لم تنته الأزمة السياسية..بل استعرت نارها

 

خلافا لما تمّ الترويج له من انتهاء الأزمة السياسية بالمصادقة على التحوير الوزاري وأداء أعضاء الحكومة الجدد للقسم أمام رئيس الجمهورية، يبدو أنّ نار الأزمة استعرت كما تدلّ على ذلك مؤشرات المشهد السياسي الخطيرة والمتزامة.

فالإضراب العام المنجز في الوظيفة العمومية يوم الخميس 22 نوفمبر الجاري، والمقرّر مجددا ليوم 17 جانفي 2019 المقبل مضافا إليه القطاع العام هذه المرة، والقضية المرفوعة بالمحكمة العسكرية من قبل الأمين العام لحزب نداء تونس ضدّ رئيس الحكومة واتهامه بالعمل على تنفيذ انقلاب على الحكم، ونقل ملفّ الجهاز السري المزعوم  من البرلمان إلى رئاسة الجمهورية وتأكيد اتهام حزب النهضة بتدبير الاغتيالات السياسية، وإقحام رئاسة الجمهورية في الصراع الحزبي وفتح قصر قرطاج لخصوم سياسيين وتمكينهم من منبر رئاسة الجمهورية للتهجم على حزب حركة النهضة واتهامها جزافا، واستقبال شخصيات معروفة بمناهضة الإسلاميين ودعم الثورات المضادة، ومحاولة تعطيل مسار العدالة الانتقالية في الربع ساعة الأخير من أعمالها وشنّ حملة تشويه على المعنيين بجبر الضرر، جميعها مؤشرات على أزمة ثقة حادة بين الفاعلين ورسائل سلبية حول مستقبل الانتقال الديمقراطي.

فبعد الاتفاق على الزيادة في الأجور في القطاع الخاص والمؤسسات العمومية، كان المؤمّل أن يتمّ التفاهم بين اتحاد الشغالين والحكومة حول الزيادة المستحقة في رواتب أعوان الوظيفة العمومية، لكن حلّ موعد الإضراب العام دون بداية تفاوض أصلا حول أيّ مقترح. فالحكومة حريصة على الحدّ من تضخّم كتلة الأجور التي صارت الأعلى في العالم وعائقا أمام الإصلاح، وترغب في صيغ أخرى لتحسين القدرة الشرائية لأعوان الوظيفة العمومية، بما لا يتعارض مع تعهداتها بإصلاح الاقتصاد،  لكن الاتحاد متنمنّع في هذا الصدد ومتمسك بالزيادة في الأجور. وهذا خلاف في الاختيارات، يجعل الاتفاق متعذرا في المستقبل أيضا ويُبقي على فرضية الللجوء إلى الإضراب مجددا، وما في كل مرّة تسلم الجرّة كما يقال.

فالإضراب القادم  المقرّر، يتزامن مع الذكرى الثامنة للثورة وفي أجواء الاحتقان الاجتماعي لشتاء الغضب المعروف. كم لا تخفى خلفيات الإضراب في سياق الازمة السياسية ورغبة الاتحاد في إبعاد يوسف الشاهد من رئاسة الحكومة. وقد صرّح الأمين العام نور الدين الطبوبي أنّ الاتحاد سيكون معنيا بالاستحقاقات الانتخابية القادمة نهاية 2019. ولم يوضّح الصيغة العملية لذلك، والحال أن تشكيل قائمات نقابية، أو دعم مرشح أو مرشحين، مسائل متعذّرة بسبب الاختلاف السياسي والحزبي لمنخرطي المنظمة على أساس مهني.

ويبقى الوجه الأبرز لاستمرار الأزمة السياسية، الصّراع المفتوح بين رئاسة الجمهورية وحزب النداء من جهة ورئاسة الحكومة وحركة النهضة من جهة ثانية. ولم يبالغ المتابعون في وصفه بصراع كسر العظام. إذ ليس أخطر من اتّهام رئيس الحكومة وأعضاده بالتآمر على رئيس الجمهورية ومحاولة عزله، استنادا إلى فصول من الدستور، كما حصل مع بورقيبة على أيدي بن علي وجماعته. وبالتوازي مع ذلك استعمال أجهزة الدولة لترغيب أو ترهيب  بعض النواب للسيطرة الكاملة على حزب نداء تونس وإبعاد حافظ قائد السبسي، أو تكوين كتلة من المنحازين منهم للشاهد، وتغيير موازين القوى داخل مجلس نواب الشعب. ويتم بالتوازي مع ذلك التآمر على حزب النهضة بترشيح زعيمه الغنوشي إلى رئاسة الجمهورية مؤقتا بعد عزل الباجي، واستغلال بعده عن الحزب لإضعافه وتفكيكه.

هذا السيناريو الذي كشفت عنه عريضة محامي سليم الرياحي التي تقدم بموجبها بشكاية لدى المحكمة العسكرية ضد الشاهد والعزابي والمسدي والعكرمي ومدير عام الأمن الرئاسي، وقال أنّ منوّبه يملك الأدلة الكافية على هذه الاتهامات،  تكشف إلى حدّ كبير السلوك “العدواني” والمتوتر للنداء ولرئيس الجمهورية ضدّ الشاهد والنهضة.  فحرب الملفات التي حذّرنا منها من قبل، لن تصنع غير هذه الأجواء من التوتر والتخويف والخبط العشواء من الجمبع ودون استثناء. وفي المثل الشعبي التونسي يقال “إلّي ناوي يتعشى بيك تغدّى به”.

ومن هذا المنطلق أيضا نفهم تقاطع المصالح في استهداف النهضة بين لجنة الدفاع عن الشهيدين بلعيد والبراهمي، ومن ورائها الجبهة الشعبية، وبين رئاسة الجمهورية، التي تثأر لتخلّي الغنوشي عن حليفه الباجي ووقوف النهضة إلى جانب الشاهد لإبقائه على رأس الحكومة رغم رغبة الرئيس في استبداله.

وليس نقل ملف الجهاز السري المزعوم من قبّة البرلمان بعد جلسة الحوار مع وزيري العدل والداخلية، التي لم تحقق أغراضها، إلى قصر قرطاج، سوى مثالا دالاّ في هذا الصدد.إذ تستغل هيئة الدفاع أجواء الخلاف السياسي بين الرئيس والنهضة، لتوظف مؤسسة رئاسة الجمهورية في محاولة التأثير على مسار القضاء أو تشويه حركة النهضة والضغط عليها. وقد استغربت حركة النهضة في بيانها، نشر الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية لتهم باطلة وتهجمات عليها على لسان بعض أعضاء هيئة الدفاع،  في سابقة خطيرة تتعارض مع دور الرئاسة دستوريا. فقد أٌعطي مكروفون رئاسة الجمهورية إلى أعضاء وفد الهيئة الثلاثة لتوجيه التهم لحركة النهضة ورئيسها وبعض قياداتها والتهجم عليها وتمّ نشر ذلك بالموقع الرئاسي. بما أكد التقاطع الحاصل في الهدف الذي أشرنا إليه.

وهكذا نتبين الحرب المعلنة على الشاهد وعلى حركة النهضة في أكثر من عنوان، والتي تجد صداها في جلسات البرلمان، التي تتكثف في هذه المدة بمناسبة مناقشة الميزانية. ولم تزد تعليقات المعنيين وردودهم الأمر إلاّ تشنجا واحتقانا. وليس إثارة الخلاف حول العدالة الانتقالية أو المساواة في الإرث أو سياسة المحاور الخارجية، سوى مداخل  لزرع ألغام في حقل التحالف الحكومي الجديد ومحاولة تفكيكه مبكرا.

ولم تعد مخاوف عموم التونسيين من هذا المشهد وتداعياته مخفية. ونجد في تدوينات النخب المتابعة على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي،  تقاطعات واضحة في التنبيه إلى خطورة الأوضاع والدعوة إلى التعقل، وتغليب المصلحة الوطنية العليا، والتوجس من المستقبل الذي يتجه إلى حرب الكل ضدّ الكلّ. وتُستخدم فيه أدوات غير أخلاقية ويُستدعى فيه الخارج للاستقواء على بني الوطن.

فالصراع العاري عن الحكم الذي لا حظّ للوطن فيه، واستباحة جميع الوسائل لاستهداف الخصوم في سنة انتخابية مميزة، تجعل نيران الأزمة السياسية تستعر وقد تأتي لا قدر الله تعالى على محصول ثمان سنوات من الانتقال الديمقراطي المتعثر الذي جعل من تونس استثناء. كما تجعل من عناوين الصراع تلهية للناس عن قضاياهم الحقيقية ومعاناتهم الأصلية، فلا تزيدهم إلاّ نفورا من الأحزاب والطبقة السياسية. وحين تخرج العملية السياسية من الفاعلين الواضحين من الأحزاب، تدخل مرحلة الغموض التي يكون الفاعلون فيها أطراف مخفية من اللوبيات وأصحاب المال والمتحكمين في وسائل الأعمال، ويكون المشهد أكثر تعقيدا والمخاطر أكثر جدّية.

محمد القوماني

*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 84، تونس في 29 نوفمبر 2018.

https://scontent.ftun7-1.fna.fbcdn.net/v/t1.0-9/46938709_2209596759064096_2365616283820490752_n.jpg?_nc_cat=100&_nc_ht=scontent.ftun7-1.fna&oh=987352ab46508da3d09810bb4f52c252&oe=5CA286E6

 

 

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: