ واحد منها يلزمه النظر من وجهتيــــن : أحدهمـــا ما يعود بالنفع والآخر ما يندفع به الضرر”[11].  ولاشكّ أن تحديد المنفعة والمضرّة باب عريض للاجتهاد والتعديل بحسب معطيات الزمان والمكان. ناهيك أنّها منافع أو مضارّ عامّة (للكافّة) وليست خاصّة.

كما أنّ المهامّ العشرة الأساسية التي حدّدها الماوردي للإمام وهي باختصار : حفظ الدين وتنفيذ الأحكام وحماية البيضة وإقامة الحدود وتحصين الثغور وجهاد من عاند الإسلام وجباية الفيء والصدقات، وتقدير العطايا واستكفاء الأمناء وتقليد النصحاء ومباشرة الأمور وتصفح الأحوال. هذه المهام في مجملها تعود إلى تنظيم حياة الجماعة وحفظ مصالحها وهي مسائل دنيوية بامتياز.

4- حكم شمولي لا فصل فيه بين السلطات:

إنّ مهامّ الإمام كما ضبطها الماوردي فيما سبق، والولايات الدينية التي فصّلها في  كتابه “الأحكام السلطانية” (تقليد الوزارة، وتقليد الإمارة على البلاد، وتقليد الإمارة على الجهاد، والولاية على حروب المصالح (حرب داخلية)، وولاية القضاء، وولاية المظالم، والولاية على إمامة الصلوات، والولاية على الحجّ وعلى الصدقات وعلى الفيء والغنيمة والجزية والخراج وفي إحياء الموات واستخراج المياه وفي وضع الديوان..)، والتي تعود إلى المهمّة التاسعة التي حدّدها للإمام، تمثّل خطوة نوعية وبداية اتجاه واضح للحديث عن الدولة وأجهزتها في الأحكام السلطانية، بدل الاختصار على شخص الإمام كما الأمر في علم الكلام.

وهذه الخطوة على أهميّتها، لا تخفي الطابع الشمولي لنظام الخلافة وإرجاع السلطات جميعا إلى شخص الخليفة الذي يجتهد بدوره ويشرّع ويقضي بين الناس ويتفقد الرعيّة ويؤمّ الناس في الصلوات. هذا إضافة إلى ما يقرّره الماوردي من حقّين للإمام على الأمّة وهما: “الطاعة والنصرة ما لم  يتغيّر حاله وذلك بسبب جرح في عدالته أو نقص في بدنه”[12]. وهو بذلك على غرار كلّ مفكّري الإسلام من السلف، لا يقيّد فترة حكم الخليفة بزمن بل بعوارض ذاتية أخلاقية أو بدنيّة.

من الخلافة الرّاشدة إلى الجمهورية الديمقراطية

انطلاقا من ملاحظاتنا الأربعة التي تقدّمت حول مقالات الإمامة والأحكام السلطانية في تراثنا القديم التي تُقدّم في الغالب باسم نظام الحكم في الإسلام، وإضافة إلى ما تضمنته الفقرات السابقة من إشارات صريحة أو ضمنيّة، فإننا نخلص إلى الاستنتاجات التالية التي نراها آفاقا لرؤية مختلفة لموضوع الإسلام ونظام الحكم:

1– إنّ ما رآه الإسلاميّون[13]– قديما ـ وما قرّروه من صيغ لنظام الحكم، يمكن نقضه من داخل المنظومة نفسها بما يعارضه من أطروحات مخالفة (نقض  الشيعة بالسنّة، ونقض السنة بالمعتزلة، ونقض الخوارج بالسنة ونقض المعتزلة بالشيعة وهكذا…) كما يمكن نقضه بما نرتئيه اليوم من أطروحات جديدة وتأويلات مغايرة للإسلام، بما يؤكد أن مسألة الحكم اجتهاديّة بحتة. وهي رؤى بشرية لا تكتسي أيّة قداسة وإن اصطبغت بالدين لصلتها بأصوله من قرآن وسنّة ولأنها صيغت في فضاء إسلامي، لكنها تظل اجتهادات وليست مُلزمات.

2 – إنّ الإسلام على ما تضمنته نصوصه التأسيسية من قرآن وسنة صحيحة من مبادئ في العدل والحرية، وإن التراث الإسلامي على ما احتوى من جوانب مشرقة في الدفاع عن حق الجماعة وعن  البيعة والاختيار وحق تغيير الحاكم الظالم ونزعة نحو الحرية، لم يمنعا ما عرفه تاريخنا الإسلامي من ظلم واستبداد على يد الحكّام. وإنّ ما عُرف في التاريخ الإسلامي من نظام سياسي متميز للحكم، اشتهر بنظام الخلافة رغم اختلاف التسميات قد نظرإليه المسلمون دوما على أنه نظام إسلامي وإن تنازعوا في تفاصيله نظريا وعمليا. وقد نحا البعض به إلى العدل والحرية. ومال به آخرون إلى الظلم والاستبداد. أيّده فريق وعارضه آخر، لكنه لم يُعامل في الغالب بوصفه نظاما دينيا ثيوقراطيا مقدّسا.

3 – إنّ التمييز بين “الدين” و”الدولة” ونفي صفة “القداسة” أو “الثيوقراطيّة” ـ بمعنى السلطة المستندة إلى  شرعية إلهية – عن نظام الخلافة وعن أيّ حكم يستند إلى الإسلام، والقول بتاريخية نظام الحكم من زاوية إسلاميّة، لا يعني ضرورة بل لا يبرّر الفصل المستحيل بين الإسلام والسياسة. فمن المهمّ التنبّه إلى خصوصية النظرة الإسلامية إلى أعمال الإنسان وإلى “الحقيقة”، باعتبارها في ذات الوقت دينية من جهة ودنيوية من جهة أخرى. فكل اجتهاد  بشري  لتحقيق  مبدأ  ديني/ مثالي يكتسي طابعا دينيا وروحانيا بمعنى ما، دون أن يصير مُقدّسا. وكل أعمال المسلم يمكن أن تُحمل على أنها عبادة، بما في ذلك الأكل والنوم. وهذا ما جعل المفكر الإسلامي محمد إقبال يقول أنّ: “روح التوحيد بصفته فكرة قابلة للتنفيذ هو المساواة والتضامن والحرية. والدولة في نظر الإسلام هي محاولة تبذل بقصد تحويل هذه المبادئ المثالية إلى قوى مكانية زمانية، هي إلهام لتحقيق هذه المبادئ في نظام إنساني معين. والدولة في الإسلام ليست ثيوقراطية أي دينية إلا بهذا المعنى وحده لا بمعنى أن على رأسها خليفة الله في الأرض يستطيع دائما أن يستر إرادته المستبدّة وراء عصمته المزعومة، وقد غاب هذا الاعتبـــار الهام عن أنظار نقّاد  الإسلام”.[14]

5 – إنّ غالبية المسلمين اليوم يتطلعون إلى نظام سياسي قوامه الحرية والمواطنة والعدل واحترام حقوق الإنسان، وهو الحكم الصالح الذي نراه فيما نصطلح عليه حديثا بالنظام الديمقراطي. بما فيه من مبادئ أساسية في المواطنة  والتعددية الحزبيّة والفصل بين السلطات وتنظيم للتّداول السلمي على الحكم، واحترام الحريات الفردية والعامة والاحتكام إلى الرأي العام عبر إعلام حر وانتخابات نزيهة… وهذه المبادئ التي تُعدّ من إبداعات عصرنا ومكاسبه، لاغرابة أن يخلو منها تراثنا السياسي أو لا يقوم عليها نظام الخلافة في تجربتنا التاريخية، لكن المهمّ أنّه لا توجد في نصوص الإسلام التأسيسية أو في تعاليمه ومبادئه، ما يناقضها أو يمنع تحقّقها في ربوعنا، خاصّة إذا استحضرنا مرونة النصوص التأسيسية ذات الصّلة.

 

وإنّ مزايا الديمقراطية الحديثة التي عرفها الغرب فكرا وممارسة جعلت كثيرا من مفكري الإسلام يتبنونها كشعار بما في ذلك المودودي الذي دعا إلى ما سمّاه “ثيوقراطية ديمقراطيّة” أي “حاكمية شعبية مقيدة بسلطة الله القاهرة”.[15] وعلى هذا الأساس لا نرى مانعا من وصف نظام الحكم الذي يناسب واقعنا المعاصر من زاوية إسلامية بـ: “نظام الحكم الديمقراطي”.

ختاما

إن نظاما ديمقراطيا نتطلع إليه في مجتمعاتنا العربية الإسلامية، بعد الثورات، يحتاج إلى حوار هادئ ومعمّق باتجاه آفاق أرحب وصيغ أكثر تناسبا مع بيئتنا الثقافية والاجتماعية والحضارية. ولا نجانب الصواب إذا اختزلنا  هذا التطلّع في القول بأنّ قيم الخلافة الراشدة في صدر الإسلام، التي نستأنس بها ولا نقيس عليها، تتحقّق في عصرنا بإرساء حكم رشيد عبر بناء الجمهورية الديمقراطية، التي تحفظ قيم الإسلام وتأخذ بمكتسبات العصر لفظا ومعنى وخبرات عمليّة.

محمد القوماني

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*مقال منشور بمجلة الإصلاح الالكترونية العدد 6 بتاريخ 15 جوان 2012.

 

الهوامش

[1]   ـ الشهرستاني، الملل  والنحل ، دار المعرفة، بيروت، ط2، ج1، ص21، (1975).

[2] ــ انظر دراستنا بعنوان “الأصول الخمسة للمعتزلة: صياغة دينية لمواقف سياسية” ضمن الفصل السادس من هذا كتابنا “ما  بعد العلمنة والأسلمة: مقاربات في الثورة والإسلام والحداثة”، دار ورقة للنشر، تونس 2015.

    [3]  ـ أبو الحسن الماوردي، الأحكام السلطانية، دار الكتب العلمية، بيروت (1978)، ص3.

[4]  ـ أبو بكر عبد الرحمان بن كيسان الأصمّ. كان من أفصح الناس وأفقههم وأروعهم، لكن ينفي الأعراض، وله تفسير عجيب. وكان جليل القدر يكاتبه السلطان. والذي نقم عليه أصحابنا بعد نفي الأعراض أزواره عن عليّ عليه السلام. وكان أصحابنا يقولون بلي بمناظرة هشام بن الحكم فيغلوه هذا ويغلوه هذ.ا وهو أحد من له الرئاسة في حياته فقط. (القاضي عبد الجبار، فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة، ص 267.)

[5]  ـ هشام بن عمرو الفوطي، كان عظيم القدر عند العامة والخاصة وحكى أنه كان إذا دخل على المأمون يتحرك له حتى يكاد يقوم.  وذكر أبو الحسن الفرزوي أنه كان أحد الآجلّة في الكلام والمناظرة والقصص. وله أقوال دقيقة في الفروع. (القاضي عبد الجبار، ن .م ، ص ص271-272).

[6]  ـ تنتسب النجدات إلى زعيمهم الأول نجدة بن عامر بن عبد الله. وقد سمي أتباعه بالنجدات العاذرية لعذرهم أهل الخطأ في الاجتهاد إذا كانوا جاهلين بوجه الصواب فيه. ويختلف النقل في مكان خروجه؛ فبعضهم يرى أنه كان من اليمامة ومنها انتشر أمره إلى بقية البلدان وهذا هو المشهور، بينما يذكر الملطي أنه خرج من جبال عمان، ويوصف نجدة بأنه كان شجاعا يتابع الغارات على من حوله حتى بلغ ملكه صنعاء جنوبا والبحرين، أي أنه أخذ مساحات واسعة من الدولة الإسلامية.

 [7]   ـ أبو الحسن الأشعري، مقالات الإسلاميين، تصحيح هلموت رويتر، دار النشر فرانزشتايزبقيسنبادن، ط3 (1980). ص460.

[8]   ـ الشهرستاني، مرجع مذكور سابقا، ص92

[9]  ـ الإيجي، المواقف، شرح علي بن محمد الجرجاني، مطبعة الحاج محرم أفنديالبوستوي، القسطنطينية، 1286 هجريا.

[10]  ـ ابن خلدون، المقدمة، دار القلم، بيروت، ط4، 1981، ص191.

 [11]    ـ  القاضي عبد الجبار، المغني في أبواب التوحيد والعدل، ج20، ق1، الدار المصرية للتأليف والترجمة (دت)، ص97.

 ـ أبو الحسن الماوردي،الأحكام السلطانية، م. م. سابقا، ص17.[12]

[13]  ـ مصطلح “الإسلاميين” قديم وإن تغيرت الدلالة حديثا. وقد جعل أبو الحسن الأشعري عنوان أحد كتبه ” مقالات الإسلاميين واختلافات المصلّين”.

[14] ـ محمد إقبال، تجديد التفكير الديني في الإسلام، القاهرة ط2(1968)، ص177

 [15]ـ  المودودي، نظرية الإسلام السياسية (محاضرة في طبعة تونسية خاصة دون تدقيق)

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: