المسائل الخلافية في دستور الجمهورية

المسائل الخلافية في دستور الجمهورية

جريدة المغرب بتاريخ 8 أوت 2012

تُرجّح التوقّعات أن تكون المسودّة الأولى للدستور التي تعكف لجان المجلس الوطني التأسيسي على صياغته على مكتب رئيس المجلس نهاية شهر جويلية الجاري، لتبدأ لاحقا الجلسات العامة للحوار حول الموادّ واحدة واحدة، قبل الصياغة العامة مجدّدا. ويبدو أن عمل اللجان على أهميته، لم يتقدم في تحقيق توافقات حول أهم المسائل الخلافية، المعروفة والمتوقعة حتى قبل انتخاب المجلس أصلا. فما هي أهم القضايا الشائكة في كتابة الدستور الجديد؟ وما هي أهم الاسئلة التي تطرحها؟

بعد انقضاء ثلثي المدة الممنوحة مبدئيا للمجلس الوطني التأسيسي للفراغ من مهمته الأساسية المتمثلة في كتابة دستور جديد للجمهورية، يبدو من الغريب غياب أي حوار وطني، في الساحة السياسية وحتى في وسائل الإعلام حول القضايا المصيرية والشائكة المتعلقة بالدستور المرتقب. وبقدر ما نسمع من مطالب في دسترة بعض الحقوق والتطلعات الخصوصية، حتى نكاد نخال الدستور كتابا جامعا لكل الأمنيات، لا نسمع بالتوازي ملتقيات ولا حوارات ولا وقفات احتجاجية ولا تحالفات سياسية حول القضايا المفصلية في الدستور. ولا ندري إلى متى يُؤجل الحوار لتبيّن اتجاهات التونسيين حول تلك القضايا؟ وما السبيل إلى حسم الخلافات حولها؟ ناهيك حين نقول ان كتابة الدستور لا تهم أعضاء المجلس الوطني التأسيسي بل سيشارك فيها الجميع، وأن المواطن لا بد أن يتملّك الدستور قبل المصادقة عليه، حلى حدّ قول السيد رئيس الجمهورية. وكم تزداد حيرتنا حين نستحضر المدّة المتبقية عن الموعد المعلن للانتخابات القادمة في مقابل هذا التمشي في كتابة الدستور وهذا الكم من الأسئلة حول القضايا الشائكة التي نحاول إيجاز أهمها فيما يلي:

1 ـ اعتماد المواطنة أساسا للانتماء إلى الدولة.

لا خلاف على ما يبدو بين الفرقاء السياسيين وسائر الفاعلين، إذا استثنينا النشاز لدى حزب التحرير على سبيل المثال، حول مبدأ المواطنة والصبغة المواطنية للدستور المطلوب. لكن إذا استحضرنا ما تقتضيه المواطنة من عضوية في دولة تعاقدية وما تمليه من مساواة في الحقوق والواجبات ومن تقييد لسلطة الحاكم بالقانون وخضوعه لإرادة الأغلبية، نتساءل على سبيل المثال عن مدى انسجام مبدأ المواطنة مع اشتراط صفة المسلم أو الذكر  في الترشّح لرئاسة الجمهورية؟ وما هي الآلية الدستورية التي تفرض تقييد كبار المسؤولين في الدولة بالقانون، وهي الوظيفة الأساسية للدستور، من خلال إتاحة إمكانية اتهام رئيس الجمهورية على سبيل المثال بخرق الدستور وإحالته للمحاكمة.

2 ـ مرجعية حقوق الإنسان.

تتفق جميع الخطابات السياسية تقريبا على أهمية حماية الدستور لحقوق الإنسان المضمّنة في المواثيق الدولية ذات الصلة. لكن الخلاف يظل قائما حول مدى عُلوية تلك المواثيق عن التشريعات الوطنية؟ وإذا قبلنا بالسيادة الوطنية في جعل الدستور أعلى منزلة من المواثيق الدولية، فهل يمكن أن ينص الدستور على ضرورة تقيّد التشريعات الوطنية بمقتضيات التعهّدات الدولية، بقطع النظر عن التدرّج الممكن مراعاته في بلوغ التطبيق الكامل لتلك التعهدات؟ وهل يمكن على سبيل المثال النص في الدستور الجديد على أن ضمان حق الحياة يقتضي عدم العمل بعقوبة الإعدام؟

3 ـ النظام السياسي والعلاقة بين السلطات.

مع الاتفاق على الصبغة المدنية للدولة وعلى النظام الجمهوري الديمقراطي، يظل الخلاف حول شكل النظام السياسي. هل يكون برلمانيا؟ أو رئاسيا؟ أو معدّلا في هذا الاختيار أو ذاك؟ فالتونسيون الذين اكتووا بالنظام الرئاسوي الذي انقلب إلى حكم فردي مطلق، قد يرون في النظام البرلماني الذي يضع الحكم بيد المجموعة بدل الفرد، قطعا نهائيا مع منظومة الاستبداد والحكم الفردي. وقد يتعزز هذا الاختيار مع مخاطر الطموحات الفردية للحكم لدى بعض الشخصيات المعروفة في الساحة. لكن هل يقبل النظام البرلماني المعدل بانتخاب رئيس الجمهورية من الشعب مباشرة وليس من البرلمان كما هو في الأصل؟ وفي المقابل قد تحنّ الأغلبية إلى النظام الرئاسي الذي ألفوه مع ضمانات للتوازن بين السلطات والحدّ من تغوّل سلطات الرئيس. وقد يرون في تجربة المرحلة المجلسية والحكم برئاسات ثلاث وعدم التوازن والتفاهم بينها مثالا غير محبّذ للنظام البرلماني؟ وهل سيُحسم الاختيار على هذا الصعيد لاعتبارات مبدئية في محاسن كلا النظامين المعروفين من خلال تجارب عريقة في الديمقراطية؟ أم سيحسم لاعتبارات سياسية واقعية مرحلية تتعلق بالتوازنات داخل المجلس التأسيسي وبالتحالفات والرهانات الانتخابية القادمة؟ وفي نفس السياق يأتي التساؤل عن الاعتبارات التي ستُحكم الخلافات حول السن القصوى للترشح لرئاسة الجمهورية؟

هذا إضافة إلى الاختلاف حول نظام تشريعي بغرفة أو غرفتين؟ وعلاقة ذلك بنظام اللامركزية والجماعات المحلية وما تمليه أهداف الثورة من ديمقراطية محلية، وفي نفس الوقت إشراك لجميع الجهات في السلطة لضمان تكافؤ فرصها في التنمية. ومن هنا يأتي اقتراحنا على سبيل المثال بالحاجة إلى غرفة ثانية تكون بمثابة المجلس الوطني للتنمية الذي تُمثّل فيه الجهات بالتساوي، خلافا للغرفة التشريعية، وتكون مهمته مراقبة السياسة التنموية للحكومة وضمان تنمية الجهات والعدل بينها.

ومهما يكن شكل النظام السياسي فإن المهم هو علاقة التوازن بين السلطات في الدولة، وخاصة استقلال السلطة القضائية ودورها الحيوي في ضمان العدل وممارسة الرقابة في التزام الجميع بالقانون. ونخص بالذكر هنا تركيبة المجلس الأعلى للقضاء ورئاسته ومهامه؟ وكذلك ما يمكن تسميته بقضاء الدولة من محكمة دستورية  تضمن عُلوية الدستور والقانون ومحكمة إدارية  ومحكمة مالية لضمان الشفافية في التصرف في الأموال العمومية؟

4 ـ الرقابة الديمقراطية الدستورية.

يشمل هذا المجال مؤسسات عديدة لم تكن موجودة من قبل ويبدو الاتفاق قائما حول الحاجة إليها، ولكن الخلاف حادّ حول آلية تشكيلها وتركيبتها، منعا للهيمنة أو التوظيف. ومن هذه المؤسسات التي يؤشر تأخر الحسم في شأنها على طبيعة الاختلاف في هذا المجال، الهيئة الوطنية المستقلة لمراقبة الانتخابات.
وعليها نقيس هيئة الإعلام وهيئة مراقبة الفساد وضمان الشفافية وغيرها من مؤسسات الرقابة الدستورية.

5 ـ علاقة الدين بالدولة.

يبدو أن الاتفاق المتوقع على الفصل الأول من دستور 1959 الذي ينص على أن تونس دينها الإسلام، لن يحسم الخلاف في موضوع علاقة الدين بالدولة وما يتصل به من مواضيع فرعية. ففي ظل وجود هذا الفصل في الدستور السابق كان الجدال قائما بين القانونيين والحقوقيين والسياسيين وفي المجتمع، حول أن الإسلام دين الدولة أم دين التونسيين؟ وكيف سيكون التعامل مع المؤسسات الدينية مثل المساجد إذا كانت الدولة لا شأن لها بالدين كما يقول البعض؟ وماذا ينجر عن ترك المساجد في المقابل خارج إدارة الدولة؟ وكيف ستتم الملاءمة في التشريعات بين القوانين التي يصدرها البرلمان وقد يرى فيها تونسيون مخالفة لتعاليم الإسلام؟ وإلى من تعود سلطة القرار في هذه المسائل إذا تشبث البعض بأن المسائل الدينية يبتّ فيها أهل الاختصاص الديني؟ ومن يا ترى هؤلاء المختصين؟ وما موقع مؤسسة المفتي في نظام ديمقاطي يعود فيه التشريع إلى البرلمان؟ وكيف سيتم الفصل في عدم السماح لأي طرف سياسي باحتكار الإسلام أو توظيفه سياسيا وحزبيا؟ وهل يشترط في جميع الاحزاب والجمعيات وسائر الانشطة العامة التقيّد بالإسلام أرضية مشتركة جامعة؟ وكيف تُحمى المقدسات الدينية ونُحافظ على هوية تونس العربية الإسلامية؟ وماذا يترتب عن ذلك في سياسات الدولة الداخلية والخارجية؟

6 ـ الموادّ التي لن تقبل التعديل في الدستور.

اعتبارا لما عاناه التونسيون من تجارب التلاعب بالدستور وتعديله على المقاس، وبناء على الحاجة إلى تعزيز الثقة بين النخب في توضيح المشتركات والمكاسب الأساسية التي لا تقبل التراجع، نحتاج في الدستور الجديد إلى مادة تنص على المسائل التي لا تقبل التعديل أو تحتاج إلى شروط غير يسيرة لإحداث التعديل. ومن تلك المسائل على سبيل الذكر لا الحصر، ما يتعلق بسلطة الشعب وبالنظام الجمهوري وبعدد ولايات الرئيس وبضمان الحقوق والحريات الأساسية…

نكتفي بهذه المحاور الخمسة الأساسية فيما نراه قضايا شائكة في كتابة  الدستور، دون التعريج على المسائل المتصلة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والثقافية التي قد تُضمن في الدستور الجديد خلافا للدستور السابق، وذلك شحذا للأذهان وإسهاما في تنظيم الحوار في هذه المرحلة الدقيقة من كتابة الدستور. ويبقى الأهم من تجلية تلك المسائل الخلافية والتحاور فيها، هو البحث في آليات التوافق حولها، حتى يكون الدستور بحق دستور كل التونسيين ولفترة تضمن الاستقرار وتكرّس الوحدة الوطنية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مقال منشور بجريدة المغرب (يومية تونسية) بتاريخ 8 أوت 2012 وبجريدة الضمير(يومية تونسية) في 9 أوت 2012.

 

 

 

 

 

 

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: