في انتخابات تونس 2019: انهزم يساريون..وانتصر خطاب يساري
واكبتُ صباح السبت 23 نوفمبر 2019 فعاليات ندوة جمعية “نشاز” بعنوان “اليسار بعد الهزيمة..نهاية جيل؟”. قدّم في العرض ثلاثة شباب من الناشطين في فضاءات يسارية من مواقع مختلفة، وهم سمر التليلي ومحمد سليم بن يوسف ومالك الصغيري ملاحظاتهم واستخلاصاتهم حول مسار اليسار التونسي وموقعه في المشهد السياسي التونسي ومستقبل تيار اليسار، وتفاعل معهم في النقاش عدد من الحاضرين، فكان الحوار ممتعا ومتنوعا. وإثراء لهذا “النشاز” المستحسن في الحوار، وتعميما للفائدة، أروم أن أقاسمكم الملاحظات التالية، بدءا من عنوان الندوة، ومرورا بتعميق النظر في قراءة نتائج انتخابات 2019 ورسائلها في علاقة بموضوع الحوار، وانتهاء إلى تأكيد الحاجة إلى التجديد في المبنى والمعنى في أوساط مختلف العائلات الفكرية والسياسية .
1 ـ كان عنوان الندوة جريئا وجذّبا، ومع ذلك لا أرى “اليسار” بالألف واللام اللذان يفيدان التعميم والإطلاق قد انهزم في الانتخابات التشريعية والرئاسية الأخيرتين. فالأدقّ أنّ “يساريين” بعينهم انهزموا، بعد أن ضيّعوا بوصلتهم ولم يعد لهم من اليسارية إلاّ الإدّعاء أو الحنين الأيديولوجي. ومن قبل قال في أمثالهم الشاعر مظفر النواب في سياق مغاير “يسار ثلثه باللسان.. وثلثاه عند اليمين”. ولو أمعنّا النظر في أهمّ رسائل الناخبين أثناء الحملة الانتخابية أو من خلال نتائج التصويت لاستخلصنا دون عناء أنّ خطابا يساريا قد انتصر. فقد كان التركيز واضحا على أولوية القضايا الاقتصادية والاجتماعية في المرحلة القادمة، وعلى استعادة شعار الكرامة ورمزية لحظة 17 ديسمبر في الثورة التونسية اللذان تمّ تهميشهما في المسار الانتقالي لحساب شعار الحرية ولحظة 14 جانفي. وهذه الانعطافة الاجتماعية المتأكدة، في أولوية محاربة الفقر وتحقيق العدالة الاجتماعية بين الفئات والجهات، التي تخترق خطابات مختلف الأطراف، بما في ذلك الحزبين الأولين النهضة وقلب تونس، إنما تتيح مناخا أفضل لخطاب اجتماعي يساري بامتياز.
2 ـ وفي العنوان أيضا وجب التنويه إلى أنّه من الطبيعي أن ينتهي جيل ويأخذ عنه المشعل في النضال الاجتماعي والسياسي والثقافي جيل جديد. ومن الخطإ أن يصرّ جيل سابق على أخذ أدوار الجيل الذي يليه رغبة في الاستحواذ والوصاية، أو سوء تقدير لمقتضيات الجديد. ولكلّ جيل معجمه ورموزه وأولوياته ووسائله المفضلة. لكن من الخطإ أن نسقط لحظة الجيل الجديد على الجيل السابق فننكر عنه سبقه في زمانه أو لا نعترف له بالفضل في سياقه التاريخي. فالرغبة في التجديد واستحضار متطلبات اللحظة الراهنة، لا يبرّران القسوة على جيل سابق أو مصادرة الماضي لصالح المستقبل. وتضحيات الجيل السابق مهما عظمت، لن تحجب الحاجة إلى فكر جديد وجيل جديد.
3 ـ أكّد متدخلون من المقدّمين والمناقشين، في أكثر من موضع، إخفاق خطابات يسارية في معالجة تبيئة المقولات اليسارية “العالمية” في محيطها الثقافي العربي الإسلامي. فالمشروعية الاجتماعية للخطاب لا تكسبه شرعيته الثقافية بالضرورة. وأحسب أنّ “اليسار الإسلامي” كان في أحد تعبيراته الٍرئيسية محاولة في معالجة الغربة الثقافية للخطاب اليساري الماركسي من جهة، والغربة الاجتماعية للخطاب الإسلامي “الإخواني” من جهة أخرى، حين دعا رواده ورموزه إلى التصدّي للقضايا المحسوبة والمحتكرة أحيانا من اليسار، على غرار قضايا الاقتصاد والعدالة الاجتماعية وحقوق العمال ومناهضة الاستغلال والامريالية وغيرها، بمعجم ومضامين تنهل من الثقافة الوطنية العربية الإسلامية. ولعلّ من أسباب تعثّر هذه المحاولة عدم تفهّمها من مختلف الأطراف التي توجهت إليها بالنقد والحوار. وقد اختزل المفكر العربي حسن حنفي عمق المأزق حين أجاب عن سؤال صحفي حول أسباب انحسار خطاب اليسار الإسلامي بما مفاده “أنّ اليسار الإسلامي إخواني في نظر الشيوعيين، ويساري في نظر الإخوان، ويساري إخواني في نظر الحكام”.
4 ـ قد يسعفاننا مصطلحا “الصلب” و”السائل” لعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (1925 – 2017) وكتاباته الغزيرة والعميقة التي طالت “الحياة، والحب، والأخلاق، والأزمنة، والخوف، والمراقبة، والشر”، في رصد مجموعة من المؤشّرات على تحوّلات نوعية تشهدها بلادنا. وتعود بعض تلك التحوّلات إلى عوامل موضوعية تتّصل بعالم “ما بعد الحداثة”، كما تعود أخرى إلى ما يشهده المجتمع التونسي خلال السنوات الثمانية الأخيرة خاصة، ضمن جدلية “الدولة الصلبة” كناية عمّا يكتسيه ما كان قائما من عمق وتكلّس واستعصاء عن التغيير، و”الثورة السائلة”، كناية عمّا يعتمل في المجتمع من جديد لم يتخلّق بعد، وما يعتريه من إرادويّة وغموض وتردّد.
فنسبة التشاؤم العالية جدّا في صفوف الشباب خاصة، و”غربتهم” عن “الدولة الصلبة” التي تعكسها أغاني “الرّاب” المنتشرة بينهم، ومشاعر النقمة لديهم على وضع لا يملكون فيه ما يخافون على خسارته، وإقبالهم اللافت على “الحرقة” والمغامرة بحياتهم في البحر، أو حرق أجسادهم للتعبير عن اليأس أو محاولة إشعال نار الثورة مجددا، وغيرها من المؤشرات رسائل دالّة عن تصادم مفاهيم “الدولة الصلبة” مع الأفكار والاتجاهات “السائلة” بين شباب جيل جديد لا يرى أنّ ثورة الحرية والكرامة قد أنصفته.
وإنّ الهواتف الذكيّة الشخصية الموصولة على مدار الساعة بشبكة الأنترنيت، التي تضاعفت وانتشرت بعد الثورة وتحرّرت من قيود الاستبداد والحظر، خلقت للأفراد من الشباب أساسا، عوالمهم الخاصة بكل منهم، فصاروا خارج مجال تأثير الإعلام الموجّه. بل منحت الثورة الرقمية للأفراد، في وقت قياسي دون تمييز جنسي أو غيره، حريات ومجالات للفعل والاستقلالية تفوق حلم كل المصلحين الاجتماعيين وتستعصي على صرامة كل سلط الرقابة الدينية والمدنية. ولم يعد الواقع الاجتماعي والاقتصادي ينتظر إذنا من أحد لكي يُخرج من أحشائه شيطانا أو ملاكا. وصارت العلاقات سائلة في جميع الاتجاهات وبات سلطان الدولة الصلبة محدودا جدّا.
وقد كان انحياز الشباب خاصة إلى المرشح قيس سعيد، الذي يعدهم بتغيير جذري ل”نمط الحكم” وإرجاع السلطة إلى الشعب، رسالة واضحة في رفض “النمط” في الحكم والمعارضة، وتمرّد المجتمع المهمّش وغير المهيكل على مجتمع الحكم المنظم. وقدأسقطت ثورة الصندوق في رئاسية 2019 مرشّحي الأحزاب في الحكم أو في المعارضة، ومرشّحي اللوبيات المالية والجهوية وبعض المنابر الإعلامية الكبرى أيضا. ويستمرّ مفعول هذه الثورة بعد الانتخابات.
وتلك أمثلة في محاولة تفكيك وتحليل وفهم وتفهّم ما يحصل ببلادنا، عسانا ندوّر زوايا النظر في التعاطي مع التحديات التي تواجهنا، لتجتمع القدرة مع السياسة على رأي باومان. فالمراجعات الجذرية والجريئة والحاجة إلى جيل جديد، لا تتوقّف على تيار اليسار في تونس، بل تمتدّ لتشمل مختلف الأيديولوجيات والسرديات السائدة ببلادنا. وقديما قالوا “فهم المشكل فرع من حلّه”.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 134، تونس في 28 نوفمبر 2019