سيناريوهات الفوضى..  لا أحد يستفيد من إدارة التوحّش

 

عشيّة الذكرى الثامنة للثورة، تنتاب التونسيين عموما مشاعر حيرة وخوف غير مسبوقين. وتتحدّث أوساط عديدة عن سيناريوهات اضطرابات وفوضى. وتغذّي مؤشرات مشهد سياسي سريالي بالغ التوتّر والاحتقان مثل هذه التوقّعات.

فالحزب الأول الفائز في الانتخابات الذي قاد الحكم منذ 2014  يتّهم رئيس الحكومة (مرشّحه السابق) بأنّه يقود تدبير انقلاب على الحكم. ورئيس الجمهورية الذي أعلن نهاية التوافق مع الغنوشي يعلن حربا مفتوحة على حركة النهضة. والجبهة الشعبية وأطراف أخرى تستعجل إدانة الحزب الأول في البرلمان في تهمة الجهاز السري المزعوم وتطالب بحلّه. والاحتقان الاجتماعي يبلغ ذروته بتعطيل الامتحانات والدراسة بالمدارس الإعدادية والمعاهد الثانوية، والتهديد بالإضراب العام في الوظيفة العمومية والقطاع العمومي. وتنسيقيات عمال الحضائر تبدأ تحرّكاتها الاحتجاجية المتصاعدة. وصور انتفاضة أصحاب السترات الصفراء بباريس خاصة، وانضمام الشباب إليهم، تتسرب إلى أذهان المحتقنين بتونس، ويتسرب معها تخطيط البعض لاستنساخها بسترات حمراء لإسقاط حكومة الشاهد3. وتكتمل الصورة بالحديث عن ترويج كميات مهولة “من حبوب الهلوسة” في هذه الفترة لاستخدامها في الأعمال التخريبية المبرمجة.

ومع اقتراب لحظة الانفجار في شتاء تونس الساخن تزدحم أسئلة عديدة  منها على سبيل الذكر لا الحصر، ماذا بعد هذه السيتاريوهات إن تحققت كلّيا أو جزئيا؟ أو بالأحرى ما حظوظ تحقّقها؟ وهل تبلغ أهدافها؟ ومن يقف وراءها؟ ومن هي الأطراف المستفيدة منها؟ لكن يظلّ السؤال الأهمّ ما المطلوب لتفادي تداعيات لا تخفى خطورتها لمثل هذه السيناريهات؟

كانت ثمان سنوات كافية لتغيير إيجابي ملحوظ لأوضاع أصعب مما عليه بلادنا ما بعد الثورة. حصل ذلك في تجارب نجاح تدافع عنها إنجازاتها على غرار ماليزيا بقيادة مهاتير محمد وتركيا بقيادة أردوغان. لذلك لم يعد مقنعا أن نطالب التونسيين بمزيد الصبر على أوضاعهم التي تزداد سوءا ونتعلّل بالظرف الانتقالي. حان وقت التشخيص الموضوعي والاعتراف بالأخطاء وتحمّل المسؤولية. نجحت نخبنا السياسية في تجنيب بلادنا سيناريوهات الحرب والاقتتال والتدمير على غرار دول أخرى، وفي ضمان الحريات والسير على طريق القطيعة مع الاستبداد وتعزيز الديمقراطية وهذا ليس قليلا، لكنها فشلت في تحقيق أهداف أخرى للثورة في الكرامة والتوازن بين الجهات وإنصاف المظلومين وتحسين ظروف عيش الناس وتحقيق الاستقرار والأمان وتحصين الوطن بالوحدة الوطنية ومنع الاختراقات الخارجية. وهذه مسائل حيوية لا يمكن السكوت عنها.

من حقّ عموم التونسيين أن يشتكوا من غلاء المعيشة وفقدان موادّ حيوية على غرار الحليب والدواء، وأن يضجروا من تردّي خدمات الصحة والنقل والتعليم، وأن يحتجّوا على عجز الحكومات المتعاقبة على التحكّم في الأسعار أو منع المضاربة والاحتكار أو إيقاف التهريب أو الحدّ من الجريمة أو فرض تطبيق القانونن وأن يضربوا من أجل تحسين أجورهم. ونتفهّم سخط المحكومين  على المسؤولين وتذمّرهم من المعيش وتخوّفهم من المستقبل. ونعذر القائمين على شؤون البلاد في المسؤوليات التنفيذية خاصة، في قلة الإمكانيات وضغط المطالب واستعصاء الناس عن الحكم. لكنّنا في كل الأحوال لا بدّ أن نقرّ بضعف الأداء وغياب أفكار ومقترحات عظيمة في الإنقاذ والإصلاح. فلم تكشف ثمان سنوات خلت عن قيادات أو “زعماء” مميّزين، ولا عن مقترحات أو “أفكار” جذّابة، سواء في الحكم أو في المعارضة. كما لم تتح مناخات التجاذب والمناكفة فرصا لحوار هادئ دون إقصاء، للتوافق على تشخيص عميق وجامع لمشاكلنا، ولا لبلورة مشروع وطني للإصلاح.

في السنة الأخيرة من العهدة الانتخابية، لمرحلة ما بعد “المؤقت” يتعقّد المشهد السياسي، ويتجه إلى سريالية فعلية. فالحزب الفائز في آخر تشريعية، والذي لا يزال يحتفظ برئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس نواب الشعب وتمثيل لافت في الحكومة،  ينقلب بين عشية وضحاها إلى معارض شرس، فيغير قيادته وتحالفاته، ويصعّد من خطابه ضدّ الحكومة والأحزاب المساندة لها، ويصبح متّهما بالاستقواء بالخارج لتخريب العملية السياسية بالداخل وخوض حرب “المعركة الأخيرة”. وقد تتقاطع أجندة حزب النداء  في صراعه المفتوح والمعلن ضدّ الشاهد وكتلته وضدّ النهضة المساندة له، مع أجندات أخرى داخلية وخارجية، ويستثمر الجميع في المزاج الشعبي الغاضب والمناخ الاجتماعي المحتقن، والأوضاع الاقتصادية الصعبة جدا، لإرباك التحالف الحاكم وهزّ الاستقرار السياسي الذي كان السردية الرئيسية في دعم استمرار الشاهد غريم حافظ والمتمرّد على الباجي،  على رأس الحكومة.

قد تصدق التوقعات بانفجار الوضع خلال الأسابيع القادمة، وقد تنفلت الأمور فيحصل ما يفوق المتوقّع، وسيكون الإرهاب حاضرا بالتأكيد في هذه المناخات التي طالما كانت حاضنته الأساسية، وقد تكون الأضرار بليغة في الممتلكات العامة والخاصة لا قدّر الله تعالى، لكن الأكيد أنّ المستثمرين في الإحباط والفوضى لن يبلغوا أهدافهم السياسية على الأغلب. فموازين القوى الحزبية لا تتغير بمثل هذه الفرقعات. والانتخابات لا تكسب بمثل هذه السيناريوهات. ومسار الحريات والديمقراطية المتوهّج، يأبى التوقف بعد إطفاء النيران وانجلاء الدخان. فقد غيّرت ثورة الحرية والكرامة تونس في العمق، وصار سيناريو العودة إلى ما قبل الثورة بالغ الكلفة وصعب التحقّق. وفي كل الأحوال لا أحد يستفيد من سقوط السقف على الجميع، ولا أحد يكسب من ضياع الوطن وإدارة التوحش.

لمّا كان الوطن سفينة يركبها جميع المواطنين والمواطنات المتساوين في الحقوق والواجبات، فإن فكّر البعض في خرقها وسكت البقية، وهم الأغلبية، هلك الجميع. وإن أخذ المصلحون على أيدي المفسدين ومنعوهم من خرق السفينة نجوا جميعا. وحرية كل فرد مكفولة ومتاحة ما لم تمسّ من حريات الآخرين وحياتهم كما تقتضيه قواعد العيش المشترك. لذلك لا ينفع الحياد  والسكوت في مثل هذه الأوضاع وتجاه هذه الخطوب التي تتهددّنا.

مازال أمامنا وقت للمبادرة بتبادل الآراء وبحث صيغ التوسّط لخفض التشنّج والبحث عن حلول وسطى وتحكيم العقل في قضايا الاشتباك لجمع الكلمة ومنع العابثين والمغامرين في أيّ موقع من دفع الأوضاع نحو الأسوأ. ويظلّ دور رئيس الجمهورية، الباجي قائد السبسي،  بحكم موقعه ومسؤوليته، وخبرته وخصاله حيويّا على هذا الصعيد. ونجدّد مع كل ذلك القول بأنّه حان وقت التشخيص الموضوعي والاعتراف بالأخطاء وتحمّل المسؤولية.

محمد القوماني

*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 85، تونس في06 ديسمبر 2018.

 

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: